العنصرية والطائفية

العنصرية والطائفية

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن العنصرية والطائفية، وسبب انتشارها بين المتدينين وغيرهم، وهل هي داء نفسي أم داء اجتماعي، وهل يمكن علاجها، وكيفية ذلك؟

وجوابا على أسئلتك الوجيهة أذكر لك أنه لا يوجد داء اجتماعي إلا وله جذوره النفسية؛ فالمجتمع ليس سوى اجتماع نفوس كثيرة؛ فإن كانت النفوس طيبة كان المجتمع طيبا، وإن كانت خبيثة كان خبيثا، وإن اختلط فيها الخير بالشر، والطيبة بالخبث كان فيها من الجاهلية بحسب خبثها، وكان فيها من الإسلام بحسب طيبها.

لذلك كان للمجتمع دوره في الترقي، كما أن له دوره في الانحدار.. ذلك أن كل الأمراض النفسية التي حدثتك عنها من الكبر والعجب والغرور وغيرها قد لا يكون سببها ما يملكه الإنسان من طاقات ومواهب، ولكن ما يملكه مجتمعه منها؛ فتجده يتكبر ويعجب ويغتر بالجماعة التي ينتسب إليها، ويتوهم أنه كبير بها، ولو لم يكن يملك شيئا مما يدعوه إلى الكبر.

وذلك أشبه بالذي يشاهد فرق بلاده الرياضية، ويتحمس لها، ويتوهم أنه رياضي بذلك، مع أنه ممتلئ بالكسل، لا يمارس الرياضة، ولا يعرفها.. ولا علاقه له بها.

بل إن الأمر قد يكون أخطر من ذلك.. فالذي يصاب بمثل هذه الأدواء لا يقبل الحق ولو دلت عليه كل الأدلة، لسبب بسيط وهو صدوره ممن لا يعظمه مجتمعه، كما أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل ورفضهم لرسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب كونه ليس إسرائيليا.

وهذا ما حصل لأقوام الأنبياء عليهم السلام الذين دعتهم عنصريتهم إلى التمسك بآبائهم وأجدادهم، وعدم الانصياع لرسولهم المؤيد بكل المعجزات والآيات، قال تعالى مخبرا عن منطق القرى في جوابها لأنبيائها، وما حال بينها وبين اتباع الحق، أو على الأقل الاستماع إلى الحق: P وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَO (الزخرف:23)

والقرآن الكريم لا ينكر عليهم تعلقهم بأسلافهم، بل ينكر عليهم كون هؤلاء الأسلاف أضعف شأنا من أن يكونوا قدوة أو قادة لغيرهم، وهو ما لا يستطيع تقبله هؤلاء الذين يعيشون على أوهام الماضي، قال تعالى:P وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَO (البقرة:170)

وفي آية أخرى يصور القرآن الكريم قناعة هؤلاء واكتفاءهم بما وجدوا عليه آباءهم، فهم مشبعون بفكر أسلافهم لا يرضون عنه بديلا، قال تعالى:P وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَO (المائدة:104)

ويخبر الله تعالى عن المبررات التي يتذرع بها هؤلاء إذا ما نهوا عن الفواحش:P وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَO (الأعراف:28)

ويخبرنا عما تفعله القوميات في عصرنا هذا كما في العصور السالفة من تقديم الوطن والقومية على الله، فيحفظ الصبيان من الأناشيد التي تزرع فيهم التعلق بالجذور ما ينسيهم تعلقهم بربهم وذكرهم له، ويدرسون من التاريخ ما يملؤهم بالتيه في الوقت الذي يتغافلون فيه عن النماذج الرائعة التي من الله بها على البشرية لتكون قدوة لها.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى عن موقف لا يعرف فيه المؤمن الحقيقي غير ربه في الوقت الذي ينشغل فيه القومي بسرد سيرة أسلافه:P فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة:200)

ويذكر القرآن الكريم استدلالهم المطلق بفعل آبائهم، وكأنهم الآلهة التي تشرع لهم وتبين لهم سنن الكون ونواميسه وقوانينه، قال تعالى:P ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَO (لأعراف:95)

ويبين العلاقة الحقيقية مع الآباء والإخوان والعشائر والقبائل في حال استحبابهم الكفر على الإيمان فيقول:P يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَO (التوبة:23)

ويصور القرآن الكريم الدافع الحقيقي لهذه المشاعر القومية المبعدة عن الحق عند ذكره لارتباط عبادة الأسلاف بالكبرياء في الأرض، يقول تعالى:P قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَO (يونس:78) وذلك لأن المتكبر كما يرى لنفسه وجودا متميزا عن غيره لا يتصور لماضيه غير ذلك الوجود المتميز.

وفي موضع آخر يبين أن الحاجز بينهم وبين تدبر الآيات الواضحات هو مخالفتها للأعراف التي ورثوها عن أسلافهم، قال تعالى:P أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَO (المؤمنون:68) P قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَO (الانبياء:53)، وقال تعالى:P قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَO (الشعراء:74)

ويعتبر القرآن الكريم الدعوات الشعوبية العنصرية صدى لنفخات شيطانية قال تعالى:P وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِO (لقمان:21)

ومثل هذه العنصرية داء الطائفية الخطير، والذي لا يرتبط بالأعراق، وإنما بالأديان والمذاهب، والذي يجعل صاحبها لا يرى إلا طائفته، ويحتقر من دونها، ويستكبر عليه، ويستعمل كل الوسائل لإلغائه.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره القرآن الكريم عن اليهود والنصارى الذين انشغلوا بنصرة طوائفهم عن التحقيق فيها، والبحث عما دخل عليها من التحريفات، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة:113)

وذكر السبب الذي دعاهم إلى ذلك، وهو توهمهم لنجاتهم وفوزهم بمجرد انتسابهم لطوائفهم، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18)

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وأردت أن تتخلص من هذه الأدواء الخطيرة التي تحول بينك وبين حقيقتك والقيم التي دعيت إلى تحقيقها، فاسمع لما أورده عليك من أدوية عسى الله أن ينفعك بها، ويحميك من أن تكون لك نسبة لغيره، أو عبودية لسواه.

العلاج المعرفي:

أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ للتخلص من الطائفية والعنصرية، هو تحققك بعبوديتك لربك؛ فهي وحدها من تجعلك تنظر إلى الخلق، وأنت عبد بسيط متواضع لا تملك إلا ما أعطاك الله، فلا تتكبر على أحد من خلق الله، ولا تفخر عليه لأنه أعطاك ما لم يعطه.

ولهذا قرن الله تعالى بين العبودية والوحدة، والتي هي الثمرة الطيبة التي تنبت بدل الطائفية، فقال:﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الانبياء:92)؛ فالآية الكريمة تخبر عن أمرين، مرتبطين ببعضهما، أما أولهما، فهو الدلالة على وحدة هذه الأمة، والثاني إخبار من الله تعالى لعباده بربوبيته، وأمر لهم بمراعاتها بعبادته..

ومن اقتران كلا المعنيين يتولد أصل ابتناء الوحدة على العبودية.. فكأن الله تعالى يذكر لنا وصفة لتحقيق الوحدة والحفاظ عليها.. وهي عبادة الله، والاستغراق في عبادته.

ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله تعالى من شعائر تعبدية، لا تصل العبد بربه فقط، وإنما تصله بإخوانه، وتحميه من كل كبرياء تحول بينه وبينهم، قال تعالى:﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)

فالذي يؤدي صلاته صادقة خالصة لله، يصبح متواصلا مع ربه، يعتقد أن الحق الذي عنده هبة من الله.. ولولا أن الله هداه إليه ما اهتدى، وذلك ما يجره إلى بحر التواضع والتسليم لله.. فيرى من عين العبودية أن الله يمكن أن يحول من السحرة أولياء.. ومن الأولياء أشقياء..

فعبوديتك لله ـ أيها المريد الصادق ـ تجعلك ترى كل من تعتبره صاحب هوى كسحرة موسى يمكن أن يسبقوك في أي لحظة.. ويجعلك ترى من نفسك.. أو في زاوية من زوايا نفسك شقيا يمكن أن ينقض على حقائقك كل لحظة، فيحولها دعاوى، ويحولك دعيا.

ولهذا يستشعر الصالحون أن الهداية التي ينعمون بها هدية إلهية، لا جهدا اجتهدوه يحق لهم أن يفخروا به على غيرهم.. وقد ذكر الله تعالى أقوالهم الدالة على ذلك، ومنها ما ورد في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (الأنعام: 71)، وقوله: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ (لأعراف:43)

وقال معبرا عن ألسنتهم ونفوسهم الطيبة:﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (ابراهيم:12)، وقال:﴿ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران:8)

وقد ورد في أخبار الصالحين ما يدل على تواضعهم عن نسبة الإيمان لأنفسهم؛ فكيف بنسبة التقوى والصلاح والأفضلية إليها.. وقد قال بعضهم: (من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين، ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة)، قيل له: فماذا تقول؟ قال:﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ (البقرة: 136)، وقال:(نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله تعالى؟)

وقال آخر:(إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله)، وقال:(قل أنا لا أشك في الإيمان، وسؤالك إياي بدعة)

 وقيل لبعضهم: أمؤمن أنت؟ فقال: إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم، فيقول الله سبحانه:(كذبت) فتحق علي الكلمة.

وقيل لآخر: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله.

وقال آخر:(ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني، وقال اذهب لا قبلت لك عملاً؛ فأنا أعمل في غير معمل)

لا تحسب ـ أيها المريد الصادق ـ أن لهؤلاء من الشبهات ما يشككهم في حقائق الإيمان، كلا.. وإنما هم مؤمنون موقنون جازمون، ولكن هناك فرق بين أن توقن بإيمانك، وبين أن تدعيه.. فالدعوى خطيرة، والله تعالى نفى الإيمان عن أقوام كثيرين ادعوه، ولذلك لا يأمن العاقل من أن يكون منهم، وخاصة إذا كان مغترا معجبا مستكبرا.

ولذلك إذا قرأت ما ورد في القرآن الكريم من نحو قوله تعالى عن المنافقين:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة:8)، أو قوله عن بعض الأعراب:﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 14)، أو قوله عن غيرهم من المنافقين وأهل الكتاب:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ (المائدة: 41)، فلا تحسب أن ذلك خاصا بهم، وأنهم أشخاص معينون، وأنك مبرؤ من ذلك.. كلا، فهذه قيم وأخلاق موجودة في كل زمان؛ فاحذر أن تنطبق عليك.

ولهذا نهى الله تعالى عن تزكية النفس، ومدحها والثناء عليها، فقال: ﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (النجم: 32)، وقال:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ (النساء:49)

ولهذا وصف الله تعالى الصالحين بأمرين، أحدهما العمل الصالح المتقن، والثاني الوجل والخوف من عدم قبوله، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون:60)

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن تفسيرها، وهل هي في الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ فقال:(لا، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل)([1])

وقد وردت الآية السابقة في سياق يبين الحال التي يكون عليها المؤمن من الخشية والعبودية والتواضع، فالله تعالى يصف عباده المؤمنين بالخشية المؤدية للتواضع قبل وصفهم بالإيمان، فيقول:﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (المؤمنون:56 ـ 57)، أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من الابتلاءات التي تعرض لهم، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا)

قارن ـ أيها المريد الصادق ـ بين هؤلاء الذين ذكرهم القرآن الكريم وبين أولئك الذين يستعلون بأنسابهم وطوائفهم ويتسلطون بها، ويقاضون الخلق على أساسها، ثم لا يرضون إلا أن يرموهم بالكفر أو البدعة أو الزندقة.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن العنصرية والطائفية حظ الشيطان من الإنسان، ذلك أن إبليس لم يتكبر على آدم، إلا بعد أن ظن نفسه وعنصره وطائفته أعز وأكرم من أن ينحني بهامته لذلك الطين.

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا في جماعة من أصحابه فذكروا رجلا فأكثروا من الثناء عليه، فبينما هم كذلك إذ طلع رجل عليهم ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء، وقد علق نعله بين يديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هو هذا الرجل الذي وصفناه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أرى على وجهه سفعة من الشيطان) فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟) فقال:(اللهم نعم)([2])

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وتوفرت فيك العزيمة على حماية نفسك من هذين المثلبين الخطيرين، فلا تسم نفسك إلا باسم عبوديتك لله؛ فإذا سئلت عن قبيلتك وشعبك ووطنك، فلا تفاخر بها، ولا تستعلي بانتسابك لها، ولا تذكر أنك من نسل ملوك الغساسنة، أو أن أجدادك كانوا من الفراعنة، أو كانوا ملوكا، فقد روي أن رجلين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتسبا، فقال أحدهما: (أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان.. حتى عد تسعة، فمن أنت لا أم لك؟)، قال: (أنا فلان بن فلان بن الإسلام)، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة، فأنت ثالثهما في الجنة) ([3])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟)([4])

وهذا ما فعله سلمان الفارسي الذي أصبح محمديا، فقد سئل عن قوميته، فأجابهم بكل روحانية:

أبي الإسلام لا أب لي سواه… إذا افتخروا بقيس أو تميم

مع أنه كان يمكنه أن يذكر حضارة فارس، وعدل أنوشروان، ونبوءة زرادشت، وحكماء الفرس وأدباءهم.. لكنه لم يفعل.. لأنه ذاب في النبوة، وفني فيها، فلم يعد يرى سواها..

وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ إن سئلت عن مذهبك وطائفتك؛ فاقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الحج: 78)

فالله تعالى هو الذي ارتضى لك هذا الاسم؛ فلا ترغب عنه إلى غيره، وإياك أن تقع فيما وقع فيه اليهود والنصارى حين رغبوا عن اسم الإسلام؛ فوقعوا في الطائفية وضلالاتها، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (البقرة:135)

بل إنهم اشتدوا في انصرافهم عن الإسلام الذي ارتضاه الله لهم، فراحوا يزعمون أن الجنة خاصة بمن انتحل نحلتهم، كما قال تعالى:﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة:111)

ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يزعمون أن إبراهيم u الذي اختار اسم الإسلام وملة الإسلام كان مثلهم يهوديا أو نصرانيا، وقد رد الله عليهم ذلك أبلغ رد، فقال: { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 65 – 68]

بل لم يكتفوا بإبراهيم عليه السلام.. فقد راحوا ينسبون كل أنبيائهم إلى اليهودية أو النصرانية، كما قال تعالى:﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة:140)

وقد أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أن أديان كل الأنبياء كانت الإسلام.. وقد ذكر الله وصية يعقوب عليه السلام لأبنائه، فقال:﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة:133)

بل أخبر الله عن فرعون أنه عندما أدركه الغرق قال:﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (يونس:90) وفي هذا دليل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى الإسلام، ولم يدعه إلى دين غيره.

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تتألى على الله، أو تحسب نفسك وكيلا له، أو مفوضا عنه، تدخل من تشاء في رحمته، وتخرج من تشاء منها، فالله تعالى لم يوكل أحدا من عباده بذلك.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جزاء ذلك الذي اعتقد نفسه موكلا بخزائن الرحمة والمغفرة يصرفها لمن يشاء، ويحرم منها من يشاء، فذكر (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك)([5])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: (ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فلا تتألوا على الله)([6])

وقد سمى صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين)([7])، فقال:(ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار)([8])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال:(إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم)([9])، وقال:(إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)([10])

وقد عرف الطائفيون ـ أيها المريد الصادق ـ كيف يحتالون على هذا؛ فاعتبروا أنفسهم فرقة ناجية، وأخرجوا غيرهم منهم، وذلك لا يعني إلا شيئا واحدا، وهو هلاك غيرهم.. ولهذا بدل أن يذكروا هلاكهم، ذكروا عدم نجاتهم.. مع أن عدم النجاة لا تعني سوى الهلاك.

أعلم أنك ـ أيها المريد الصادق ـ ستسألني عما ورد في الحديث من افتراق الأمة، ونجاة الواحدة.. ومعاذ الله أن أعقب على كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ألغيه أو أتجرأ عليه، ولكن هذا الحديث لا يدعو إلى الطائفية والدعاوى، وإنما يدعو إلى التواضع والبحث والتجرد للحق، لا التكبر به، فمن يدريه أنه منها.

ولهذا أنكر أئمة الهدى على من يدعون النسبة إليهم، ويتوهمون أنهم قد ضمنوا النجاة بها، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (افترق الناس فينا على ثلاث فرق: فرقة أحبونا انتظار قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا وحفظوا كلامنا وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار، وفرقة أحبونا وسمعوا كلامنا، ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا، فيملأ الله بطونهم نارا يسلط عليهم الجوع والعطش، وفرقة أحبونا وحفظوا قولنا، وأطاعوا أمرنا، ولم يخالفوا فعلنا، فأولئك منا ونحن منهم) ([11])

ولذلك لا تغتر ـ أيها المريد الصادق ـ بمجرد انتسابك للصالحين، أو كونك معهم، أو تكثيرك لسوادهم.. بل افرح بنعمة الله تعالى عليك بذلك، ولا تتكبر بها على غيرك؛ فلو شاء الله لسلب ما أعطاك من المحبة، وما رزقك من الهداية، وجعلها في الذين استكبرت عليهم، أو سخرت منهم.

واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ وأنت في غمرة فرحك بطائفتك التي تتوهم أن الله هداك إليها، أن تسكن نفسك عن البحث، أو أن تجاريها فيما تراه مخالفا للقيم التي جاء بها دينك، فأنت مطالب بالتجرد مع الحقيقة، والدوران معها حيث دارت..

فالمتجرد للحقيقة المخلص لها لا يبالي هل قبلها قومه، أم لم يقبلوها، وهل هي متناغمة مع قومه، أم ليست متناغمة معهم.. بل هو يطلب الحق لذات الحق، لا لأنه وجد قومه عليه.. فمعيار الحقيقة عنده هو كونها حقيقة، لا لكون قومه أو طائفته اعتقدوها أو فعلوها.

ويلزم من هذا أن المتجرد للحق يسمعه من أي كان، ويأخذ الحكمة من أي فم خرجت، ومن أي بلد صدرت.. فهمه الحكمة لا قائلها، ولا مصدرها.. ويلزمه أيضا أن يدور مع الحق حيثما دارت الحقيقة، فبوصلته هي الحقيقة، لا من يزعم أنه يمثلها.

وقد ذكر القرآن الكريم الميزان الدال على التجرد للحق، والتخلص من الأنانية والقومية والعصبية، فقال:﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾(المجادلة:22)

ويعقب القرآن الكريم مبينا العوض الإلهي لهؤلاء الذين باعوا الفرح والزهو بالقومية والشعوبية والعشائرية بفرح الانتماء لله رب العالمين، وهو جزاء لا يمكن تصوره، إلا من ذاقوه، قال تعالى:﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة:22)

واحذر كذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وأنت في غمرة فرحك بطائفتك التي تتوهم أن الله هداك إليها، من أن تجور في أحكامك، أو تحكم لطائفتك على حساب غيرها، فقد نهى الله تعالى عن ذلك، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، فالآية الكريمة تعتبر العدالة ركنا من أركان التقوى، ثم تطالب بتعميم العدالة على الجميع حتى على من يبدون العداوة لنا.

ولذلك وبخ الله اليهود لتمييزهم بين البشر، فقال: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]

ويدخل في هذا الباب أولئك الذين يرمون الأحفاد بجرم الأجداد، فيحملونهم أوزار أسلافهم، مع أن الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]

ويدخل فيهم أيضا أولئك العنصريين الذين يرددون من غير شعور مع الشاعر الجاهلي قوله:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت… غويت، وإن ترشد غزية أرشد

أو ذلك الذي قال:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم… طاروا إليه زرافات ووحدانا

وقال الآخر:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم… في النائبات على ما قال برهانا

أولئك الذين حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)([12])

وقال: (أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا)([13])

وقال: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)([14])

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فالزمها، حتى لا تكون العنصرية والطائفية حجابا بينك وبين ربك، وحتى لا تحول بينك وبين العبودية التي هي مقصد وجودك، وحتى لا تحول بينك وبين المراتب الرفيعة التي يمكنك أن تنالها بصدق إخلاصك وانتسابك لنبيك صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  رواه أحمد الترمذي وابن أبي حاتم.

([2])  رواه أحمد والبزار والدارقطني.

([3])  رواه الإمام أحمد.

([4])  رواه الطبراني في الصغير والأوسط.

([5]) رواه مسلم.

([6]) رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.

([7]) معنى يتألى : يحلف والالية اليمين.

([8])  رواه البخاري في التاريخ.

([9])  رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود .

([10])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود .

([11])  تحف العقول: 514

([12]) رواه أحمد والبيهقي.

([13]) رواه أحمد والبيهقي.

([14]) رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *