مقدمة الكتاب

هذه السلسلة

تحاول هذه السلسلة المعنونة بـ [رسائل التزكية والترقية] بأجزائها الخمسة، ورسائلها المائتين، التعريف بالطريق إلى تزكية النفس وترقيتها ابتداء من مرحلتها الأولى: النفس الأمارة، وانتهاء بالمرحلة الأخيرة: النفس المرضية.

وهي تحاول أن تعتمد في ذلك، وبالدرجة الأولى على المصادر المقدسة من الكتاب والسنة المطهرة، بالإضافة إلى ما ذكره أئمة الهدى وورثة النبوة، أو ما انبنى على تلك التوجيهات المقدسة من تجارب وحكم ذكرها العلماء والحكماء من هذه الأمة وغيرها، فالحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها، فهو أحق بها.

وهي تبتعد عن كل ذلك الدخن الذي أصاب الكتب التي ألفت في هذه الجوانب، بسبب اعتمادها على مصادر نهينا عن الاعتماد عليها، ولذلك أصبح العلم المرتبط بها، والذي يطلق عليه [التصوف] أو [العرفان] بشقيه النظري والعملي، محلا للكثير من الأطروحات التي لقيت الجدل الكبير، وتسببت بذلك في الابتعاد عن هذا العلم الجليل، حذرا من الدخن الذي وقع فيه.

ولذلك؛ فإن هذه السلسلة تحاول تجنب كل ذلك، وطرح القضايا المتعلقة بالتزكية والترقية من خلال المصادر الأصلية المعتمدة، بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية، الشرقية والغربية.

بالإضافة إلى ذلك تحاول إقناع السالكين بضرورة التزكية في جوانبها المختلفة، باعتماد كل أنواع الاستمالات العقلية والعاطفية وغيرها، لأن الهدف من علم التزكية ليس حفظ مصطلحاته، ولا الغوص في تفاصيله وفروعه، وإنما هو وسيلة لتطهير النفس والعروج بها في معارج الكمال المتاحة لها.

وسبب تسميتنا لها بهذا الاسم [رسائل التزكية والترقية]، يعود إلى أنها عبارة عن رسائل يرسلها شيخ مرشد مرب إلى مريده الطالب للتزكية، يجيبه فيها على أسئلته وإشكالاته، ويوضح له كيفية تزكية نفسه من كل الآفات التي يتعرض لها، بالإضافة إلى تعريفه بمراتب الترقي التخلقي والتحققي.

وبناء على كون النفس هي المجال الذي ترتبط به التزكية والترقية كما قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7 – 10]؛ فقد كانت عناوين هذه السلسلة جميعا مرتبطة بالنفوس، كما ذكرها القرآن الكريم.

وقد رأينا أنه ذكر خمس مراتب للنفوس، ولكل نفس حالتها ومراتبها الخاصة، وهذه النفوس هي:

1. النفس الأمارة: وهي من خلال اسمها تدل على المرحلة التي تكون فيها النفس خبيثة ممتلئة بالأهواء، مستعدة بدرجة كبيرة لتلقي الوساوس الشيطانية؛ فلذلك لا تأمر إلا بالشر.. وقد أشار الله تعالى إلى هذه النفس في قوله: ﴿إِن النفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53]

لكن هذا لا يعني عدم إمكانية تطهيرها وتزكيتها وترقيتها من تلك الحالة إلى حالة أخرى أكثر طهرا.. بل إن ذلك ممكن، والقرآن الكريم أشار إليه عند ذكره لتحول السحرة وغيرهم إلى الإيمان.. ولولا ذلك لما كان هناك حاجة لعلم الأخلاق وغيره من العلوم المرتبطة بسياسة النفس وتهذيبها.

وقد خصصنا الحديث على هذه النفس بالجزء الأول من هذه السلسلة، والمعنون بـ [مثالب النفس الأمارة]، وقد أوردنا فيه المثالب والعيوب والنقائص التي تسببت في تحول النفس من فطرتها الأصيلة إلى حالة النفس الأمارة المستعدة استعدادا كبيرا للشر.

ولم نكتف بإيراد ذلك، وإنما ذكرنا كيفية تطهير تلك المثالب، وعلاجها، وتصحيح ما تقع فيه النفس من أخطاء، حتى ترتقي إلى درجة أعلى في عالم النفوس.

2. النفس اللوامة: وقد ذكرها القرآن الكريم، وأثنى عليها في قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، والمراد منها تلك النفس الممتلئة بالورع والتقوى، والتي تلوم صاحبها على كل التصرفات التي تحول بينه وبين الكمال.

وقد خصصنا الحديث على هذه النفس بالجزء الثاني من هذه السلسلة، والمعنون بـ [مدارس النفس اللوامة]، وقد أوردنا فيه المناهج والرؤى المختلفة في كيفية التزكية والترقية، مما ذكرته المصادر المقدسة، أو ما بني عليها، أو على أصولها.

3. النفس المطمئنة: وقد ذكرها القرآن الكريم، وأثنى عليها في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النفْسُ الْمُطْمَئِنةُ﴾ [الفجر: 27]، والمراد منها تلك النفس التي وصلت إلى حالة اليقين والطمأنينة والصلاح؛ فصار صاحبها مرتاحا من شغبها وجدلها ولومها وأمرها له بالسوء، ولذلك كانت مطمئنة لينة سهلة مسالمة.

وبما أن النفس في هذه المرحلة تصبح محلا للتحقق الخلقي، فقد ذكرنا في الجزء الخاص بها، وهو الجزء الثالث المعنون بـ [منازل النفس المطمئنة] تلك المراتب والمنازل التي تمر بها، والتي تجعلها أهلا لرضوان الله تعالى، لتحققها بكل متطلبات كمالها الممكنة.

4. النفس الراضية: وهي التي أشار إليها القرآن الكريم من غير تصريح عند ذكره للنفس المطمئنة، فقد قال بعدها: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً﴾ [الفجر: 28]، أي أن من مواهب الله للنفس المطمئنة، أو من علامات اكتمالها، ونهاية سيرها حصولها على الرضا..

وبما أن الرضا مرتبط بالمعارف، فقد بحثنا في الجزء الخاص بهذه النفس تلك المعارف التي تملأ النفس بالرضا، وهي معارف مرتبطة بحقائق الوجود الكبرى، وقد أطلقنا على هذا الجزء اسم [معارف النفس الراضية]، وقصدنا من ذلك المعارف الذوقية التي هي ثمار للسلوك التخلقي.. فالتحقق العرفاني ثمرة للسلوك الأخلاقي.

وقد حاولنا في هذا الجزء خصوصا تبسيط تلك المعارف، واستعمال كل وسائل الإقناع المرتبط بها، وابتعدنا في نفس الوقت عن كل تلك المصطلحات والمفاهيم الدخيلة على ما يطلق عليه [العرفان النظري] أو [التصوف الفلسفي]

ولذلك كان هذا الجزء خاصا بهذا النوع من العرفان، ولكن في صورته القرآنية النبوية بعيدا عن الغنوصيات والآثار الأجنبية.

5. النفس المرضية: وهي التي أشار إليها القرآن الكريم من غير تصريح عند ذكره للنفس المطمئنة، فقد ذكر لتلك النفس مرتبتين أو صفتين: الراضية.. والمرضية، فقال: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: 28]، ثم عقب عليها بقوله: ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنتِي (30)﴾ [الفجر: 29، 30]

وقد فهمنا من خلال هذا الوصف، والتعقيب الذي عقب به على أن النفس المرضية هي النفس التي أصبحت محلا لتنزل الكرامات والفضل الإلهي في الدنيا والآخرة..

ولذلك خصصنا هذا الجزء المعنون بـ [مواهب النفس المرضية] بما وفره الله تعالى من فضل للصالحين الذين جاهدوا نفوسهم في ذات الله إلى أن استقامت لهم، وصلحت، وصارت محلا لكل أنواع الكرامة والمواهب.. وقد اعتبرنا هذا من باب الحوافز على السير والسلوك.

هذه هي أجزاء السلسلة الخمسة، وقد وضعنا في كل جزء منها أربعين رسالة، يمكن قراءة كل واحدة منها منفصلة، والاستفادة منها، من دون حاجة لغيرها.

وقد اعتمدنا على ذلك لتيسير تعلم المسائل المرتبطة بكل فرع من تلك الفروع، لأن كثرة التفريعات ـ في حال جعلها فصولا محدودة ـ تؤدي إلى الانشغال بها عن المطلوب منها.

وقد حاولنا في هذه الرسائل المزج بين الجانب النظري والعملي.. ذلك أن التزكية تحتاج إلى كليهما، فالمعرفة لها دور كبير في تأكيد الحقائق وتعميقها، حتى تذعن النفس لها وتقوم بالمتطلبات العملية المرتبطة بها.

المقدمة

يحاول هذا الكتاب التعريف بالعيوب والمثالب المشكلة للنفس الأمارة، ومنابعها التي تنبع منها، والثمار التي تثمرها، مع بيان كيفية التخلص منها إما باستعمال الأدوية المعرفية، أو أنواع الممارسات العملية.

وقد حاولنا أن نصيغ فيه كل ما ذكر في كتب الأخلاق والتصوف والسلوك من معارف مرتبطة بهذه الجوانب، مع الابتعاد عن كل ما لا علاقة بها، أو ما نرى أنه من الدخن الذي أصاب هذه العلوم، مثل غيرها من العلوم.

ولذلك كان اعتمادنا في التعرف على مظاهر تلك المثالب ومنابعها وكيفية علاجها على المصادر المقدسة بالدرجة الأولى، باعتبارها المصدر الأول للتزكية، سواء من ناحية التعريف بها، أو بيان منابعها وثمارها، أو بيان كيفية علاجها والتخلص منها.

ولضرورة التبسيط والتوضيح، جعلناه على شكل رسائل يرسلها شيخ مرشد مرب إلى مريده الذي يطلب منه أن يعرفه بالمثالب المشكلة للنفس الأمارة، وكيفية التخلص منها، مع سؤاله عن بعض أسرار النصوص المقدسة المرتبطة بها.

وقد أرسل له في هذا الكتاب أربعين رسالة تشمل جميع الجوانب المرتبطة بالنفس الأمارة، وتشرح له كل ما يتعلق بها من معارف يحتاجها لذلك.

وبما أن غرض الكتاب ورسائله تربوي بالدرجة الأولى؛ فإنا ابتعدنا كل البعد عن الأساليب الأكاديمية الجافة من التعريفات ومناقشة المفاهيم والمصطلحات وغيرها، حتى لا ينشغل القارئ بتلك الجوانب على الهدف المقصود من الكتاب، وهو تربية النفس وتهذيبها.

ولذلك حاولنا ـ في حال الخلاف في بعض المفاهيم ـ أن نتجاوز ذلك، وأن نذكر مباشرة ما ترجح لدنيا منه، وقد نشير إلى غيره مجرد إشارة لا تشغل القارئ عن الهدف الذي يهدف إليه.

ومن الأمثلة على ذلك أن أكثر كتب السلوك والتربية تتحدث عن الفوارق بين تلك المثالب، كذكر الفرق بين العجب والغرور، أو العجب والكبر ونحوها، وقد يختلفون في ذلك اختلافا شديدا، وكل ذلك لا يعني القارئ.. ولذلك ذكرنا الفكرة التي نريدها مباشرة، لأن الهدف ليس التحقيق العلمي، وإنما الدعوة إلى السلوك والتهذيب والتربية، وهي لا تهتم بالمصطلحات بقدر ما تهتم بالحقائق.

لذلك حاولنا أن نضع في الكتاب أكبر قدر من النصوص المقدسة المرتبطة بالترغيب والترهيب من تلك المثالب، مع الدعوة للتأمل فيها، ومخاطبة العقل بأنواع الأمثلة التي ترغبه في المحاسن، وترهبه من المساوئ.

وقد اعتمدنا في تلك النصوص بالإضافة للقرآن الكريم ما ورد في السنة المطهرة من المصادر المعتمدة لدى المدارس الإسلامية، على المنهج الذي نعتمده فيها، وهو الاهتمام بمتن الحديث؛ فإن كان متوافقا مع القرآن الكريم، وأصول الدين، والفطرة السليمة؛ فإننا نقبله، ونثبته بغض النظر عن رواته، مع ملاحظة أننا نهذب ـ أحيانا ـ تلك النصوص بحذف ما نراه مدرجا فيها، أو متعارضا مع القرآن الكريم والقيم النبوية والفطرة السليمة.

ومثل ذلك اعتمدنا على ما ورد من الروايات عن أئمة الهدى وورثة النبوة، باعتبارهم أساتذة التزكية، وروادها، مع التنبيه إلا أننا ـ ولغاية الاختصار ـ لم نذكر كل ما ورد عنهم من روايات في تلك الجوانب، لأننا أفردنا الحديث عنهم فيها في سلسلة [أئمة وقيم]

وننبه في الأخير إلى أن أننا لم نرتب الخصال الواردة في الكتاب بأي نوع من أنواع الترتيب، ولم نجعل لأي منها علاقة بالأخرى، وذلك لغرض التبسيط، فكل رسالة يمكن قراءتها منفصلة، لأنها بمثابة الأدوية التي قد يحتاج البعض إلى بعضها، ويستغني عن الباقي.

لكن مع ذلك ننبه إلى أن هذه الخصال جميعا يؤثر بعضها في بعض، ولا يمكن فهم التزكية، ولا سلوك سبيلها دون التعرف عليها جميعا، ذلك أن بعضها ينبع من بعض، وبعضها يؤدي إلى بعض.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *