اليأس والقنوط

اليأس والقنوط

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن اليأس والقنوط، وما يثمران من التطير  اليالالتطير والتشاؤم، وما يرتبط بهما من ضيق الصدر والعبوس والتجهم والتقطيب والجفاء وغلظ الطبع وقلة البشاشة.. وعن المنابع التي تنبع منها، والثمار التي تثمرها، وطريق العلاج الذي يسد منافذها عن النفس.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن اليأس والقنوط قد يكون سببا لما ذكرت من ثمار.. وقد لا يكون سببا لها.. ذلك أن العبوس القمطرير قد لا يكون سبب عبوسه وتجهمه يأسه، ولا قنوطه، ولا تشاؤمه، وإنما طبع طبع نفسه عليه، أو كبر استحوذ على نفسه؛ فصار لا يستطيع الفكاك منه.

ولذلك بدل أن أحدثك عن تفاصيل الأعراض التي وصفت.. أحدثك عن المنابع التي قد يكون ما ذكرت من ثمارها، وقد يكون الكبر أو العجب أو الغرور أو غيرها من المثالب هي المنابع التي تنبع منها، وقد سبق لي الحديث معك عنها.

أما اليأس والقنوط، فهما مثلبان خطيران يحولان بين النفس وبين التحقق بكل الكمالات المتاحة لها، لأنهما يمتدان إلى محال العزيمة والإرادة في الإنسان، ليملآها بالعجز والوهن.

وهما لا يفعلان ذلك فقط في عالم النفس، بل يمتدان إلى ما هو خارجها، فاليائس ينظر إلى الحياة نظرة سوداوية مملوءة بالتشاؤم، تجعله لا يفكر في شيء كما يفكر في التخلص منها.

ولذلك لم يكن هذان المثلبان مضادين للأخلاق الطيبة فقط، وإنما هما مضادان للإيمان ومتناقضان معه في كل الجوانب؛ ذلك أنه لا ييأس إلا من لا يعرف الله ورحمته ولطفه وكرمه، فيتوهم الكون بصورة عبثية، ويتصور خالقه ـ إن كان يؤمن به ـ بصورة مشوهة مملوءة بالكدورة.

وهكذا ينظر إلى الحياة بتلك النظرة المادية التي تختصرها في هذه الدنيا المحدودة الضيقة الممتلئة بأصناف المنغصات وألوان البلاء.. والتي يتعجب من سر وجودها، وسر وجوده فيها، كما قال الله تعالى مخبرا عنهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } [الممتحنة: 13]

ولهذا وصف الله تعالى الإنسان الخالي من الإيمان بمسارعته إلى اليأس والقنوط، لأي نازلة تنزل به، قال تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]

وذكر تأثير النعمة السلبي عليه، فقال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]

ثم ذكر المستثنين من هذا المثلب الخطير، فقال: { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11]، وهم المؤمنون بالله واليوم والآخر، ذلك أن معرفتهم بمغفرة الله والأجور المعدة لهم، والفضل الذي ينتظرهم يجعلهم دائما في راحة تامة، من غير أن يفرقوا بين حال النعمة، وحال البلاء، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن؟ إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له) ([1])

وقد عقب الله تعالى تلك الآيات الكريمة بخطابه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الفترة الشديدة التي حاول المشركون فيها أن يملأوه باليأس من نجاح دعوته، فقال: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12]

فالآية الكريمة ـ بعد أن ذكرت أفعالهم، وتأثيرها في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ طمأنته بأن الله هو الوكيل، وأن دينه سينتصر، وأن الحق سيعلو على الباطل..

ولذلك كان الإيمان بالله، وحضوره الدائم مع خلقه، ليلبي حاجتهم، ويحقق أمنياتهم، هو العلاج الأكبر لذلك المثلب الخطير.

ولهذا نرى الله تعالى في القرآن الكريم يكثر من ذكر حضوره الدائم مع خلقه، وفي كل شؤونهم، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4]، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة 40]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف 84]، وقال: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]

ولهذا يخبر الله تعالى عن رسل الله وأوليائه، وكيف يتجاوزون في أحلك الفترات كل ما يدعوهم إلى اليأس والقنوط اعتمادا منهم على فضل الله.

ومن النماذج على ذلك يعقوب عليه السلام، الذي جعله الله تعالى نموذجا للمنتظر لفضل الله وفرجه، وفي أدق الظروف وأحرجها، فهو الذي قال لأبنائه بعد تلك السنين الطويلة من غياب أخيهم يوسف: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]

وأخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام، وأنه قال لأصحابه ـ بعد أن امتد إليهم اليأس، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ـ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]

وأخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لصاحبه، وهو في الغار ينظرون إلى المشركين الذين يكادون يكتشفون مكانه: { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]

وأخبر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنتجبين، وأنهم في أحلك الفترات التي مروا بها، رددوا ما ردده رسل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

وأما غيرهم من الجبناء الساقطين في الاختبار فقد قال تعالى في شأنهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (المائدة:52)

وهكذا أخبر عن أصحاب موسى عليه السلام المنتجبين، فقال: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23)

وفي مقابلهم ذكر الساقطين الجبناء الذين قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة:22)، وقالوا بكل تبجح: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)

إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تطهر نفسك من هذا المثلب الخطير، فهو لا يهدد أخلاقك فقط، وإنما يهدد إيمانك أيضا، فاحذر منها، فالمعاصي ليست بريدا للسيئات فقط، وإنما هي بريد للكفر أيضا.

العلاج المعرفي:

أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ للتخلص من اليأس والقنوط وثمارهما علمك بخطرهما وآثارهما، وأن الله تعالى يبتلي عباده ليختبر مواقفهم منه، وهل يثقون فيه، وفي فضله وكرمه ورحمته، أم أنهم يتخلون عن ذلك وفي أي عارض بلاء يمر بهم.

لقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، وذكر كيف يمحص الناس، ويميزون على أساس هذا الاختبار، ومن ذلك ما ذكره في البلاء العظيم الذي تعرض له المؤمنون في غزوة الأحزاب، والذي ميز بين المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وغيرهم من المنافقين ومرضى القلوب، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) } [الأحزاب: 9 – 11]

ثم ذكر موقف الراسبين في ذلك الاختبار، فقال:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]

وذكر كيف كانوا يبررون لأنفسهم كل أصناف الأعذار بسبب يأسهم من نصر الله، قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 13، 14]

وبخلافهم أولئك المؤمنون الذين لما رأوا { الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]

ولهذا، فاعتبر كل محنة أو بلاء يعبران بك ـ أيها المريد الصادق ـ نوعا من أنواع الاختبار الإلهي، وأن نجاحك فيه بقدر رجوعك إلى الله، وثقتك فيه، وتوكلك عليه، فالله تعالى لم ينزل ذلك البلاء بك ليعذبك، وإنما ليربيك، ويختبر صدق إيمانك، ولذلك كان دعاؤك وتوكلك علامة على نجاحك في الاختبار، قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]

وتذكر كل حين ذلك البلاء الذي اختبر الله تعالى به إبراهيم عليه السلام، وكيف أنه بعد نجاحه فيه أهداه الله تلك الجائزة العظيمة..

وهكذا، فإن تلك الحادثة تتكرر كل حين، وبصور مختلفة، أما الفاشلون، فيعبر بهم البلاء بعد أن ينزع من قلوبهم كل ذرة خير وإيمان، وأما الصادقون؛ فيزيدهم إيمانا ويقينا ولجوءا إلى الله، لينالوا جوائز لا تختلف كثيرا عن تلك الجائزة التي نالها إبراهيم عليه السلام.

ولذلك، فإن علامة صدق المؤمنين هو الثبات في كل الأوقات.. ثبات إيمانهم، وثبات أخلاقهم، وثبات مواقفهم.. أما غيرهم، فيتغيرون بتغير ما ينزل عليهم، ويحل بهم، كما قال تعالى: { لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [فصلت: 49 – 51]

ووصف بعضهم، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]

أنا أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك أرفع من أن تهتم لشؤون الدنيا، وما يصيبك فيها من البلاء، وأن حزنك ليس لما فاتك منها، أو ما قد يفوتك، وإنما لتفريطك في حق ربك، وفي بعض تلك المخالفات التي وقعت فيها، وخشيت أن ترديك، أو تسخط ربك عليك.

فلا تحزن، ولا تيأس.. فربك أرحم وأكرم من أن يعاقبك على ذنب ندمت عليه، ورجعت إليه فيه، وقد قال مخاطبا المسرفين على أنفسهم: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]

وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضل الله على عباده المقبلين عليه تشبيها رمزيا، فقال: (للّه أشدّ فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل بأرض دوّيّة([2]) مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت؛ فطلبها حتّى أدركه العطش، ثمّ قال: أرجع إلى مكاني الّذي كنت فيه، فأنام حتّى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشّد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)([3])

وقرب ذلك المعنى في حديث آخر، فقال: (إنّ الله خلق الرّحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلّهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكلّ الّذي عند الله من الرّحمة لم ييأس من الجنّة، ولو يعلم المسلم بكلّ الّذي عند الله من العذاب لم يأمن من النّار)([4])

وقال: (إنّ للّه مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوامّ فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها. وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة)([5])

وفي الحديث القدسي، قال تعالى: (يا ابن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السّماء ثمّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنّك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة)([6])

وفي حديث قدسي آخر فصل ذلك، فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسّيّئة فجزاؤه سيّئة مثلها أو أغفر، ومن تقرّب منّي شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن تقرّب منّي ذراعا تقرّبت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض‏([7]) خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)([8])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن يأسك من رحمة الله ومغفرته أعظم من ذنبك، ذلك أنك اتهمت الله في أعظم صفاته وأسمائه، فزعمت أنه ليس غفورا، ولا رحيما، مع أن الله تعالى ذكر ذلك في أسمائه، بل إنه اعتبرها من الأسماء التي لها أوسع المجالات، قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام: 147]، وقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]

ولهذا؛ فإن ما يحصل لنفسك من يأس وقنوط ليس من الله، وإنما من الشيطان، قال الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]

وقد ذكر الله تعالى في الحديث القدسي فضل حسن الظن به، ودوره في تفريج الكروب، فقال: (أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأهم خير منهم، وإن تقرّب منّي شبرا تقرّبت إليه ذراعا، وإن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ([9])

وفي حديث قدسي آخر قال الله تعالى: (لا يتّكل العاملون على أعمالهم الّتي يعملونها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدّرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا، فإنّ رحمتي عند ذلك تدركهم ومنّي يبلغهم رضواني ومغفرتي تلبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرّحمن الرّحيم وبذلك تسمّيت)([10])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (والّذي لا إله إلّا هو ما أعطي مؤمن قطّ خير الدّنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكفّ عن اغتياب المؤمنين، والّذي لا إله إلّا هو لا يعذّب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلّا بسوء ظنّه بالله وتقصيره من رجائه وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين، والّذي لا إله إلّا هو لا يحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن لأنّ الله كريم بيده الخيرات يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثمّ يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه)([11])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ حسن الظّنّ بالله تعالى من حسن العبادة) ([12])

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وتحقق لك الإيمان بسعة فضل الله ورحمته، فاعلم أن من موجبات ذلك مواجهتك للبلاء، ومنازعة الأقدار بالأقدار؛ فلا تستسلم لما يحل بك من بلاء انتظارا لتفريج الله لكربتك، فقد يكون ذلك الفرج على يديك، وما حصل لك من البلاء بسببك.

لقد أشار الله تعالى إلى أولئك الذين يعيشون حياة مملوءة بالنكد والضيق نتيجة تمسكهم بالأرض التي ولدوا فيها، أو تعلقوا بها، وهم يتوهمون أنهم مستضعفون يجازون على بلائهم، لكن الله تعالى اعتبرهم من الظالمين لأنفسهم، لأنه كان بإمكانهم أن يخرجوا من الحال التي وجدوا أنفسهم عليها، لكنهم قصروا أو أبوا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)

وهكذا يدعو الله تعالى عباده لاختيار البيئة المناسبة التي تساعدهم على أن يعيشوا حياتهم بصورة طبيعية، تمكنهم من عبادة ربهم، وأداء التكاليف التي كلفوا بها، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت:56)، وقال: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)

وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريّة إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسّجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أنا بريء من كلّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين) ([13])

ذلك أن المسلم الذي يفعل ذلك، ويترك نفسه بين يدي من يضيق عليه، ويملأ حياته بالحرج، يكون هو المتسبب فيما وقع فيه.

ولهذا ورد في الحديث عدم استجابة الله تعالى لدعاء من قدر على أن يخرج من البلاء، لكنه لم يفعل، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بماله فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: يا رب ارزقني، ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول الله عزّ وجلّ له: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والتصرف في الأرض، بجوارح صحيحة، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كلا على أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قترت عليك، وأنت معذور عندي، ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو: يا رب ارزقني، فيقول الله عزّ وجلّ: ألم أرزقك رزقا واسعا، فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك، ولم تسرف، وقد نهيتك عن الاسراف؟ ورجل يدعو في قطيعة رحم) ([14])

ولهذا حذر أئمة الهدى من تلك الظاهرة التي وقعت في المجتمعات الإسلامية نتيجة التأثر برهبان النصارى وغيرهم، حيث أصبح التدين مرتبطا بالقعود عن الرزق، انتظارا لفضل الله، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (إني لأركب في الحاجة التي كفانيها الله، ما أركب فيها إلا لالتماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول الله عزّ وجلّ: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة: 10] ؟ أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا، وطين عليه بابه، وقال رزقي ينزل عليّ، كان يكون هذا؟ أما انه يكون أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة) ([15])

فسئل عن هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم، وأن الله لا يستجيب لهم، فقال: (رجل عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له، لأن عصمتها في يده، ولو شاء أن يخلي سبيلها، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه، فيجحده حقه، فيدعو عليه فلا يستجاب له، لأنه ترك ما أمر به، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس الرزق، حتى يأكله، فيدعو فلا يستجاب له) ([16])

وروي أنه سئل عن رجل قيل له: أصابته الحاجة، فقال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض إخوانه، فقال: (والله للذي يقوته أشد عبادة منه) ([17])

واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ من كل من يملؤك يأسا من ربك ورحمته ومغفرته، فإنه شيطان رجيم، وهو لا يختلف عن ذلك الذي يؤمنك ويجرئك عليه.. فكلاهما عدوان لك، وكلاهما عدوان للحقيقة.

وقد ورد في الآثار أنّ الله تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام قوله: (أحبّني، وأحبّ من يحبّني، وحبّبني إلى خلقي)، فقال داود عليه السّلام: يا ربّ كيف أحبّبك إلى خلقك؟ قال: (اذكرني بالحسن الجميل، واذكر آلائي وإحساني، وذكّرهم ذلك فإنّهم لا يعرفون منّي إلّا الجميل)

وروي في الآثار أن رجلا من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدّد عليهم، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم، وقال له: (يقول الله تعالى يوم القيامة: اليوم أو يسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها)

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحفظها، والتزم بها، وسترى كيف يمن الله عليك بفضله العظيم من حيث تحتسب، ومن حيث لا تحتسب.


([1]) مسلم (2999)

([2]) الدوية: الأرض القفر والفلاة الخالية.

([3]) البخاري، الفتح 11(6308)، ومسلم(2744)

([4]) البخاري [فتح الباري]، 11(6469)، ومسلم(2755)

([5]) البخاري [فتح الباري]، 10(6000). ومسلم(2752)

([6]) الترمذي(3540) وقال: حديث حسن.

([7]) قراب الأرض: أي ما يقارب ملأها.

([8]) مسلم(2687).

([9]) البخاري- الفتح (7536)، ومسلم (2675)

([10]) الكافي، ج 2 ص 71.

([11]) الكافي، ج 2 ص 71.

([12]) أبو داود(4993)، والترمذي(3679)

([13]) أبو داود حديث (2645)، الترمذي (1604)

([14]) الكافي: 5 / 67.

([15]) من لا يحضره الفقيه: 2 / 69.

([16]) من لا يحضره الفقيه: 2 / 69.

([17]) التهذيب 6: 324 / 889.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *