التحريف والابتداع

التحريف والابتداع

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أسرار ذلك الدخن الذي آلت إليه عقائد المسلمين وقيمهم؛ فانحرفت بهم عن سواء السبيل، على الرغم من حفظ الله تعالى لكتابهم، وكونهم يقرؤونه غضا طريا كما أنزل.. بل إنهم يتنافسون في إقامة حروفه، وحفظ ألفاظه بما لم تبلغه الأمم الأخرى.. لكنهم مقصرون كثيرا في إقامة معانيه، وتحقيقها في أنفسهم ومجتمعاتهم.. والأدهى من ذلك اختراعهم لقيم جديدة تخالف القيم التي دعاهم إليها ربهم ونبيهم.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن كل ما ذكرته يعود إلى مثلبين خطيرين، يبدآن بعالم النفس الأمارة، وينتهيان بما ذكرت من مظاهر.. وهما [التحريف والابتداع]

وكلاهما مما أخبر الشيطان عن دوره في الدعوة إليهما، كما قال تعالى حكاية لقول الشيطان: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ (النساء: 118 ـ 119)

فالشيطان في هاتين الآيتين يتوعد بتغيير الفطرة الأصلية التي فطر عليها البشر، وتحريفها، وتحويلها عن مسارها الذي رسمه الله لها، حتى تبتدع لنفسها نظاما خاصا يخالف النظام الإلهي.

وهو لا يقصد بذلك تغيير الخلقة الجسدية فقط، وإنما يقصد تغيير الإنسان بجوانبه جميعا، كما أشار إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (قال اللّه عزّ وجلَّ: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) ([1])

وبذلك، فإن التحريف والتغيير مقدمة للابتداع.. ذلك أن الشيطان قبل أن يحض الإنسان على أن يحدث شيئا يحرف له المعاني والقيم والمفاهيم والحقائق؛ فإذا ما تغيرت لم يبال حينها الاختراعات التي سيخترعها لنفسه، والبدع التي يبتدعها لها.

وكمثال على ذلك ما فعله الشيطان من الدعوة للرهبنة التي أخبر القرآن الكريم عن بدعيتها؛ فقال: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 27]

فالآية الكريمة تشير إلى أن أصل الرهبانية كان موجودا وصحيحا، وهو التبتل إلى الله بالعبادة، والحرص على التقوى، لكن الشيطان انحرف بهذا المفهوم، وراح يصور للرهبان بأن الغرض هو الانقطاع الكلي عن الخلق، وممارسة القسوة الشديدة على النفس، فلما اقتنعوا بذلك، أخرجهم من ديارهم وأهليهم، وحولهم عن الفطرة التي فطروا عليها.. وفيهم كما يذكر القرآن الكريم وكما يدل عليه التاريخ من تحول إلى الفسق والفجور، بعد أن عجز عن إقامة ما ألزم نفسه به.

وهكذا أخبر الله عن التحريف الذي حرف به الشيطان دين من يزعمون لأنفسهم اتباع إبراهيم عليه السلام، وذلك بإيهامهم أن الأصنام تقربهم من الله، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، ثم راح بعد ذلك يملي عليهم ما شاء من البدع والضلالات.

وهكذا في كل شيء يتدخل الشيطان ليحرف الحقائق والقيم، لأنه، وإن عجز عن مواجهة النبوة، أو تحريف كلمات الله إلا أنه لم يعجز عن الوسوسة للمنتسبين إليها، وتحريف حقيقة الدين في أعينهم، لينحرف بذلك سلوكهم وحياتهم.

وكمثال على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ تحريفه لمفهوم الجهاد في سبيل الله، والذي لم يرد القرآن الكريم من تشريعه، والإذن فيه، والدعوة إليه إلا الدفاع عن النفس، ونصرة المستضعفين، كما قال تعالى:: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39)، وقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة:190)

لكن الشيطان حوله إلى وسيلة لسفك دماء المظلومين، والتوسع في ديارهم، ونهب أموالهم، واستعبادهم، بحجة نشر الإسلام، مع أن الله تعالى يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 – 22)، وقال: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54)

وبذلك راح الفقهاء الذين وكل إليهم هذا الأمر يضعون الكثير من الأحكام المرتبطة بتلك الحرب، وأولئك الرقيق المساكين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، ثم كبلوا بقيود العبودية.

وهكذا نشأ عن ذلك التحريف مفاهيم وقيم كثيرة ممتلئة بالغرابة والدخن، وبعيدة كل البعد عن الإسلام الإلهي الممتلئ بالعدالة والرحمة واللطف وكل ما تقتضيه أسماء الله الحسنى.

إن وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن من ضرورات السلوك إلى الله، وتزكية النفس من كل المثالب، البراءة إلى الله من كل الأخطاء التي وقعت في تاريخ المسلمين، وعدم تحملها أو الدفاع عنها، أو الدفاع عن الظلمة الذين قاموا بها، فالمدافع عن القتلة قاتل، والمدافع عن المجرمين مجرم، وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: نزلت هذه الآية ﴿ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 183]، وقد علم أنهم قالوا: والله ما قتلنا ولا شهدنا، وإنما قيل لهم: ابرأوا من قتلهم فأبوا)، وفي رواية: (وقد علم أن هؤلاء لم يقتلوا، ولكن كان هواهم مع الذين قتلوا، فسماهم الله قاتلين لمتابعة هواهم ورضاهم بذلك الفعل) ([2])

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها، فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) ([3])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع) ([4])

ولهذا عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل خالد بن الوليد من سفك للدماء بغير حق، راح يتبرأ من ذلك العمل، ففي الحديث عن ابن عمر، قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، وجعل خالد بهم أسرا وقتلا، ودفع إلى كل رجل منا أسيرا، حتى إذا أصبح يوما، أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، قال: فقدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكروا له صنيع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع يديه: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) مرتين([5]).

فردد ـ أيها المريد الصادق ـ ما ردده نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تكن عبدا لقومك، فالله تعالى سيحاسب كل من رضي عن جريمة أو قبلها أو زكى فاعليها؛ فاحذر أن تزكي غير الصالحين المتقين حتى لا تتحمل جرائم الظلمة والمجرمين والمستبدين.

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأورده لك من صيدلية القرآن الكريم من أدوية تحميك من هذين المثلبين الخطيرين.

التحريف وعلاجه:

أما التحريف ـ أيها المريد الصادق ـ فقد أخبر الله تعالى أنه سنة لازمة، يقوم بها شياطين الإنس والجن، لتحويل الخلق من الهداية إلى الضلالة، ومن النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]

وقد أخبر الله تعالى أن مشيئته التي سمحت لإبليس ببث غوايته ووساوسه للخلق، هي نفسها التي سمحت لهؤلاء الشياطين بتحريف مناهج الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112]

ثم بين العلة من ذلك، وهي تمييز الطيب من الخبيث، والصادقين الذين يتبعون الأنبياء، والهمج الرعاع الذين يتبعون كل ناعق من غير تحقيق ولا بحث، قال تعالى واصفا المتبعين للمحرفين: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: 113]

وقال ـ واصفا المنهج الذي يحمي من التحريف ـ ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [الأنعام: 114]

ثم بين رحمته بعباده، وأنه وفر في كلماته المقدسة كل ما يحتاجه من يريدون النجاة من التحريف وتضليلات الشياطين، فقال:﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115]

ولذلك؛ فإن العصمة من التحريف تكون بالاعتصام بالكتاب، والرجوع إليه في كل الشؤون، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، والرد لله، يعني الرد لكتابه.

ولذلك يخبر الله تعالى عن المستعدين للتحريف أولئك الذين يبحثون عن أي شيء يستبدلون به كلمات ربهم ولو كانت من لهو الحديث، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان: 6، 7]

ولهذا استعمل الشيطان باب الرواية والقصص والحكايات والأشعار، ليشغل الأمة عن كلمات ربها، ويملأها بالأهواء من خلالها.. ولهذا بقيت حروف القرآن سليمة من التحريف، لكن ذلك التراث الكبير الذي أحاط بها ملأ معانيها بكل ما اشتهته الشياطين من صنوف التبديل والتغيير.

ولهذا نجد الوصايا الكثيرة من أئمة الهدى بعد حصول ذلك داعية إلى العودة إلى القرآن الكريم، وعدم استبداله بأي شيء، ومن ذلك قول الإمام علي: (اعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم)([6])

ويقول واصفا ما أودع الله فيه من أنوار الهداية: (جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمة) ([7])

ويقول: (اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان من عمى) ([8])

ويقول: (إن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابع العلم، وما للقلب جلاء غيره)([9]).

ويقول: (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليه ميثاقهم، وارتهن عليهم أنفسهم ([10])

وهو يحذر من هجر الأمة للقرآن وإعراضها عنه، وتقديمها لأهوائها عليه، فيقول: (إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل.. فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا، فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلا اسمه، ولا يعرفون إلا خطه وزبره)([11])

وهكذا أوصى كل أئمة الهدى بالقرآن الكريم باعتباره المنجي الأكبر من التحريف، يقول الإمام الحسن: (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور، فليجل جال بضوئه، وليلجم الصفة، فإن التلقين حياة القلب البصير كما يمشى المستنير في الظلمات بالنور)([12])

ويقول الإمام الصادق ـ مبينا ضرورة اللجوء للقرآن الكريم لتبصر الحقائق، والابتعاد عن سبل الفتن التي حرف بها الدين ـ: (من لم يعرف الحق من القرآن لم يتنكب الفتن)([13])

ويقول ـ لما سئل: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة ؟ ـ: (لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة) ([14])

ويقول الإمام الرضا واصفا القرآن الكريم: (هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)([15])

ويقول الإمام الجواد محذرا من نبذ القرآن الكريم أو تحريف معانيه وقيمه: (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية)([16])

وهكذا أوصى كل أئمة الهدى بالقرآن الكريم، والرجوع إليه في كل شيء، والتحاكم إليه عند كل خلاف، وعدم الرغبة عنه إلى غيره.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن في القرآن الكريم محكما ومتشابها؛ فإياك أن تكون من الذين يتبعون المتشابه، فما وقع التحريف إلا من الذين يتركون المحكم الواضح، ويخوضون في المتشابه، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]

وقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية، ثم قال: (إذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى الله، فاحذروهم)([17])

ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ فتشت في كل ما حصل في الأمة من صراع وتحريفات لوجدتها في اتباع المتشابه، وتأويل المحكم لينسجم مع المتشابه، فاحذر من الزائغين عن طريق الهداية، فما أكثرهم، وما أكثر الدجل الذي جاءوا به.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وحذر منه، فقال: (لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وقراء فسقة، سمتهم سمت الرهبان وليس لهم رغبة، فيلبسهم الله فتنة غبراء مظلمة يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم)([18])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الغربلة العظيمة التي يتعرض لها المؤمنون، ويمتحنون بها، فقال: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا هكذا وهكذا، وشبك بين أصابعه)، قالوا: يا رسول الله، فكيف تأمرنا؟ قال: (تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم)([19])

ثم بين السبب في ذلك كله، وهو ترك الحنيفية السمحة التي جاء بها، وخلطها بمصادر أخرى بديلة، فقال: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍ لاتبعتموهم)، قلنا: يا رسول الله، آليهود والنصارى؟ قال: (فمن)([20])

وفي حديث آخر عن أبي الدرداء أنّه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نذكر الفقر ونتخوّفه فقال: (آلفقر تخافون؟ والّذي نفسي بيده لتصبّنّ عليكم الدّنيا صبّا حتّى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلّا هيه، وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء) قال أبو الدّرداء: صدق والله‏ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء)([21])

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطّا ثمّ قال: هذه سبيل الله، ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثمّ قال: (هذه سبل متفرّقة على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه ثمّ قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153])([22])

الابتداع وعلاجه:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر من كل عقيدة أو شعيرة أو شريعة لا تجدها في كتاب ربك، ولا في سنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في هدي ورثته الراشدين الذين أمر بالاستنان بسننهم.. فإن ذلك بدعة حادثة.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ([23]))([24])

وفي حديث آخر عن العرباض بن سارية قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنّ هذه موعظة مودّع فما ذا تعهد إلينا؟، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطّاعة وإن عبدا حبشيّا فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديّين، الرّاشدين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة)([25])

وأخبر عن عظم العقوبة التي يجدها المبتدعون في الدين، وأولها خروجهم من التبعية لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا، وطردهم من حوضه في الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا أصحابه وأمته: (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليختلجنّ دوني، فأقول: يا ربّ، أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)([26])

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلذذ المبتدعين ببدعهم وأهوائهم، وإعجابهم بها، للدرجة التي تحول بينهم وبين التوبة، فقال: (إنّ الله احتجز التّوبة عن صاحب كلّ بدعة)([27])

ودعا العلماء المحققين إلى مواجهة البدع، وعدم السكوت عليها، فقال: (إذ ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله) ([28])

وأخبر أن الله (لا يقبل لصاحب بدعة صوماً، ولا صلاة، ولا صدقة، ولا حجّاً، ولا عمرة، ولا جهاداً) ([29])

ولهذا اتفق الصالحون على أن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، وأن العمل بالسنة حتى لو كان قليلا، خير من العمل بالبدعة، ولو كان في ظاهره طاعة كثيرة.

فعن ابن مسعود أنه قال: (الاقتصاد في السّنّة خير من الاجتهاد في البدعة)([30])

وقال: (قد أصبحتم على الفطرة وإنّكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأوّل)([31])

وقال: (تعلّموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإيّاكم والتّنطّع والتّعمّق والبدع، وعليكم بالأمر الأوّل)([32])

وقال: (إنّا نقتدي ولا نبتدي، ونتّبع ولا نبتدع، ولن نضلّ ما تمسّكنا بالأثر)([33])

وقال: (عليكم بالطّريق فالزموه ولئن أخذتم يمينا وشمالا لتضلّنّ ضلالا بعيدا)([34])

واتفقوا على أن الحق لا يمثل إلا نفسه، ولذلك لا عبرة بالمبتدعين، حتى لو بدوا صالحين متقين؛ وقد روي عن بعضهم أنه قال: (إنّ من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتّى يأخذه المؤمن والمنافق، والرّجل والمرأة، والصّغير والكبير، والعبد والحرّ، فيوشك قائل أن يقول: ما للّناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتّبعيّ حتّى أبتدع لهم غيره، فإيّاكم وما ابتدع، فإنّ ما ابتدع ضلالة، وأحذّركم زيغة الحكيم؛ فإنّ الشّيطان قد يقول كلمة الضّلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ)، فسئل: ما يدريني أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضّلالة، وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟ فقال: (اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، الّتي يقال: ما هذا؟ ولا يثنينّك ذلك عنه؛ فإنّه لعلّه أن يراجع، وتلقّ الحقّ إذا سمعته، فإنّ على الحقّ نورا)([35])

فانتبه ـ أيها المريد الصادق ـ لهذه المعاني، وإياك أن تخلط سلوكك بما يخرجك عن هدي نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وورثته الهداة، فالعبودية الحقيقية أن تعبد الله بما يرضى لا بما تهوى.


([1]) رواه الطبراني في الكبير.

([2]) تفسير العياشي 1/ 209.

([3]) رواه أبو داود (4345)، والطبراني (17/ 139) (14033)

([4]) رواه مسلم (1854)

([5]) البخاري (4339) و(7189)، والنسائي في المجتبى 8/237، وفي الكبرى (5961) و(8596)

([6]) نهج البلاغة: الخطبة 176، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 18

([7]) نهج البلاغة: الخطبة 198، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 199

([8]) نهج البلاغة: الخطبة 176.

([9]) نهج البلاغة: الخطبة 176.

([10]) نهج البلاغة: الخطبة 183.

([11]) نهج البلاغة: الخطبة 147.

([12]) البحار: 78 / 112 / 6

([13]) المحاسن: 1 / 341 / 702.

([14]) البحار: 92 / 15 / 8

([15]) عيون أخبار الرضا: 2 / 130 / 9

([16]) الكافي: 8 / 53 / 16

([17]) البخاري [فتح الباري]، 8(4547)

([18]) رواه البزار برجال الصحيح الا حبيب بن عمران الكلاعي.

([19]) رواه الحاكم واللفظ له والحارث وأحمد وابو داود وابن ماجة.

([20]) رواه البخاري ومسلم.

([21]) ابن ماجة(5) وأحمد (6/ 24)

([22]) أحمد(1/ 435، 465) رقم(4141)،(4436)، والحاكم(2/ 318)

([23]) فهو رد: أي غير مقبول ولا جزاء عليه إلا العقاب.

([24]) البخاري الفتح 5(2697) واللفظ له. ومسلم(1718)

([25]) أبو داود(4607) واللفظ له والترمذي(2676) وقال: حسن صحيح.

([26]) البخاري [فتح الباري]، 11(6576) واللفظ له ومسلم(2297)

([27]) رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم(37)

([28]) الكافي 1/ 44.

([29]) ابن ماجه 1/ 25

([30]) الحاكم(1/ 103) والدارمي(1/ 83)

([31]) الفتح(13/ 253)

([32]) الدارمي(1/ 59) واللالكائي(1/ 87) نحوه.

([33]) اللالكائي(1/ 86)

([34]) الدارمي(1/ 60)، وذكره السيوطي في الأمر بالاتباع(89)

([35]) أبو داود(4/ 202) رقم(4611) ومعناه عند الدارمي(1/ 78)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *