التنازع والتفرق

التنازع والتفرق

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التنازع والتفرق والخلاف والشقاق، وآثارها في النفس والمجتمع، وكيفية حماية النفس منها، أو علاجها إن وقعت فيها..

وجوابا على أسئلتك الوجيهة أذكر لك أن ما ذكرته من مثالب من الحجب العظيمة التي تحول بين الإنسان والسير إلى الله، أو التحقق بما يناله السائرون من مواهب إلهية، ومعارف ربانية، وسمو أخلاقي، وقرب من الله وأوليائه الصالحين.

ولذلك؛ فإن أبعد الخلق عن الله مثيرو الفتن، وزارعو الشقاق، ومروجو الخلاف، حتى لو كانوا يقومون كل الليل، ويصومون جميع الدهر، ولا تفتر ألسنتهم عن ذكر الله، ذلك أن مراد الشيطان الأعظم هو الفتنة، ولا يهمه إن قاد تلك الفتنة من ظهر بمظهر العبادة والزهد، أو بمظهر الفسق والفجور.

بل إن الشيطان ـ أيها المريد الصادق ـ قد يكون ميله لأولئك الذين يختصرون العبادة في تلك المظاهر أشد، لأن بلوغه من خلالهم إلى قلوب الناس وعقولهم أيسر وأسهل.

ولذلك عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض مثيري الفتن في هذه الأمة، لم يرمهم بالتقصير في تدينهم الشعائري، وإنما رماهم بالقصور العقلي، والسفاهة الدينية، فقال: (يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم الى قراءتهم شيئا، ولا صلاتكم الى صلاتهم شيئا، ولا صيامكم الى صيامهم شيئا، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية)([1])

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أكبر مآسي الأمة وانحرافاتها ستكون بيد أولئك الذين يشوهون الدين ويملؤونه بالتحريفات، فقال: (إنَّ أخوف ما أخاف على أمَّتي كلّ مُنافق عليم اللِّسان)([2])، وقال: (إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمَّة المضلُّون)([3])

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا ألا نقف مكتوفي الأيدي أمامهم، وإنما دعانا إلى استعمال كل الوسائل للتحذير منهم، ففي الحديث: (يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليفة)([4])

 إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن من الأسس الكبرى للتفريق بين المحافظين على الإسلام المحمدي الأصيل، وغيرهم من المفتونين هو في الموقف من المثلبين اللذين ذكرت.. فمن وقع فيهما خرج إلى الفتنة، حتى لو بدا في ظاهره من العباد والزهاد والعارفين والممتلئين بالتقوى.

ذلك أن وصية الله العظمى لهذه الأمة هي الدعوة إلى وحدتها، وصفاء قلوبها، وتمسكها بمنهج ربها، والبعد عن كل ما يثير الحساسيات بينها.

لقد قال الله تعالى في ذلك موصيا ومحذرا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103)

وهكذا كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، بحفظ وحدتها وتماسكها وإشاعة السلام بينها، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب النّاس يوم العيد، فقال: (يا أيّها النّاس، أيّ يوم هذا؟) قالوا: يوم حرام. قال: (فأيّ بلد هذا؟) قالوا: بلد حرام. قال: (فأيّ شهر هذا؟) قالوا: شهر حرام. قال: (فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا). فأعادها مرارا. ثمّ رفع رأسه، فقال: (اللّهمّ هل بلّغت؟ اللّهمّ هل بلّغت؟)، قال ابن عبّاس: (فو الّذي نفسي بيده، إنّها لوصيّته إلى أمّته فليبلّغ الشّاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض)

وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثر المسلمين بما حصل للأمم الأخرى من التشقق والتصدع، فقال: (عسى أن تدركوا زمانا حتى يغدى على أحدكم بجفنة، ويراح عليه بأخرى، وتلبسون أمثال أستار الكعبة)، قالوا: يا رسول الله، أنحن اليوم خير أم ذاك اليوم؟ قال: (بل أنتم اليوم خير، أنتم اليوم متحابون، وأنتم يومئذ متباغضون، يضرب بعضكم رقاب بعض) ([5])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الكثير من التفاصيل المرتبطة بما يحدث في الأمة من شقاق وصراع، فقال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، وإنّه سيخرج في أمّتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب‏([6]) بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلّا دخله)([7])

وفي حديث آخر يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطّ خطّا ثمّ قال: (هذا سبيل الله)، ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: (هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153])([8])

إياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتوهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك أمته في عماية من أمرها، لا تستطيع التفريق بين المحقين والمبطلين، والسائرين على السراط المستقيم والمنحرفين عنه، كلا.. فيستحيل على الناصح الأعظم الحريص عليها أن يفعل ذلك.

بل إنه فعل ذلك، وفي أحاديث كثيرة، توضح أن الطائفة التي لا تتميز عن غيرها، وتحرص على وحدة الأمة، وتبذل نفسها في سبيل ذلك، هي الحقيقة بوراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيستحيل أن يرثه من ينشر الفتن والتفرقة والطائفية.

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خيار عباد الله الّذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشّاءون بالنّميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبرآء العنت)([9])

فهذا الحديث يشير إلى أن هذه الطائفة الخيرة تمثل الدين أحسن تمثيل، لذلك يذكر كل من رآها الله، ووصف الطائفة الشريرة بالنميمة والتفرق دليل على خلو الطائفة الأولى منها.

بل إن هذا الحديث يشير إلى شر الطوائف، وهم من عبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الباغون للبرآء العنت)، أي الطالبون العيوب القبيحة للشرفاء المنزهين عن الفواحش، وهذا لا ينطبق إلا على أولئك الطائفيين الذين يزورون الحقائق ليفرقوا صف الأمة، وينشروا الفتنة بينها.

وبذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يذكر للطائفة الشريرة ثلاث صفات: أولها السعي بالفساد وحب الشقاق وإيقاد نار العداوة.. وثانيها إثارة الخصام والتنافر بين المتصافيين.. وثالثها كيل التهم للأبرياء والكذب والبهتان عليهم.

بل إن القرآن الكريم أشار إلى سمات الطائفة الخيرة الحريصة على الوحدة بين المسلمين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54]

فهذه الآية الكرية تصف هؤلاء المستبدل بهم عندما يرتد الناس، ويتخلفوا عن شريعة ربهم، بكونهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }، وهو دليل على احترامهم لجميع المؤمنين، ومن جميع الطوائف، وحرصهم على الوحدة بين المسلمين.

وبذلك فإن هذه الطائفة هي المشار إليها بقوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر: 32]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ([10])

ولذلك، فإن من أولى أولويات السلوك إلى الله البحث عن هذه الطائفة، والسير معها، وخذمة الأمة من خلالها؛ فلا يمكن أن يفتح الله تعالى على مؤمن طرق الهداية، وهو يحمل الأحقاد على إخوانه المسلمين، أو يثير النعرات بينهم، أو يفتي أو يزكي من يقتلهم ويبيدهم.. فهو بذلك قاتل وظالم شعر أو لم يشعر.

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وأردت أن تلتحق بتلك الطائفة الخيرة التي ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن وراثة، فاسمع لما سأورده لك من أدوية مقدسة تفيدك في دنياك وأخراك، حتى تلقى الله وأنت سليم القلب على كل مسلم، بل على كل إنسان.

العلاج المعرفي:

أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ للتخلص من هذا المثلب الخطير، وثماره الممتلئة بالسمية هي أن تعلم أن الساعين في الفرقة والناشرين للفتن محاربين لله تعالى، ومتشبهين بالشيطان، ذلك أن الله تعالى أخبر أنه الذي يؤلف بين القلوب، فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:63)، وهو يدل على أن الساعي لذلك متخلق بهذا الخلق الرباني العظيم.

وبخلافه الذي يفرق ويفتن وينشر القطيعة، فهو ساع في خلاف النعمة الإلهية، وهو متشبه بالشيطان، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } [المائدة: 91]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ الشّيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن في التّحريش بينهم‏([11]))([12])

وقال في حديث آخر: (إنّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثمّ يبعث سراياه. فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجي‏ء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثمّ يجي‏ء أحدهم فيقول: ما تركته حتّى فرّقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت)([13])

ولذلك؛ فإن ما يميز أولياء الله عن أولياء الشيطان هو التآلف والتنازع؛ فأولياء الله هم الساعون لتأليف القلوب ونشر المحبة، وأولياء الشيطان هم الساعون لنشر البغضاء والفتنة والصراع.

وهم يشبهون في ذلك اليهود الذين عاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستعملوا كل الوسائل للتفريق والفتنة، ومن الأمثلة على ذلك ما فعله شاس بن قيس ـ وكان شيخاً يهودياً شديد الضغن على المسلمين ـ حيث مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: (قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار)، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال: (اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار)، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: (إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة)، يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم، وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: (قد فعلنا، موعدكم الحَرَّة.. السلاح السلاح)، فخرجوا إليها، وكادت تنشب الحرب.

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم) ([14])

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.

هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ الفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان في هذه الحادثة؛ فأولياء الله يسعون في التأليف بين القلوب، وفي منع أي شيء يثير البغضاء والأحقاد والفتن، ولا يفرحون إلا إذا رأوا الناس يبتسم بعضهم لبعض، ويصافح بعضهم بعضا.

أما أولياء الشيطان، فهم الذين يستعملون كل الوسائل لقطع ما أمر الله أن يوصل، وهدم ما أمر الله أن يبنى، ولو كان ذلك عن طريق بناء المساجد، كما قال تعالى عن المسجد الذي بناه المنافقون والمشركون واليهود وكل أعداء الإسلام، لحرب الإسلام من داخله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]

لا تحسب ـ أيها المريد الصادق ـ أن ذلك هو مسجد الضرار الوحيد، بل إن مساجد الضرار في هذا العصر وفي غيرها من العصور، أكثر من أن يعدها العاد.. فكل مسجد يصبح محلا للفتنة، لا للسلام.. ولتشتيت القلوب، لا لطمأنينتها.. ولتفريق الأمة، لا لتوحيدها هو مسجد ضرار، وضرره أكثر من نفعه.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن السبب الأكبر في تخلف الأمة، وما حصل فيها من الفتن والإرهاب والعنف ليس له سبب سوى ذلك التنازع والتفرق الذي غذاه الشيطان بين المؤمنين، وبقيادة من يعتبرون أنفسهم ـ زورا وبهتانا ـ أولياء للأمور، سواء كانوا من الحكام أو العلماء.

وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]

وهي تشير إلى أن التنازع والتفرق هو السبب في كل فشل وقعت فيه الأمة، سواء في قيمها وأخلاقها، أو في دينها وإيمانها..

ولهذا ورد في الحديث عن ابن عبّاس قال: لمّا اشتدّ بالنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجعه قال: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده) قال عمر: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللّغط، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التّنازع)، فخرج ابن عبّاس يقول: (إنّ الرّزيّة كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين كتابه)([15])

فانظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف تسبب ذلك النزاع في حرمان الأمة من وصية نبيها، تلك الوصية التي وصفها بكونها صمام الأمان الذي يحفظها من الضلالة.

وهكذا ورد في حديث آخر بيان أثر النزاع في حرمانها من معرفة ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر؛ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة) ([16])

وهكذا ورد في حديث آخر بيان أثر النزاع في الحرمان من بركات القرآن الكريم وهديه، فقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه، وهم يتنازعون في القدر هذا ينزع آية وهذا ينزع آية، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج كأنّما فقي‏ء في وجهه حبّ الرّمّان فقال: (بهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض! إنّما ضلّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنّكم لستم ممّا ههنا في شي‏ء، انظروا الّذي أمرتم به فاعملوا به، والّذي نهيتم عنه فانتهوا)([17])

وهذا الحديث ـ أيها المريد الصادق ـ يشير إلى أخطر أنواع النزاع، وهو ذلك النزاع الذي أشار إليه قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67]، وهو اعتبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شخصا عاديا يمكن مناقشته وانتقاده ورد ما يقول، والغفلة عن كونه رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، ولذلك أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالرد على من ينازعونه بقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68، 69]

ولذلك؛ فإن كل ما حصل من صراع وفتنة وضلال في الأمة سببه التقديم بين يدي الله ورسوله، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 24، 25]

وقد ضرب الله تعالى للمؤمنين بذلك المثل الذي حصل في غزوة أحد، عندما خالف الرماة أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتسببهم في الهزيمة التي كادت تودي بالإسلام والمسلمين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]

وقد ورد في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمأنه قال: جعل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الرّجّالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا، عبد الله بن جبير فقال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطّير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتّى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتّى أرسل إليكم)، فهزموهم، فقال أصحاب ابن جبير: الغنيمة أي قوم! الغنيمة؛ ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: والله لنأتينّ النّاس فلنصيبنّ من الغنيمة فلمّا أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرّسول فى أخراهم، فلم يبق مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منّا سبعين([18]).

هذا الحديث ليس خاصا بغزوة أحد ـ أيها المريد الصادق ـ بل هو درس وعبرة وإخبار بكل ما وقع في التاريخ والواقع الإسلامي من مآس.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته الصادقون بريئون منها، لأن الذي تسبب فيها هم أولئك الذين لم يعطوا النبوة حقها، فراحوا يقدمون آراءهم واجتهاداتهم وظنونهم وأهوائهم على ما ورد في كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وهدي ورثته الصادقين الذين أوصى بهم، ودل عليهم.

وقد أخبر الله تعالى عن ذلك، وحذر منه، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [البقرة: 176]

وأخبر عن منابع ذلك الشقاق، فقال: { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الجاثية: 17]

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وتوفرت فيك العزيمة على حماية نفسك من هذين المثلبين الخطيرين؛ فاستشعر صلتك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واجعله قائدك الأعلى، وقدوتك الأعظم، واعتبر نفسك جنديا من جنوده الحريصين على وحدة أمته، والمحافظين على صفاء دينه.

ولذلك لا تتعامل مع أفراد أمته وفق ما أداك إليه اجتهادك وبحثك ونظرك، فليسوا كل الناس لهم من القدرات ما لك؛ فلذلك احرص على أن تتعامل معهم بالرحمة والألفة والمحبة.. لا بكونك صاحب الحق المطلق، وهم أصحاب الباطل المطلق.

واعتبر بما فعله هارون عليه السلام وحرصه على وحدة بني إسرائيل، كما قال تعالى مخبرا عن عذره في موقفه مما فعله السامري: {يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مراعاته لقومه في بعض الأمور الجزئية، خشية الفتنة عليهم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثوعهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر)([19])، فقد امتنع صلى الله عليه وآله وسلم من تجديد بناء الكعبة خشية فتنة من أسلم حديثا.

وهكذا فعل أئمة الهدى من بعده، والذين حرصوا على حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمته، وقد روي أنه قيل للإمام الصادق: إن لنا إماماً مخالفاً، وهو يبغض أصحابنا كلهم؟ فقال: (ما عليك من قوله، والله لئن كنت صادقاً لأنت أحق بالمسجد منه، فكُنْ أول داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس، وقُلْ خيراً)([20])

وقال مخاطبا أحد أتباعه: (يا إسحاق، أتصلي معهم في المسجد؟) قلت: نعم، فقال: (صلِّ معهم؛ فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله)([21])

وقال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ثم قال: (عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم) ([22])

وقال: (خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدِّب أصحابه. وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدِّب أصحابه)([23])

وقد ذكر الإمام مالك كيفية معاملة الإمام الصادق له، فقال: (والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد زهداً وفضلاً وعبادة وورعاً، وكنت أقصده فيكرمني ويقبل عليّ)([24])

وقال: (كنت أدخل إلى الصادق جعفر بن محمد فيقدم لي مخدّة ويعرف لي قدراً، ويقول: يا مالك، إني أحبّك، فكنت أُسَرُّ بذلك، وأحمد الله عليه)([25])

هكذا كان أئمة الهدى، وورثة النبوة؛ فإياك أن تقع فيما وقع فيه من يزعمون أنهم أتباعهم، لكنهم أبعد الناس عنهم.. فالصادق في اتباعهم هو الحريص على الأمة ووحدتها، والساعي في خدمتها ومصالحها.

ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ بل اسع لأن توحد قلوب المؤمنين، وتجمع صفهم، وتقرب بينهم وبين مذاهبهم، فذلك من أفضل الأعمال الصالحة، ولا تنظر لمن ينهاك عن ذلك أو يحذرك منه، فهو لا يعرف الدين ولا قيمه.

ولو أن أولئك الذين يحذرون من هذا قرأوا القرآن الكريم لعرفوا أن من أغراض التنوع والاختلاف بين البشر التعارف، لا الصراع، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فالآية الكريمة لا تدعو إلى التقارب بين المذاهب في الدين الواحد فقط، بل تدعو إلى التقارب بين الأمم والشعوب جميعا بمختلف أديانها وأعراقها وتوجهاتها الفكرية، لأنه لا يمكن للبشر أن يحققوا كمالهم الإنساني في ظل الصراع والتباعد.

وهكذا أخبر الله تعالى عن الرسالة العالمية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وهذا يقتضي من المسلمين العمل على كل ما ييسر وصول هذه الرحمة الإلهية للناس أجمعين، وذلك لا يكون إلا بالتقارب والتآلف معهم، بل والصبر عليهم حتى تصل إليهم الرسالة مضمخة بعطر الرحمة والألفة والمودة.

وهكذا أخبر الله تعالى عن الرسالة الكبرى التي أناط بها هذه الأمة، وهي مهمة الشهادة على الأمم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143)، وهي تعني أن يقوم المسلمون بنفس الدور الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو الأمم المختلفة، لتنصاع لأمر الله بمحبة ومودة، لا بشدة وإكراه.

وقد قال تعالى يبين كيفية أداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدوره الدعوي مع العرب الذين عاش معهم، والمعروفين بشدتهم وغلظتهم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]، فهل يتصور عاقل بأن يدخل العرب إلى دين الله باللين والرحمة، ويدخل غيرهم فيه بالشدة والعنف؟

ولهذا دعا الله تعالى الدعاة إلى استعمال كل أساليب الهداية ووسائلها، والتي اجتمعت في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]، وهذه الوسائل والأساليب جميعا تستدعي التقارب، لأنه لا يمكن أن نعظ أو نحاور ونخاطب من تحول بيننا وبينه الحجب المادية والمعنوية الكثيرة.

بل إن القرآن الكريم لم يكتف بذلك جميعا، وإنما ذكر لنا نماذج الحوار مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع ما يحملونه في عقائدهم مشوهة لله، ممتلئة بالتجسيم والتشويه، ومع ذلك يقول الله تعالى داعيا إلى التقارب معهم: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]

انظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف اعتبر الله تعالى إلههم ـ أي إله اليهود والنصارى ـ هو نفسه إله المسلمين مع ما يحملونه في دينهم عن الله من تشويه، ومع ذلك لم يقطع الصلة بهم، بل لم يقطعها حتى بعد رفضهم لتلك الدعوة، فليس في النصوص القرآنية أي دعوة لقطع العلاقة مع أي دين من الأديان، أو شعب من الشعوب إلا مع المحاربين الذين يأبون الحديث إلا بلغة السيف.

إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن سعيك للوحدة وتأليف القلوب لا يعني أن ترضي من تحاوره، فلا ترد له رأيا، ولا تفند له حجة، حرصا على قلبه؛ فالأمر ليس كذلك.. بل إن التنازع في مثل هذا مشروع، ولا حرج فيه، ولو أدى إلى غيظ محاورك، ما دمت ملتزما بالأدب معه.

ولهذا وصف الله تعالى المؤمنين بالتنازع، ولم ينفه عنهم، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء: 59]

لكنه بين أنه في حال تنازعهم يرجعون لله ورسوله وأولي الأمر منهم.. فإن فعلوا ذلك كان نزاعهم طيبا، ومشروعا، لكنهم إن لم يفعلوا، واستبدوا بآرائهم وأهوائهم، يكونون في ذلك الحين قد وقعوا في النزاع الحقيقي المحرم.

ومن هذا النوع من النزاع المشروع، ما أخبر الله تعالى من الخلاف الذي وقع بين قوم أهل الكهف من المؤمنين في كيفية تكريمهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]

لكن هذا ـ أيها المريد الصادق ـ لا يكون إلا بصحبة الأدب والأخلاق الرفيعة وطهارة النفس من كل ما يسيء إلى الألفة والمحبة والأخوة.. فإن حصل ذلك كان التنازع مرضا ومثلبا خطيرا.

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على تنفيذها، وطهر قلبك على جميع الخلق إلا من أمرت بعداوتهم، فعادهم باسم الله لا باسمك، وإياك أن تجعل من البغض في الله([26]) وسيلة لملء قلبك بالأحقاد.. فالبغض في الله لا يكون إلا في القلوب الطاهرة التي لا تتصرف مشاعرها إلا وفق ما يرضاه الله.


([1]) رواه مسلم وابو داود وابو عوانة.

([2]) رواه الطبراني في الكبير والبزار ورواته محتج بهم في الصحيح.

([3]) رواه أحمد وغيره.

([4]) رواه ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والطبراني في الكبير والحاكم.

([5]) رواه احمد، والحاكم وصححه، والبيهقي.

([6]) يتجارى الكلب: الكلب داء يعرض للكلب، إذا عض حيوانا عرض له أعراض قاتلة، فإذا تجارى بالإنسان هلك.

([7]) أبو داود(4597) وأحمد(4/ 102) برقم(16940)

([8]) أحمد(435، 465)، وابن حبان(1741)، والحاكم(2/ 318) وأقره الذهبي.

([9]) أحمد(4/ 227) (6/ 459)

([10]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

([11]) ولكن في التحريش بينهم: أي ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها.

([12]) مسلم(2812)

([13]) مسلم(2813)

([14]) سيرة ابن هشام (1/ 556)

([15]) البخاري [فتح الباري]، 1(114)

([16]) البخاري: 2023.

([17]) أحمد في المسند(2/ 196) ح(6857)، وله شاهد عند ابن ماجه(85) عن ابن عمرو، وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

([18]) البخاري [فتح الباري]، 6(3039)

([19]) مسلم، رقم [401]

([20]) وسائل الشيعة، حديث رقم 10721.

([21]) وسائل الشيعة، حديث رقم 10723.

([22]) وسائل الشيعة، حديث رقم 10724.

([23]) جامع أحاديث الشيعة، حديث رقم 10995.

([24]) بحار الأنوار 47: 20.

([25]) بحار الأنوار 47: 16.

([26]) سنعرض لمعنى البغض في الله والفرق بينه وبين القطيعة في الرسالة التالية.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *