الدجل والشعوذة

الدجل والشعوذة
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن بعض من يدعي الولاية، لكنه لا يكتفي بالحديث عن تهذيب النفس وتزكيتها وترقيتها، وإنما يضيف إليها الحديث عن علوم الكون، وعدد الأفلاك، ومن يسكنها، وأحوالهم.. ولا يكتفي بذلك، بل يضيف إليها ادعاء الغيب؛ فيكشف لمن يزوره ماضيه ومستقبله، ويخبره عن أصدقائه وأعدائه.. ولا يكتفي بذلك، بل يضيف إليها ادعاء القدرة على معالجة الناس، ومن أصعب الأمراض التي يصابون بها.
وكل ما ذكرت ـ أيها المريد الصادق ـ يشير إلى مثلبين خطيرين، هما الدجل والشعوذة.. وكلاهما كان مجالا للشيطان لتحريف علوم السلوك والتزكية، وتحويلها من تهذيب النفس وتربيتها وإصلاحها، والرقي بها إلى مراتب التخلق والتحقق، إلى محاولة التعرف على العالم والتأثير فيه من غير أهلية لذلك.
ولهذا اعتبر الصالحون أن من يسير في هذا الطريق بين أمرين: إما أن يصل إلى الملك، أو يصل إلى الهلك.. أو هو بين الصديقية والزندقة.. أو هو بين الوصول إلى الله، أو الوصول إلى الشيطان.
وكل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يبدأ من مقصد السالك؛ فمن كانت بدايته لله، كانت نهايته لله.. ومن كان غرضه في بدايته تحصيل المنافع، والشهرة بين الناس، واختلاس أموالهم؛ فإن نهايته ستكون للحال الذي ذكرت.
ولذلك كان أولئك هم قطّاع الطرق الذين يحجبون الخلق عن السير إلى الله، بما يضعونه من الشبهات، وما ينشرونه من التشويهات.. ولذلك كان التحذير منهم واجبا، فطريق الله نقية سليمة صافية، وأدنى شيء يؤذيها، وينحرف بها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى منبع ذينك المثلبين، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]
فكل ما يفعله ذلك الدعي الدجال الذي ذكرت ليس سوى وحي شيطان زُخرف له، وتوهم أنه من الله، وهو ليس سوى من نفسه الأمارة التي أصبحت محلا للتجليات والإلهام الشيطاني.
ولذلك كان الحصن الذي تحتمي به من شر أولئك الدجالين والمشعوذين هو حصن القرآن الكريم؛ فهو الوحيد الكفيل بإنقاذك وإنقاذ عقلك ودينك منهم، كما قال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل: 98 – 100]
وقراءة القرآن الكريم ـ أيها المريد الصادق ـ التي تحميك من هؤلاء، لا تعني تأثيرها الغيبي فقط، وإنما تعني تأثيرها المرتبط بالتدبر فيها، والتعرف على أسرارها، وحقائق المعاني التي تدعو إليها..
فمن اكتفى بالتأثير الغيبي في القرآن الكريم من دون سماع ولا تدبر، لم تزده قراءته إلا بعدا، لأنه يستعمل الدواء في غير محله، وهو أشبه بمن يتفرج على الدواء الذي أمر بشربه من غير أن يشربه.
ولذلك سأذكر لك ما ورد في القرآن الكريم مما يحطم جدران الدجل والشعوذة، حتى تكون على بينة من أمرك، وحتى لا يفسد عليك سلوكك إلى الله دجل الدجالين، ولا شعوذة المشعوذين.
الدجل وعلاجه:
أما الدجل ـ أيها المريد الصادق ـ فهو ذلك الكذب الذي يختلط ببعض الصدق، أو الحقائق التي تختلط ببعض الأوهام، والتي لا سند لها سوى الهوى المجرد، الخالي من البحث والطلب والتحقيق.
فالدجال على خلاف العالم والباحث، لا يحتاج إلى كتب يطالعها، ولا إلى علماء يدرس على أيديهم، ولا إلى جهد يبذله.. وإنما يحتاج بعض المصطلحات والمفاهيم، ليبني عليها ما يمليه هواه.
وهو ينطلق من ذلك الشغف الذي خلقه الله تعالى في الإنسان للبحث عن الحقائق، والذي قد يسيطر عليه؛ فيمنعه من البحث عنها عند أهلها، لأنهم لا يروون ظمأه؛ فيذهب إلى الدجالين، ليعطوه كل ما يريده ويهواه، من غير أن يطالبهم بأي دليل.
ولهذا نهى الله تعالى المؤمنين في سورة الكهف عن البحث عن تفاصيل أخبار فتية أهل الكهف، لعدم وجود مصادر أمينة موثوقة يمكنها أن تعرف بحقيقتهم، أو تدل على الأحداث المرتبطة بهم، كما قال تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22]
فقد اعتبر القرآن الكريم مجرد الحديث عن عددهم من غير بينة رجما بالغيب، وهو من أعظم الكذب والزور والبهتان.
وهكذا الأمر عندما ذكر مدة لبثهم في الكهف، كما قال تعالى: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 25، 26]
وهكذا؛ فإن القرآن الكريم عندما يورد أي قصة من القصص يخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه القصة من الله، وأن الغيب لله، وقد كان في إمكانه أن يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت المزيد من التفاصيل فاقصد أحبار اليهود، أو غيرهم.. لكنه لم يفعل، بل ورد النهي عن ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44 – 46]
فهذه الآيات الكريمة تبين المنهج العلمي الذي يحتاجه كل من يريد الحديث عن الوقائع التاريخية السابقة، وهي إما خبر المعصوم كما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أو هي الحضور المباشر للمكان والزمان الذي وقعت فيه الحادثة.. أما خبر الذين اختلط صدقهم بكذبهم فلن يزيد الباحث إلا ضلالة.
ومثل تلك الآية آيات كثيرة ترسخ هذا المنهج القرآني، ومنها قوله تعالى بعد ذكره لقصة نوح عليه السلام: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]
ومثلها قوله بعد ذكره لقصة مريم عليها السلام: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 44]
ومثلها قوله بعد ذكره لقصة يوسف عليه السلام: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: 102]
ومثلها قوله بعد ذكره لمجموعة من قصص الأنبياء عليهم السلام: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ [هود: 100]
بل إن القرآن الكريم لا يقصر هذا المنهج على القصص، بل يعممه في كل شيء، فلا يصح أن نتعلم أي علم من غير مصادره الصحيحة الموثوقة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]
لأن كل علم لا يستند إلى مصدر صحيح موثوق هو دجل وكذب وضلالة، قال تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28]، وقال: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 5]
وهكذا الأمر في كل الحقائق التي مصدرها الخبر، فلا يكفي فيها النقل من أي كان، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]
وهذه الآية الكريمة تشير إلى ناحية خطيرة تتعلق بهذا، وهي ما عبر عنه القرآن الكريم بـ ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾، ذلك أن تلك المعلومات التي يوردها الدجال لا ترتبط بمعارف ذهنية فقط، وإنما تنشأ عنها مواقف تؤثر في الحياة جميعا، وقد تكون سببا للجوء إلى الشعوذة، ذلك أن لكليهما علاقة كبرى ببعضهما، فالدجل يولد الشعوذة، والشعوذة تولد الدجل.
ذلك أن الدجال المحتال قد ينشر أسطورة ترتبط بظاهرة من الظواهر الكونية، ليجني من خلالها ما شاء له هواه أن يجني.. والأساطير تنتج الدجالين الذين يرمون بالغيب من غير تحقيق.
ولهذا كله يذكرنا القرآن الكريم بحقيقة البحث في أي مسألة من المسائل، وهي الآية الجامعة لكل مناهج البحث العلمي، وهي قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، فهذه الآية الكريمة تنهى أن نبحث في شيء لم تكتمل لدينا أدواته.. لا في أمور الدنيا، ولا في أمور الآخرة.. إلا إذا استندنا إلى المصادر المعصومة في ذلك، مع الاكتفاء بها.
وهكذا ورد في الأحاديث النبوية الشريفة الكثير من النصوص التي تحذر من الكلام في العلم بغير دليل، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)([1])
وفي حديث آخر روي أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علّمنى من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل عرفت الربّ تعالى؟ قال: نعم. قال فما صنعت في حقّه؟ قال: ما شاء الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل عرفت الموت؟ قال نعم. قال فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال نعلّمك من غرائب العلم)([2])
لكن الشيطان استطاع أن يقنع فئات كثيرة من الخلق بأن العلم ليس في التحقيق، وإنما في حيازة أكبر قدر من المعلومات التي لا يهم مصدرها، بقدر ما تهم كثرتها.
وقد بدأ هذا التضليل منذ سلف هذه الأمة الأول، حين لم يكتف المسلمون ـ بفعل الإغواء الشيطاني ـ بالهدي الإلهي المتمثل في الثقلين اللذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاكتفاء بهما، وراحوا إلى كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهما يسألونهما عن تفسير القرآن وحقائق الوجود والكون والتاريخ.. ولم يتركوا شيئا إلا سألوهم عنه.. كل ذلك لإرضاء ذلك الفضول المعرفي الذي تسرب إليهم الشيطان من خلاله.
وقد ورد في بعض الروايات أن بعض الناس سألوا كعبا هذا السؤال الخطير: (أين كان الله جل جلاله قبل أن يخلق عرشه، ومم خلق الماء الذي جعل عرشه عليه؟)
ولم ينتفض كعب غضبا لهذا السؤال، وإنما راح ـ إرضاء لسائليه ـ يفتح كل نوافذ الكذب، ويحدثهم بما لا يوجد لا في القرآن، ولا في التوراة، ولا في أي كتاب من كتب الدنيا.. فقد كان من ضمن حديثه قوله: (إن الله تعالى كان قديما قبل خلق العرش، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وأخر ما بقي منها لمسجد قدسه) ([3])
وقد ورد في بعض الروايات أن الإمام عليا سمع هذه الفرية الخطيرة، فقال ردا عليها: (غلط أصحابك، وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه، يا كعب ويحك إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته، وعز الله وجل أن يقال: له مكان يومي إليه، والله ليس كما يقول الملحدون، ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان)([4])
وهكذا كان موقف ابن عباس من ذلك الفضول المعرفي الذي جعل الناس في أول الإسلام ينصرفون عن المصادر المعصومة إلى المصادر المختلطة، فقال: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم)([5])
وروي أنه سأل رجلا مقبلا من الشام: من لقيت؟ قال: كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السماوات على منكب ملك. فقال: (كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد! ثم قرأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر:41])([6])
وهكذا حذر الصالحون من ذلك الفضول الوهمي للمعارف غير المعصومة، ويدعون بدله إلى العلم الحقيقي الذي يملأ المؤمن بالقيم القرآنية النبيلة، فقد قال أحدهم معبرا عن ذلك: (تعلموا ما شئتم أن تعلموا فو الله لا يأجركم الله حتى تعملوا، فان السفهاء همتهم الرواية، والعلماء همتهم الرعاية)، وقال آخر: (أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملا، وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم)([7])
وقد ذكر بعض الحكماء متأسفا كيف تحول التذكير والوعظ إلى وسيلة للدجل، فقال: (فقد اتخذ المزخرفون هذه الأحاديث حجة على تزكية أنفسهم، ونقلوا اسم التذكير إلى خرافاتهم، وذهلوا عن طريق الذكر المحمود، واشتغلوا بالقصص التي تتطرق إليها الاختلافات والزيادة والنقص، وتخرج عن القصص الواردة في القرآن وتزيد عليها، فإن من القصص ما ينفع سماعه، ومنها ما يضر وإن كان صدقا. ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب، والنافع بالضار، فمن هذا نهى عنه)([8])
وضرب مثالا على التذكير الصحيح النافع بقصة شقيق البلخي مع تلميذه حاتم الأصم، حيث سأله، فقال: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة. قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. قال شقيق له: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل! قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها، وإنى لا أحب أن أكذب.. فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي، فقال: أحسنت يا حاتم، فما الثانية؟ فقال: نظرت في قول الله عز وجل: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات:40-41]، فعلمت أن قوله سبحانه هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى..)([9])
وهكذا راح يعدد له ما استفاده منه فترة صحبته الطويلة له.. وهي كلها معان عملية أخلاقية تتفق مع الأهداف القرآنية التي ترمي إلى صياغة الشخصية المسلمة في أوج نبلها وطهرها وصفائها.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر من كل علم لا تعرف دليله ولا مصدره؛ فالجهل خير من العلم الذي لا دليل عليه..
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن ذلك الذي ذكرت يخبرك أن علومه ناتجة من الكشف، والعلم اللدني، وأنها بذلك أقوى من كل علوم الدنيا.. فإن قال لك ذلك، فأسأله عن عصمته، وهل يمكن للشيطان أن يقترب منه، ويوسوس له، أم أنه ليس له سلطان عليه؟
فإن أخبرك أنه معصوم، وأن كل ما يلقى إليه صحيح، فهو كاذب ودعي، وقد اتفق جميع مشايخ التربية والسلوك على تكذيب مدعي العصمة المرتبطة بالكشف، واتفقوا على وجوب عرض ما يكشف لهم على المصادر المعصومة، فإن وافقت فبها، وإلا رمي بها.
وفي هذا يقول الجنيد: (إن النكتة لتقع في قلبي من جهة الكشف فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة)
ويقول الشيخ عبد القادر الجيلاني : (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة.. طِرْ إِلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)([10])
ومثله الشيخ أبو الحسن الشاذلي، فقد كان يقول: (إِذا عارض كشفُك الصحيح الكتابَ والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إِن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإِلهام)([11])
وبناء على هذا يخطئون بعضهم بعضا في نتائج الكشف، ومن ذلك قول بعضهم في الكشف الذي لا يمكن اعتباره: (الكشف الذي يؤدي إلى فضل الإنسان على الملائكة أو فضل الملائكة على الإنسان مطلقاً من الجهتين لا يعول عليه) ([12])
ويقول: (كل كشف يريك ذهاب الأشياء بعد وجودها لا يعول عليه) ([13])
ويقول: (كل كشف لا يكون صرفاً لا يخالطه شيء من المزاج لا يعول عليه، إلا أن يكون صاحب علم بالمصور) ([14])
الشعوذة وعلاجها:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الشعوذة بنت للدجل؛ فهي التي تنتجها، وهي التي تغذيها، ولذلك كانت سببا في تحريف الأديان، عندما استغل اللصوص الذين ادعوا الوصاية على الدين حاجات الناس وضعفهم؛ فراحوا يفسرون الظواهر المختلفة بما تشاء لهم أهواؤهم، ليتاجروا بذلك التفسير.
ويشير إلى هذا قوله تعالى عن السحر، وكيفية ظهوره، واستغلال الشياطين لبعض الحقائق وتشويهها: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:102)
فالآية الكريمة تشير إلى أن العلوم التي كان يبثها ذانك الملكان (هاروت وماروت) من العلوم التي تصف حقائق كونية.. وأنها كانت تحمل ثمارا طيبة خيرة يمكن أن تستفيد منها البشرية، وتحمل في نفس الوقت ثمارا خبيثة يمكن أن تتحول إلى شر محض.. مثلما هو الحال مع الكثير من المعارف العلمية التي يمكن استثمارها إيجابا أو سلبا.. ولهذا، فإن هذين الملكين كانا ينبهان كل من يدرس على يديهما تلك العلوم إلى المحاذير التي تنطوي عليها المعارف التي يدرسونها.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفسر ما يحصل في الكون تفسيرا أسطوريا، أو يستثمر ذلك التفسير في صناعة الشعوذة.. ففي الحديث أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)([15])
فهذا الحديث يرسم المنهج الصحيح للتعامل العلمي مع الكون، فكل ما في الكون آيات لله.. لا يؤثر فيها من الأسباب إلا ما أراد الله أن يؤثر..
ولتعرف ـ أيها المريد الصادق ـ عظمة هذا الحديث، وعظمة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، والمسافة العظيمة التي تفصله بين أولئك المدعين والدجالين والمشعوذين، فاعلم أنه قاله في واقع كان يموج بالأسطورة، وعلى أتم الاستعداد لتقبل أي تفسير يستغله أي دجال أو خرافي..
لقد كان الكثير من الناس في ذلك الحين، وقبله يعتقدون أن الكسوف هو نتيجة لتصارع الآلهة، وكانت بعض الشعوب في الصين يرمزون للشمس بأنها طائر ذهبي، ويرمزون للقمر بضفدع وعند حدوث الكسوف فإن معركة ما تدور بين هذين الرمزين.
أما قبائل الأمازون فكانوا يعتقدون أن القمر أثناء الخسوف قد رماه أحد الأطفال بسهم في عينه مما أدى إلى نزيف في هذا القمر، ثم يُشفى القمر بعد ذلك ويعود لوضعه الطبيعي.
وكان الصينيون يفسرون ظاهرة كسوف الشمس على أن تنّيناً يحاول أن يبتلع قرص الشمس، لذلك كانوا يضربون بالطبول، ويقذفون بالسهام لأعلى محاولة منهم إخافة التنين وإعادة الشمس لهم من فمه.
وفي الهند كان الناس يغمرون أنفسهم بالماء عند رؤيتهم هذه الظاهرة لكي لا يسقط عليهم شيء منه..
وحتى يومنا هذا يعتقد الإسكيمو أن الشمس تختفي وتذهب بعيداً أثناء ظاهرة كسوف الشمس ثم تعود من جديد.
وفي ظل هذه الأساطير كان العرب ينظرون إلى كسوف الشمس على أنه يمثل موت إنسان عظيم، أو خسارة معركة عظيمة.
لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى هذه الظاهرة نظرة علمية محضة؛ فقد أخبرهم أن الشمس والقمر مخلوقات وآيات مسخرة لله، ولا علاقة لهما بما يحدث على الأرض من ولادة أو موت أو غير ذلك.
ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت في الحديث، لعرفت أن فيه علاجا واقيا من كل أنواع الشعوذة، وكل أصناف المشعوذين، ذلك أنه يربط ما حصل من الظواهر الكونية بالله والتوحيد.
ولذلك كان التوحيد الذي يعني أن رب الكون واحد، وأنه الوحيد المتصرف في الكون ما يقضي على كل ألوان الشعوذة التي أثقلت كاهل البشرية.
لقد ذكر الله تعالى كيف كان المشركون يتخوفون من عوالم الجن، فقال:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ (الجـن:6).. لقد كانت الأسطورة هي التي تملأ القلوب بالمخاوف.. فلما جاءت حقائق التوحيد رفعت كل تلك المخاوف.. وعاد الشيطان.. ذلك الغول الذي استغله الدجالون صغيرا حقيرا لا يستحق كل تلك الهالات من الأساطير التي حامت حوله.
لقد قال الله تعالى يطمئن عباده المؤمنين:{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(آل عمران:175)، وقال:{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(لأعراف:201)، وقال:{ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(المجادلة:10)، وقال:{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(النساء: 76)، وقال:{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(لأنفال:48)
ولهذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن ينسب ما يحصل من حوادث للشياطين، فقد قال بعض الصحابة: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعثرت دابة فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول: بقوتي ولكن، قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب)([16])
هذا ما ذكره نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وما رباك عليه؛ فتمسك به،
واحذر من كل من يكذب بالانتساب إليه، أو الحديث باسمه، حتى لا تصبح فريسة للدجالين
والمشعوذين والكذابين، فما أكثر اللصوص في هذا الطريق؛ فاحذر منهم، واستعن بربك،
ولا تعطل عقلك، فما جعله الله لك إلا لتميز به بين الحق والباطل، وبين الصادقين
والدجالين.
([1]) البخارى (5/1976، رقم 4849) ، ومسلم (4/1985، رقم 2563)
([2]) رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة وابن عبد البر، انظر: تخريج الحافظ العراقي: إحياء علوم الدين (1/ 65)
([3]) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، 2 / 5.
([4]) المرجع السابق، 2 / 5.
([5]) البخاري (26: 2) (42: 2)
([6]) الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني، 139.
([7]) إحياء علوم الدين، 1/110.
([8]) إحياء علوم الدين، 1/59.
([9]) المرجع السابق، 1/111.
([10]) الفتح الرباني والفيض الرحماني، ص29.
([11]) انظر: إِيقاظ الهمم، (2/302)
([12]) ابن عربي، رسالة لا يعول عليه، ص 3.
([13]) المرجع السابق، ص 14
([14]) المرجع السابق، ص 18.
([15]) البخاري (2/42 و 7/45) ومسلم (3/27)
([16]) رواه أبو داود وغيره.