العجلة والطيش

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن العجلة والطّيش وما يرتبط بهما من النّزق وخفّة العقل، وما يؤديان إليه من التهور والتسرع والحمق والسفاهة، وما يقضيان عليه من التأني والحلم والرفق والوقار.. ومنابع ذلك، وثماره، وكيفية تخليص النفس الأمارة منه.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن العجلة هي أم كل ما ذكرت من مثالب، ومعدنها، ومنبعها، فهي تؤدي إلى الطيش والتسرع في اتخاذ القرارات، وكل ذلك يجعل المتخلق بها متهورا سفيها، تغلب عليه الحماقة، ويبتعد عنه الوقار والحلم والتؤدة.
ولذلك وصف الله تعالى بها الملأ الذين واجهوا الأنبياء عليهم السلام، وردوا قولهم، واعترضوا على الحجج التي جاءوهم بها مع وضوحها وقوتها.. ولو أنهم اتأدوا قليلا، ورجعوا إلى أنفسهم، وأتاحوا لعقولهم الفرصة للتفكر والتأمل والتدبر، لربما كان حالهم مختلفا تماما.
ولهذا اتفق الحكماء على أن (الأناة حصن السّلامة، والعجلة مفتاح النّدامة)، وقالوا: (التّأنّي مع الخيبة خير من التّهوّر مع النّجاح)([1])
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن (التأنّي من الله، والعجلة من الشّيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحبّ إلى الله من الحمد)([2])
وأثنى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الرفق الناتج عن الهدوء والتؤدة، فقال: (إنّ الله عزّ وجلّ ليعطي على الرّفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحبّ الله عبدا أعطاه الرّفق. ما من أهل بيت يحرمون الرّفق إلّا حرموا)([3])
وهكذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن السفهاء الذين يظهرون في أمته، ليشوهوا الدين بخفة عقولهم، وعجلتهم، وتسرعهم في اتخاذ القرارات من غير علم ولا حكمة، فقال: (يأتي في آخر الزّمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البريّة، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)([4])
وفي وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء المنحرفين عن سنته بحداثة السن، وسفاهة العقل، ما يشير إلى أن سبب ما وقعوا فيه استعجالهم، ذلك أن الشباب مقترن في أصله بالعجلة الناتجة عن قلة الخبرة، ولذلك كان الشباب الحكيم هو الذي يرجع للشيوخ والعلماء وأصحاب الخبرة، ولا يستبد بأي قرار دونهم، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } [الأحقاف: 15]، وهي تشير إلى الاستواء والاشتداد واكتمال العقل مرتبط بتلك السن.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لهذه الأدوية الربانية التي استخلصتها لك من أشجار الهداية المقدسة، فاشربها بكل كيانك، عساها تنقذك من شر نفسك الأمارة، لتلبسك لباس نفسك المطمئنة.
العلاج المعرفي:
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ للتخلص من العجلة وما يرتبط بها من مثالب علمك بخطرها وآثارها على حقيقتك ومصيرك وجميع مصالحك.
وأول تلك المخاطر ما أشار إليه القرآن الكريم من كونها السبب في الحيلولة بين البشر والإيمان ومقتضياته، فقال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ } [القيامة: 20، 21]، وقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } [الإنسان: 27]
وهي تشير إلى ما يعبر عنه المغرورون بقولهم: (النقد خير من النسيئة)، أو (اليوم خمر وغدًا أمر)، أو (عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة)، ويقصدون بذلك اغتنام اللذات العاجلة الحاضرة، وعدم التضحية بها في سبيل اللذات الآجلة الغائبة.
ولهذا أخبر الله تعالى أنه يمدهم بما يريدونه، لكنه إمداد يضرهم، ولا ينفعهم، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]
وحال هؤلاء حال ذلك المريض الذي نهاه الطبيب عن بعض الأكلات التي قد تضره، لكنه راح لا يبالي لأن اللذات حاضرة، ونفسه تشتهيها، والمرض آجل، ولم يحن حينه، ولذلك لا يضر مثل هذا إلا نفسه.
وهكذا أخبر القرآن الكريم عن تسرع أقوام الأنبياء في الرد على أنبيائهم من غير إتاحة الفرصة لعقولهم لسماع حججهم، والنظر فيها، فقال مخبرا عن موقف ثمود من نبيهم صالح عليه السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [النمل: 45، 46]
وأخبر عن موقف عاد من نبيهم هود عليه السلام، واستعجالهم للعذاب الذي حذرهم منه، فقال: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]
وأخبر عن موقف قوم موسى، واستعجالهم لعبادة العجل مباشرة بعد غياب نبيهم، فقال: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } [الأعراف: 150]
وأخبر عن قريش وغيرها من القبائل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف صدتهم العجلة عن الإيمان، فقال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36]
وهكذا أخبر عن استعجالهم للعذاب الذي حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6]، وقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، وقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 53، 54]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تدل على ذلك الطيش الذي تميز به أقوام الأنبياء عليهم السلام، والذي وصل بهم إلى حد سؤال العذاب، ليروا الدليل الحسي على صدق نبيهم، قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) } [المعارج: 1 – 2]
ولهذا، فإنهم ـ بدل أن يتفكروا في الأدلة التي ذكرها القرآن الكريم ليوم القيامة وما يرتبط بها من البعث والنشور ـ راحوا يسألون عن الموعد، وكأن تأخر موعدها هو البرهان على عدم وقوعها، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 38]
ولهذا رد عليهم القرآن الكريم بأن أمرها بيد الله، وهو الذي يحدد أجلها، لا استعجالهم، قال تعالى: { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 40] ، وقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 71، 72]
وأخبر عن التوبيخ الذي يلقونه في جهنم، نتيجة اكتفائهم بالسؤال عن الساعة بدل التحضير لها، فقال واصفا حال المشركين عندما تذكر أمامهم القيامة: { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12]، ثم رد عليهم متهكما بقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14]
وقد لقن الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقوله لهم عندما يسألونه عن الساعة، فقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } [سبأ: 29، 30]، وقال: {يَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 48، 49]، وقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك: 25، 26]
وكل هذه الإجابات تدلك ـ أيها المريد الصادق ـ على دواء مهم من أدوية العجلة والطيش، وهو الاهتمام بأداء الواجب، لا بالنتيجة التي يؤول إليها.. فالعامل الصادق هو الذي يقدم عمله لله تعالى بكل إخلاص وصدق وإتقان، ثم يتركه لله، ليربيه كيف يشاء، ويجازيه عليه متى شاء.
ويشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل) ([5])
ويشير إليه ما ورد في النصوص المقدسة من نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن استعجال الهداية أو طلبها لمن لم تتوفر فيه شروطها، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:272)، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (الكهف:56)
ذلك أن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاصر على أداء ما كلف به من التبليغ، ثم ترك شؤون الخلق لله، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الزمر:41)، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (عبس:21)
وغيرها من الآيات الكريمة التي تدعو إلى أداء الواجب، ثم ترك النتائج لله تعالى، مثلما يفعل الفلاح الذي يغرس أشجاره، ويعتني بها، دون أن يستعجل ثمارها، لأن لها أجلها الخاص بها.
وخطر الاستعجال ليس في ذلك فقط، بل إنه قد يحول بين الإنسان وتحقيق طلبه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يبين دور العجلة في عدم استجابة الدعاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول: دعوت فلم يستجب لي)([6])
وذلك يشبه من يقطف الثمار قبل بدو صلاحها؛ ولو أنه تمهل قليلا، لأكلها طيبة صالحة، لكن العجلة حالت بينه وبين ذلك، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)([7])
وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ما هو أعظم من ذلك كله، فعن سهل بن سعد أنّه قال: إنّ رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إلى هذا، فاتّبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ النّاس على المشركين حتّى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتّى خرج من بين كتفيه فأقبل الرّجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسرعا فقال: أشهد أنّك رسول الله، فقال: وما ذاك؟ قال: قلت لفلان من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنّه لا يموت على ذلك، فلمّا جرح استعجل الموت فقتل نفسه. فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: (إنّ العبد ليعمل عمل أهل النّار وإنّه من أهل الجنّة، ويعمل عمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النّار، وإنّما الأعمال بالخواتيم)([8])
وفي هذا الحديث إشارة إلى ما يقوم به السفهاء وأصحاب الطيش من إفساد أعمالهم التي تعبوا فيها، بسبب مواقف بسيطة كان في إمكانهم الاستغناء عنها، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]
ولهذا كان للإيمان بالجزاء الأخروي أثره الكبير في تربية النفس على التؤدة والرفق، لأن العامل لا ينتظر إلا جزاء ربه، ولذلك يعلم أن ثمرة عمله الحقيقية لن ينالها في الدنيا، وإنما عند الله تعالى.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الرفق ـ الذي هو ضد العجلة ـ هو جمال كل عمل، فقال: وقال: (إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه) ([9])
ولهذا دعا إلى استعمال الرفق في كل شيء، فقال: (إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه)([10])، وأخبر أن (من يحرم الرفق يحرم الخير) ([11])
وأخبر أن الشؤم والعاقبة السيئة في الطيش والنزق والعجلة، بخلاف الرفق الذي هو يمن وبركة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( الرفق يمن والخرق شؤم) ([12])
ولهذا كله ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمال الصورة الحسية للرفق، والتي يتجلى بها في الآخرة لصاحبها، فقال: (لو كان الرفق خلقا يرى ما كان مما خلق الله عز وجل شيء أحسن منه)([13])
فتأمل ـ أيها المريد الصادق ـ فيما ذكره لك نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لا ينطق عن الهوى، ولا يمكنك أن تستعين على نفسك إلا بمثل هذه الأدوية التي ترهبك من العجلة وخطرها على نفسك ومصيرك، وترغبك في الدواء المضاد لها، وهو الرفق والهدوء والتؤدة والسكينة.
العلاج السلوكي:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وتوفرت فيك العزيمة على حماية نفسك من العجلة والطيش والنزق وآثارها، فتثبت في كل أمورك، ولا تستعجل في اتخاذ قراراتك، وتأن في تنفيذها حتى توفر الشروط الملائمة لها.
لكنه إذا اكتملت لديك القناعة بضرورة العمل، وتوفرت فيك القدرات على تنفيذه، وساعدتك البيئة المناسبة لذلك، فإياك أن تقصر في التنفيذ بحجة ما ورد من النصوص المقدسة في النهي عن العجلة، فهي نصوص مقيدة بالعجلة السلبية الممتلئة بالطيش، أما العجلة الإيجابية فهي دليل على النشاط والقوة والصدق.
ولذلك أخبر الله تعالى أن فطرة الإنسان تحتوي على هذا الخصلة في تركيبها، فقال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]؛ ثم بين الوجهة السلبية التي استعملها المنحرفون لهذه الخصلة، فقال: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 37، 38]
ذلك أن العجلة التي يدعو إليها الإيمان باليوم الآخر، ليس المطالبة بتسريع موعده، وإنما المسارعة إلى الأعمال الصالحة، كما قال تعالى في التفريق بين المؤمنين وغيرهم: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 17، 18]
وقد روي في الحديث أن أعرابيا نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك إن الساعة آتية، فما أعددت لها؟) قال: (ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المرء مع من أحب)([14])
ولهذا، فإن العاقل هو الذي يوجه العجلة التي طبع عليها إلى عجلة في الحق، والعمل الصالح، كما قال تعالى داعيا إلى ذلك: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133]
ووصف موسى عليه السلام ومسارعته لرضى ربه، فقال:﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)﴾ (طه)
وأخبر عن زكريا وغيره من أنبياء الله ومسارعتهم في الخيرات، فقال:﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)﴾ (الأنبياء)
وأخبر عن مسارعة من قبلنا من الصالحين من أهل الكتاب للخيرات، فقال:﴿ لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)﴾ (آل عمران)
وأخبر عن صفة المؤمنين في كل الأزمنة، ومسارعتهم للخيرات، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)﴾ (المؤمنون)
وأمر المؤمنين بأن يحرصوا على الأولية التي لا يصلها إلا المسارعون، قال تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)﴾ (الأنعام)، وقال: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)﴾ (الزمر)
وأخبر عن موسى عليه السلام وحرصه على الأولية في الخير، فقال:﴿ وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾ (الأعراف)
وأخبر عن فضل الورثة السابقين من المؤمنين، فقال:﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾ (فاطر)
وأخبر عن فوز السابقين دون المتكاسلين، فقال:﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)﴾ (الحديد)، وقال :﴿ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)﴾ (المطففين)
وهذه النصوص جميعا تدل على العجلة الحسنة.. وهي العجلة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (التؤدة([15]) في كلّ شيء إلّا في عمل الآخرة)([16])
وبين أسباب الدعوة إليها، فقال في أحاديث متعددة بصيغ مختلفة: (بادروا بالأعمال سبعا: هل تنظرون إلّا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدّجّال، فشرّ غائب ينتظر، أو السّاعة فالسّاعة أدهى وأمرّ)([17])
وقال: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع اللّيل المظلم، يصبح الرّجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدّنيا)([18])
وقال: (تبادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشّمس من مغربها، والدّجّال، والدّخان، ودابّة الأرض، وخويصة أحدكم، وأمر العامّة)([19])
وقال: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)([20])
وبين سعة أجر المسارعين للخيرات مقارنة بغيرهم، فقال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرّب بدنة، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجة، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر)([21])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه بالغزو، وأنّ رجلا تخلّف وقال لأهله: أتخلّف حتّى أصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الظّهر ثمّ أسلّم عليه وأودّعه فيدعو لي بدعوة تكون شافعة يوم القيامة. فلمّا صلّى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أقبل الرّجل مسلّما عليه فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم :(والّذي نفسي بيده لقد سبقوك بأبعد ما بين المشرقين والمغربين في الفضيلة)([22])
ودعا إلى المنافسة التي تستدعي التعجيل والمسارعة، فقال: (لا تنافس بينكم إلّا في اثنتين: رجل أعطاه اللّه عزّ وجلّ القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار ويتّبع ما فيه فيقول رجل: لو أنّ اللّه تعالى أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأقوم به كما يقوم به. ورجل أعطاه اللّه مالا فهو ينفق ويتصدّق فيقول رجل: لو أنّ اللّه أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدّق به)([23])
بل مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه هذه المسارعة، ففي الحديث عن أنس قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أحسن النّاس، وأشجع النّاس، وأجود النّاس، ولقد فزع أهل المدينة، فكان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبقهم على فرس، وقال: (وجدناه بحرا)([24])
وهكذا وردت النصوص الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى في الدعوة إلى انتهاز الفرص وابتهالها وعدم تضييعها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يدرى متى يغلق عنه) ([25])
وقال:(ترك الفرص غصصن؛ فالفرص تمر مر السحاب) ([26])
وقال الإمام علي: (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير) ([27])، وقال: (إضاعة الفرصة غصة) ([28])
وأكد ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ واهتم به بعد الوقوع في السيئة حتى تسرع إلى محوها قبل تمكنها من نفسك، وقد قال الله تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 17]، ثم قال بعدها في المقصرين المسوفين أصحاب الأمل الطويل: {) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء: 18]
وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتّق الله حيثما كنت، وأتّبع السّيّئة الحسنة تمحها، وخالق النّاس بخلق حسن) ([29])
فاقرأ هذه النصوص المقدسة ـ أيها المريد الصادق ـ وانتفع بها في علاج نفسك، وتقويم أخلاقك، فهي التي توجه تلك الطبيعة التي طبعت عليها إلى مجالات الخير والصلاح، لتنتفع بذلك في دنياك وآخرتك.
واعلم أن العجلة المحمودة هي ما كانت ناشئة عن تقدير دقيق للآثار والعواقب، وعن إدراك تام للظروف والملابسات، وعن حسن إعداد وجودة ترتيب.. أما العجلة السيئة، فهي ما كانت مجرد ثورة نفسية، خالية من تقدير العاقبة ومن الإحاطة بالظروف والملابسات، ومن أخذ الأهبة والاستعداد.
وقد قال بعض الحكماء لبعض مريديه، وقد رآه مقصرا متباطئا بحجة عدم الاستعجال: (ينبغي لمن يقدر على ابتداء المعروف أن يعجله حذر فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بقدرته عليه، فكم واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا.. ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب مكره، لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مخبورة. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح)، وقيل لأنوشروان: ما أعظم المصائب عندكم؟ فقال: أن تقدر على المعروف ولا تصطنعه حتى يفوت، وقال عبد الحميد: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها) ([30])
ثم أنشده قول بعض الشعراء([31]):
إذا هبت رياحك فاغتنمها … فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها … فما تدري السكون متى يكون
وإن درت نياقك فاحتلبها … فما تدري الفصيل لمن يكون
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تنفذها، فإن فيها خير الحياتين،
الدنيا والآخرة، واعتبر بأولئك الذين استعملوا عجلتهم في غير موضعها، فدهستهم
وحطمتم، ولم يستطيعوا النهوض بعدها.. والعاقل من اعتبر بغيره، واستفاد مما حصل
لسواه.
([1])التمثيل و المحاضرة( 420)
([2]) أبو يعلي( 4/ 206)/ 4240، و البيهقي( 10/ 104)
([3])الطبراني في الكبير( 2/ 306)/ 2274.
([4]) البخاري [فتح الباري]، 6( 3611)
([5]) الطيالسى (ص 275، رقم 2068) ، وأحمد (3/191، رقم 13004) ، وعبد بن حميد (ص 366، رقم 1216) ، والبخارى فى الأدب المفرد (1/168، رقم 479)
([6]) البخاري [فتح الباري]، 11( 6340) و اللفظ له، و مسلم( 2735)
([7]) البيهقي في السنن الكبرى (3/ 18)
([8]) البخاري [فتح الباري]، 11( 6607) و اللفظ له، و مسلم( 112)
([9]) رواه مسلم.
([10]) متفق عليه و قد تقدم.
([11]) رواه مسلم.
([12]) الكافي 2 : 119
([13]) الكافي 2 : 120
([14]) رواه مسلم.
([15]) التؤدة: التأني والتمهل والرزانة.
([16]) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي.
([17]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
([18]) رواه مسلم.
([19]) رواه أحمد وابن ماجة.
([20]) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
([21]) رواه البخاري.
([22]) رواه أحمد.
([23]) رواه البخاري ومسلم.
([24]) رواه البخاري.
([25]) العوالي 289
([26]) العوالي 291
([27]) نهج البلاغة 1086
([28]) نهج البلاغة 1131
([29]) الترمذي (1987) وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد (5/ 153)
([30]) أدب الدنيا والدين (ص: 202)
([31]) أدب الدنيا والدين (ص: 203)