الإعراض والضلال

الإعراض والضلال

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أسباب الانحرافات التي حصلت للأمم السابقة، فجعلتهم يضلون السبيل، ويعرضون عن الهدي الذي جاءهم به أنبياءهم، مع قبولهم له، وإيمانهم به، وتعظيمهم لأنبيائهم، وذكرت لي أن غرضك من ذلك هو حماية نفسك من أن تكون من الذين تحققت فيهم تلك الصفات من غير أن يشعروا.

وقد طلبت مني كعادتك أن أذكر لك ذلك من خلال المصادر المقدسة، لا من خلال الآراء والاجتهادات التي قد تصيب أو تخطئ.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أنك قصدت برسالتك مثلبين خطيرين من مثالب النفس الأمارة، يجرانها إن أدمنت عليهما إلى تشكيل دين خاص بها، تنحرف به عن دين الله تعالى، وتضل به سواء السبيل.

وهذان المثلبان، هما الإعراض والضلال، وقد جرى وصفهما في القرآن الكريم، وبيان أنهما السببان في الانحراف الذي يحصل للإنسان، سواء ذلك الذي آمن برسوله، أو ذلك الذي جحده.. فالشيطان لا ييأس من كليهما.. ذلك أنه يدعو الأول إلى مضاهاة رسوله بنفسه، وتقديمه اجتهاده ورأيه عليه، ويدعو الثاني إلى الجحود والإعراض الكلي.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الأول، وهو الإعراض، واعتبره من صفات الإنسان السلبية، فقال: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ [الإسراء: 83]

وذكر مثلا له على ذلك بقوم سبأ، فقال:﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: 15، 16]

واعتبر أعظم ضلالة يقع فيها الإنسان الإعراض عن هدي ربه، وكلماته المقدسة، وتعاليمه السامية، فقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت: 3، 4]

وبين عظم عقوبة من يعرض عن هدي ربه في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ [طه: 99، 100]، وقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]

وأما الضلال؛ فهو أب للإعراض وابن له.. أما كونه أبا له، فلأن المعرض عن الله ورسوله وكتابه لا يفعل ذلك إلا بعد أن تختلط في عقله الموازين؛ فلا يميز بين الحق والباطل، وبين ما يضره وما ينفعه.. وذلك ما يجعله يعرض عن الحق، ويتوهم أنه في إعراضه على حق.

وأما كونه ابنا له؛ فلأن الضلال ينتج المزيد من الإعراض، بل يحول الإعراض أصلا، ذلك أن من ضل بانحرافه عن السراط المستقيم لن تزيده كثرة الخطى إلا ضلالة وبعدا.

ولهذا وصف الله تعالى من أدمنوا على الإعراض وبالغوا فيه، ووصلوا به إلى أماكن بعيدة بكونهم ضلوا ضلالا بعيدا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 167]

وأخبر عن مشابهتهم للمعرضين في الإعراض عن الكتاب، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60]

بل وصفهم بالإعراض نفسه، والذي عبر عنه تعالى بالصد عما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 61]

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأورده لك من صيدلية القرآن الكريم من أدوية تحميك من هذين المثلبين الخطيرين.

 الإعراض وعلاجه:

إن أردت أن تعرف ـ أيها المريد الصادق ـ حقيقة الإعراض وتجلياته وخطره، فتوهم نفسك أمام طبيب حاذق خبير، يوصيك بدواء يفيدك في علاج دائك المستعصي، ويخبرك أنه دواء مجرب، ومعترف به في كل المحافل العالمية، وأنه لا آثار جانبية له، بل إن له آثارا إيجابية تفوق علاجه للمرض الذي يريد أن يداويك به.

لكن شخصا بجانبه لا يملك شهادة طبية، ولا خبرة عملية، يدعوك إلى الإعراض عن الطبيب، ويصف لك بدل وصفته دواء يذكر لك أنه الأفضل، وأنه جربه، وأن جدواه لا شك فيها.

لا شك أنك ستميل إلى الطبيب، وتبتعد عن الدجال والمشعوذ، فهذا ما يدعوك إليه عقلك بادئ الرأي، بل قد تستغرب طرح مثل هذا الخيار عليك..

لكن واقع البشر، وما حصل لهم طيلة تاريخهم الطويل كان على عكس ذلك الخيار؛ فأكثرهم أعرض عن الطبيب، واتبع الدجال، كما قال تعالى: ﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت: 4]

إذا عرفت هذا؛ فاعلم أن الطبيب المشار إليه في هذا المثل يتجلى في أربعة مظاهر: الألوهية والكتاب والنبوة والإمامة.

أما الإعراض عن الله؛ فلا يتجلى في تكذيبه أو جحوده فقط، كما فعل الملاحدة والمشركون والمنحرفون، بل يتجلى في كل شيء..

وأول تجلياته نسيانه والغفلة عنه وعدم ذكره وشكره، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 67]، وقال: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: 51]

وقد ذكر الله تعالى مثالا على ذلك بأولئك الذين ينشغلون بذكر أمجادهم وآبائهم عن ذكر ربهم، وينشغلون بالدنيا عن الآخرة، فقال:﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 200]

وهكذا، فإن كل غافل عن الله معرض عنه، وهو بذلك أكثر استعدادا لتقبل وساوس الشياطين، ذلك أن جهاز الاستقبال في الإنسان لا يتوقف أبدا، فهو إن لم يستقبل الفيوضات الإلهية، سيستقبل لا محالة الوساوس الشيطانية.

ولهذا قد تصل الغفلة بالإنسان إلى الحد الذي يستحوذ عليه الشيطان، فينسيه ذكر الله، قال تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19]

وحين ينسى الله ينسى نفسه وحقيقته ووظائفه وغاية وجوده، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]

بل قد يصل به الأمر إلى النفاق الذي يجعله ينطق باسم الله بلسانه، ولا يضع له أي محل في حياته، لغفلته التامة عنه، قال تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67]

ولذلك، فإن الإقبال على الله هو العلاج الذي يحمي من الإعراض عنه، وهو يستدعي ذكره دائما في أي شأن من شؤون الدنيا والآخرة؛ فإن نزلت به نعمة لم يقبل عليها، وينسى ربه، بل يكون الله أول مذكور له، فيحمده عليها، ويثني على فضله، ويعلم أنها منه، ولذلك لا تضره، ولا تطغيه، مثلما فعلت مع قارون الذي توهم أن ما لديه من مال منه، وليس من الله، فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]

ولذلك أمر الله بالفرح بفضل الله، لأنه وحده المنجي من الطغيان والبطر والعجب والكبر وكل المثالب، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]

وهكذا إن عرض عليه أي عارض استفسر عن حكم الله فيه، ولم يقدم هواه، لأن طاعة الله أهم عنده من طاعة نفسه أو أي أحد آخر، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]

وهكذا، إن وقع في خطأ أو خطيئة، يذكر الله، ويسرع بالعودة إليه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]

وهكذا إن عرض عليه أي عدو، أو أراد مواجهة أي مشكلة، فإن أول ما يذكره ربه، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، وقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ [الشعراء: 227]

وأخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف واجه ما عرض له من بحث قومه عنه، وتربصهم به، فقال: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن من أعظم مظاهر الإعراض عن الله الإعراض عن رسوله، ذلك أن الرسول لا يمثل نفسه، وإنما يمثل المرسل الذي أرسله.. ولذلك كان الإعراض عنه إعراضا عن المرسل.

وأول مظاهر ذلك الإعراض الإساءة إليه وإذيته وعدم توقيره وتعظيمه وتكريمه، كما يفعل أولئك الغافلون الذين يتوهمون أن توقير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه شرك وضلالة، وهم لا يعلمون أنه عين التوحيد.

ولو أنهم رجعوا إلى علمائهم الذين يثقون فيهم لوجدوا أنهم يخالفونهم في ذلك، فقد روي أن المنصور العباسي سأل الإمام مالك: (أستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟، فقال مالك: (ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]) ([1])

وروي أنه أنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما، فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون ([سورة الحجرات:2]، ومدح قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ([الحجرات: 3]، وذم قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ([الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا) ([2])

ومن الإعراض عنه قبول تلك الصور المشوهة التي دسها أعداؤه عليه، حيث وصفوه بالكثير من الأوصاف التي يجل عنها، ولا تتناسب مع القيم التي جاء بها.. فلذلك كان تقديم تلك الروايات المدلسة عليه إعراضا عنه، وإقبالا على أولئك الذين رووها.

فلذلك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسمع لأولئك الذين يصفون رسول الله أو غيره من الرسل بما لا يليق بهم، وهم يوهمونك أنهم يفعلون ذلك استنادا لما في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرها من كتب الحديث في المدرسة السنية.. أو كتاب الكافي في الأصول والفروع للكليني، أو تهذيب الأحكام والاستبصار للطوسي، أو من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.. وغيرها من كتب الحديث في المدرسة الشيعية.. أو مسند الربيع بن حبيب في المدرسة الإباضية.. أو غيرها من المصادر.

فكلها محترمة، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم حرمة منها، فكل حديث لا يتناسب مع جلاله وجماله وفضله ومكانته فاعلم أنه مكذوب عليه، وعليك بالإعراض عنه، حتى لا تتشوه صورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قلبك ونفسك، ويكون في ذلك هلاكك في الدنيا والآخرة.

ولا تخف أن تسأل عن ذلك يوم القيامة، فالله أعلم بعذرك.. فأنت فلم ترفض من رفضت منهم لذاتهم، وإنما لأن رسولك أعظم منهم..

فاحذر أن يشوهه لك أحد من الخلق مهما كان.. ومن فعل ذلك فأعرض عنه، فأنت مطالب باتباع رسولك، لا باتباعه، وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]

وهكذا لا تقدم على رسولك صلى الله عليه وآله وسلم اجتهادا ولا قياسا ولا مصلحة ولا أي ذريعة من الذرائع.. فرسولك لا ينطق عن الهوى، وكل ما جاء به من الله.. فإياك أن يصيبك أي حرج منه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الله تعالى حصن دينك بكتابه المقدس المعصوم المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلذلك احرص عليه، واعتبره الحكم عند كل خلاف.

وإياك أن تقحم الهوى في فهمك له، أو تعاملك مع آياته، كما فعلت الأمم من قبلنا، فضلوا ضلال بعيدا، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]، وقال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 101]

ومما ورد في تفسير هذه الآيات قول الإمام الجواد: (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية) ([3])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تعرض عن الثقل الثاني الذي أوصاك به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أئمة الهدى الذين يرثونه خير وراثة، ويخلفونه خير خلافة، فقد أوصى بهم، فقال: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ([4])

ولم يكتف بذلك الإجمال، وإنما راح يفصل في التعريف بهم، فقال: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، الثقلين وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) ([5])

وفي رواية: (أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)([6])

 الضلال وعلاجه:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الضلال الذي وقعت فيه هذه الأمة، مثلما وقع فيه غيرها من الأمم، إعراضها عن وصايا أنبيائها، وإدخالها الأهواء في تلك الوصايا..

ولذلك تحول الدين من دين الله إلى دين البشر، ومن القيم السامية إلى القيم المنحرفة.. ومن الحقائق الممتلئة بالعقلانية إلى الخرافة والأسطورة.

ولهذا فإن الضلال الذي حذر الله تعالى منه، وأخبر عن وقوعه في الأمم المختلفة أربعة أنواع.. أولها ضلال مرتبط بالحقائق العقدية.. وهو أخطر أنواع الضلال، ذلك أن العقائد تشكل الأساس الذي تبنى عليه حياة الإنسان، وبقدر التوهمات، والانحرافات في هذا الجانب، بقدر ما يكون الانحراف في القيم السلوكية.. بالإضافة إلى ذلك، فإن من مقاصد الخلق التعريف بالله، ولذلك كان الوقوع في هذا النوع من الضلال مصادمة للغاية الكبرى من الخلق.

وقد أشار الله تعالى إلى عظم هذا النوع من الضلال وخطره، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]، وقال:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 167]

وثانيها، ضلال مرتبط بالقيم السلوكية، وهو الضلال الناتج من غلبة النفس والهوى على الإنسان، وهو أيضا تختلف درجته بحسب آثاره على النفس؛ فإن طغا عليها، وتجوهرت بجوهره، كان الضلال بعيدا، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: 60، 61]

وثالثها، الضلال المرتبط بتأويل الكتاب، وتحكيم المتشابه على المحكم، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]

ورابعها، الضلال المرتبط بأئمة الهدى، ومبلغي الدين، ذلك أنهم ورثة الكتاب والنبوة، وهم أولى من يعرف بالدين وقيمه، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: 32]

والذي يعرض عنهم يشبه ذلك الذي يعرض عن الطبيب، ويذهب إلى الدجال والكاذب والمنحرف ليستشيره، ويأخذ برأيه.

وهذا ما وقع في هذه الأمة حين تركت هداتها، وراحت إلى اليهود، وتلاميذ اليهود تطلب منهم تفسير القرآن الكريم، وشرح العقيدة، واستنباط الأحكام الشرعية؛ فأدخلوا في الدين ما ليس منه.

فلذلك، احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون ابنا لقومك، أو تابعا لأي جهة من الجهات، بل عليك بالبحث عن الحق وأهله، ولا تهمك مواقف الناس منهم، فقد أخبر الله تعالى عن الضالين الذين كانوا يرمون غيرهم بالضلالة في الدنيا، من غير أن يلتفتوا لأنفسهم، فقال واصفا دهشتهم يوم القيامة عند معاينة جهنم وأهلها: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ [ص: 62، 63]

وقال في مشهد آخر: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: 48، 49]

وأخبر عن ضلالهم الشديد مع تعظيمهم لأنفسهم، وإعجابهم بها، فقال: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103، 104]

ووصفهم بأنه: ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [المجادلة: 18]، وأنهم لذلك بمنزلة رائي السّراب الّذي: ﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39]

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لإنقاذ نفسك من الإعراض والضلال، ولا تلتفت لأحد يصرفك عنه، حتى لا تعض أصابعك من الندم يوم القيامة، وأنت تقول: ﴿ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 27 – 29]


([1])شفاء السقام / السبكي: 69

([2]) شفاء السقام / السبكي: 69

([3]) الكافي: 8/ 53.

([4]) رواه أبو داود (5/ 5/ 13/ رقم 4607)، والترمذي (16/ 2676) وابن ماجه (6/ 42 و 43 و 44)

([5]) رواه أبو داود.

([6]) رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *