المراء والجدال

المراء والجدال

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المراء والجدال، وسر ما ورد في التنفير منهما، والنهي عنهما، والفرق بينهما وبين الحوار والمناظرة والجدال بالتي هي أحسن وغيرها من أساليب التواصل.. وعن المنابع التي تنبع منها الخصومة الناتجة عنهما، وكيفية سدها، وتحويل الجدل إلى حوار نافع، ومناظرة مفيدة.

وأكثر أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ سأجيبك عنها في هذه الرسالة، أما ما عداها من الحديث عن الحوار وشروطه وآدابه وغيرها، فسأحدثك عنها في وقتها المناسب([1])، لأن حديثنا في هذه الرسائل قاصر على المثالب، لا غيرها.

وأحب أن أنبهك قبل جوابي على أسئلتك بأن الشيطان في أكثر أحواله يعمد إلى أشياء صحيحة مشروعة مملوءة بالخير، ليوجهها نحو عالم الشر والشيطنة، كما عرفت ذلك في أكثر المثالب التي سبق حديثي لك عنها.

وهكذا الأمر بالنسبة للمراء والجدال؛ فهو في أصله يدل على شوق النفس للتعرف على الحقائق، والتثبت منها، وعدم القبول بها ما لم تستوف أدلتها التي تدل عليها..

ولذلك اختلف المجادل عن الإمعة ذلك الذي يقبل كل شيء من غير أن يُعمل عقله، ولا أن يفكر في صحة ما يطرح عليه، والذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذما شديدا، فقال: (لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن النّاس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن النّاس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)([2])

وأخبر عن انتشار هذا الصنف في أمته في العصور التي يفشو فيها التقليد البعيد عن التحقيق، فقال: (يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل، ويبقى حفالة، كحفالة الشّعير([3])، أو التّمر لا يباليهم الله بالة([4]))([5])

وقال الإمام علي مخاطبا صاحبه كميل بن زياد: (يا كميل: إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والنّاس ثلاثة: فعالم ربّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)، ثم قال: (أفّ لحامل حقّ لا بصيرة له، ينقدح الشّكّ في قلبه بأوّل عارض من شبهة لا يدري أين الحقّ، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به)

وقال ابن مسعود: (كنّا في الجاهليّة نعدّ الإمّعة الّذي يتبع النّاس إلى الطّعام من غير أن يدعى، وإنّ الإمّعة فيكم اليوم المحقب‏([6]) النّاس دينه)([7])، وقال: (ألا لا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنّه لا أسوة في الشّرّ)([8])

وفي مقابل هؤلاء أولئك الذين يرفضون الحق من غير أي برهان، ولا دليل، وإنما بالهوى المجرد، كما قال تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ (الحج:8)

وعاتب أهل الكتاب الذين يحاجون فيما ليس لهم به علم، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 65، 66]

وبذلك؛ فإن الجدال والمراء نابع من ذلك العجب والغرور الذي يوهم النفس أنها تعرف الحقائق مع أنها خالية عنها، ولذلك تضع الموازين التي تشاء، وتحكم بها على ما تشاء من غير رجوع إلى الثوابت التي تميز بها الأشياء، ولذلك ذكر الله تعالى افتقار المجادل إلى ثلاثة أشياء: العلم والهدى والكتاب المنير..

ولذلك يلجأ بدلها إلى نفسه ومزاجه وهواه ليحكم على كل شيء من خلاله، فما أعجبه، فهو الحقيقة التي يجادل عنها، وما لم يعجبه فهو الباطل الذي يرفضه، ويتولد من ذلك ثلاثة مثالب:

أولها المراء، وهو الطعن الذي لا يهدف إلا إلى إسقاط المتحدث، لتحقيره وإظهار الخلل في حديثه([9])، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وترك الكذب وإن كان مازحا، وحسن خلقه)([10])

وثانيها الجدل، وهو دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجّة أو شبهة، أو هو ما يقصد به تصحيح كلامه، أو هو ما يتعلق بإظهار الآراء وتقريرها، كما قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]، وقال: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 5، 6]

وثالثها الخصومة، وهي ثمرة من ثمار المبالغة في الجدل.. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [الزخرف: 57 – 59]

وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بك أن لا تزال مخاصما)([11])، وقال: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)([12])، أي كثير الخصومة.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الخير والشر في هذا المثلب قد يختلطان، ويعسر التمييز بينهما، ولذلك قيد الله تعالى الجدال بشرط الحسن، فقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]

وهذا القيد يجعل من الجدال المؤدي إلى الخصومة حوارا يبحث عن الحقيقة، ويطرح كل طرف وجهة نظره بطريقة هادئة، وبعيدا عن كل الأهواء النفسية، وهو ممدوح في كل الأحوال، لأنه وسيلة من وسائل طلب العلم.. ولهذا لم يذمه القرآن الكريم مطلقا، بل ورد ما يشير إلى مدحه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)﴾ (الكهف)، وقوله:﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)﴾ (المجادلة)

والفرق بين الحوار أو الجدال بالتي هي أحسن، والذي ورد الثناء عليه، بالمراء والجدال والخصومة يكمن في المنابع التي ينبع منها، والدوافع التي تدفع لها.. فهي في الحوار طلب البحث عن الحقيقة، أو توضيحها، وذكر أدلتها.. مع صفاء النفس وسلامة القلب، أما في الجدال والمراء، فهي الأمراض النفسية الكثيرة، والتي ذكر الحكماء منها (قصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدّق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدوّ الله إبليس)([13])

ويتفرع عن هذه الخصال خصال أخرى كثيرة، مثل (الأنفة، والغضب، والبغضاء، والطمع، وحب طلب المال، والجاه للتمكن من الغلبة، والمباهاة، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم، والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء، والخوض فيما لا يعني، وكثرة الكلام، وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب، واستيلاء الغفلة عليه)([14]

وهي جميعا تنبع من أربعة منابع كبرى.. أولها الحسد الذي (يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)([15]).. فكل الحسنات التي تنبت من العلاقات الطيبة بين المتحاورين تأكلها نار الحسد.. وسر ذلك أن المحاور تارة يغلب وتارة يُغلب، وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره.. وهو لذلك إن حمد كلامه امتلأ إعجابا بنفسه.. وإن حمد كلام غيره امتلأ حسدا وحقدا.. فهو لذلك يتمنى زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه، ولهذا قال ابن عباس:(خذوا العلم حيث وجدتموه، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة)

وثانيها الكبر، وينشأ من اعتقاد المحاور لغلبته وتفضله على مخالفه، فلا ينفك (عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره.. وربما يتعلل الغبـي والمكار الخداع منهم بأنه يبغي صيانة عز العلم، وأن المؤمن منهيٌّ عن الإذلال لنفسه، فيعبر عن التواضع الذي أثنى الله عليه وسائر أنبـيائه بالذل، وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين تحريفاً للاسم وإضلالاً للخلق به)

وثالثها الرياء، وهو اشتغال النفس برؤية نفسها عن رؤية الحق أو الدفاع عنه أو الدعوة إليه.. ومحال أن يتجلى الحق والنفس في مرآة واحدة.

ورابعها البغي، ذلك أن من امتلأت نفسه بالحسد والكبر والإعجاب بالنفس والتباهي بها لن ينظر إلى غيره إلا بعين البغي والظلم والعدوان.. فلذلك تجده في حواره كسبع ضار ليس له من هم إلا افتراس فريسته، وقد ذكر القرآن الكريم كيف يقف البغي والظلم حجابا دون الحق، فقال:﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام:33)، وهي تشير إلى أن الظلم هو السبب في جحود الظالمين لآيات الله، لا كون الآيات في نفسها تستحق أن تكذب.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأورده لك من أدوية ربانية وردت في النصوص المقدسة، وهي كافية لحمايتك من هذا المثلب وكل ما يثمره من أصناف العداوة والبغضاء.

العلاج المعرفي:

كما عرفت ـ أيها المريد الصادق ـ من رسائلي السابقة إليك؛ فإن العلاج المعرفي هو الأساس والمنطلق، ذلك أن قناعتك بكون الداء داء، ومعرفتك بخطره عليك، وثماره السامة التي يحدثها فيك، تجعلك تشعر بضرورة التخلص منه، واستعمال كل الوسائل لذلك.. وذلك هو مقدمة الشفاء.

وقد يكون لك ـ أيها المريد الصادق ـ من الصدق والإخلاص ما يجعل من العلاج المعرفي كافيا لشفائك التام، ومن أكثر الأمراض، ذلك أن أكثر الأمراض النفسية عبارة عن أوهام تقذفها الشياطين في النفس؛ فإذا ما حلت المعرفة، ارتفع الداء.

ولهذا كان في البشارات والإنذارات الواردة في النصوص المقدسة ما يكفي لعلاج كل الأمراض، بشرط تحقيق اليقين والصدق في النبوة، مثلما نفعل مع الطبيب حين نثق فيه، ونمارس الحمية التي يطلبها، مع شدتها، حذرا من المخاطر التي ينبه إليها.

وهكذا إن رجعت إلى النصوص المقدسة تجد ذلك الذم الشديد للمراء والجدال الذي لا يقصد منه طلب الحقائق، وإنما يقصد منه تحقير القائلين بها، وعدم القبول منهم، من غير حجة ولا برهان.

لذلك كان المتشبه بهم في الجدال داخلا فيهم، فالتشاكل بين النفوس ناتج عن اشتراكها في القيم والأعمال التي تقوم بها.

ولذلك قرن الله تعالى المجادلين بالطواغيت والمستبدين والمجرمين، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، ثم قال بعدها: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 36، 37]

وهكذا ضرب المثل بالملك الذي جادل إبراهيم في ربه، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]

ولذلك قرن الله تعالى الجدال بالطغيان والاستكبار، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]

بالإضافة إلى هذا؛ فقد وردت النصوص الكثيرة تأمر بتهذيب هذه القوة الداعية إلى الجدل، وتعد بالوعد الجزيل من استطاع التحكم فيها، وتتوعد بالوعيد الخطير من ركن لها، فراحت تتحكم فيه.

ففي الوعد ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها)([16]

وقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وترك الكذب وإن كان مازحا، وحسن خلقه)([17])

وفي الوعيد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، ثم قرأ:﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا﴾ (الزخرف: 58)([18]

وقال: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد([19]) الخصم)([20]

وقال: (كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما)([21]

 وقال: (المراء في القرآن كفر)([22]

وروي عن جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: (مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا.. ذروا المراء لقلة خيره.. ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري.. ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته.. ذروا المراء فكفى إثما أن لا تزال مماريا.. ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة.. ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رباضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق.. ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء)([23]

وروي عن أبي سعيد قال: كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتذاكر، ينزع هذا بآية، وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يفقأ في وجهه حب الرمان، فقال: (يا هؤلاء بهذا بعثتم؟ أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)([24]

وهكذا حذر أئمة الهدى من ذلك الجدل، وما ارتبط به من مناظرات ظهرت في عصورهم؛ فقد قال الإمام علي: (من طلب الدّين بالجدل تزندق)([25])

و روي أنّ رجلا قال للإمام الحسين: اجلس حتّى نتناظر في الدّين، فقال له الإمام: (يا هذا أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلا بدينك فاذهب فاطلبه، مالي وللمماراة)([26])

ونصح الإمام الكاظم بعض أصحابه، فقال: (إيّاك وأصحاب الخصومات، والكذّابين علينا فإنّهم تركوا ما أمروا بعلمه وتكلّفوا ما لم يؤمروا بعلمه حتّى تكلّفوا علم السماء)، ثم قال له: (خالقوا الناس بأخلاقهم، وزايلوهم بأعمالهم، إنّا لا نعدّ الرجل فقيها عاقلا حتّى يعرف لحن القول، ثمّ قرأ هذه الآية {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30])([27])

وقال: (الخصومة تمحق الدّين وتحبط العمل وتورث الشكّ)([28])

وعن الإمام الصادق أنه قال: (لا يخاصم إلّا شاكّ أو من لا ورع له)([29])، وفي رواية: (إلّا من ضاق بما في صدره)([30])

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاجعل تلك الوصايا بين عينيك في كل مجلس تجلس فيه، أو حديث تريد أن تتحدث به، أو كلمة تريد أن تكتبها؛ فإن رأيت أن منابعها هي منابع الحوار الهادئ، والنصيحة الخالصة، فقلها أو أكتبها.. وإن رأيت أن منابعها الكبر والحسد والرياء وتلك الأمراض الخبيثة؛ فدعها حتى لا تقتلك سمومها.

وهكذا في الخصومة، فإن رأيت أنك بها تنتصر للحق، وتواجه الباطل؛ فيمكنك أن تقوم بها، بل يجب عليك ذلك، فالمؤمن الحقيقي هو الذي يخاصم الباطل ليدحضه، ولذلك استثني المظلومين من المخاصمة، فقال: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]

لكن إياك، وأن تتحول من مظلوم إلى ظالم، فقد ذكر الحكماء أن ذم الخصومة متوجه لمن (خاصم بباطل، أو بغير علم.. أو من طلب حقا، لكنه لم يقتصر على قدر الحاجة منه، بل أظهر اللدد والكذب للإيذاء أو التسليط على خصمه.. وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره.. وكذلك من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي، وليس له إليها ضرورة في التوصل له إلى غرضه، فهذا هو المذموم.. أما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس مذموما ولا حراما، لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا؛ لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب، فإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه)

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجادل أو تحاور بما لا علم لك فيه، بدعوى أنك تريد أن تنصر للحق؛ فالحق لا ينتصر بالجهل، وإنما بالعلم، ومثل من يفعل ذلك من يدخل المعركة لمواجهة أعدائه من دون سيوف، فيقتل نفسه، ويشمت بالحق الذي يحمله، ولذلك قال الله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ (الحج:8)

وقد ضرب الله تعالى المثل على ذلك باليهود والنصارى الذي جادلوا في إبراهيم عليه السلام من غير علم، قال تعالى:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (البقرة:113)

ومثل ذلك جدالهم عن أنفسهم، ورفعهم لها، بناء على الأماني الكاذبة، لا الحقائق الصادقة، قال تعالى:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ (المائدة: 18)

ومثل ذلك جدالهم عن تلك التشويهات التي شوهوا بها الحقائق، قال تعالى:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ (المائدة: 64)، وقال:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة:30)؟

وكل هذه الآيات تدعونا إلى التأكد من الحقائق وبراهينها قبل الجدال عنها، وهو ليس خاصا باليهود والنصارى فقط، بل عام في كل المجالات، ولكل الناس.

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسيء فهم بعض ما أوردته عليك من التحذيرات؛ فتتكبر على من يطلب منك المحاورة في الحق، لتدله على الهدى، فأنت مطالب ببيان الحق له، ولا عليك ألا يقبله.

وكيف تتكبر عليه، وقد حاور الله تعالى مع عظمته وقدسيته إبليس، قال تعالى:﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ (لأعراف:12)

وذكر القرآن الكريم حواره تعالى مع ملائكته، قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:30)

وذكر القرآن الكريم أن إبراهيم u حاور الملائكة، بل اعترض عليهم، قال تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)﴾ (العنكبوت)

بل إن الله سمى حواره للملائكة جدالا، وهو دليل على تكرر مراجعته لهم، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)﴾ (هود)

وفوق هذا كله، فإن القرآن الكريم حاور أهل الكتاب في قضايا دينهم، لا يترك في ذلك قضية من القضايا الكبرى إلا طرحها.

بل إنه ـ فوق ذلك كله ـ أمرنا بحوارهم دون أن يستثني عقيدة أو غيرها، قال تعالى:﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت:46)

فهذه الآية الكريمة ـ فضلاً عن مطالبتها بالجدال بالتي هي أحسن ـ كأنها تقول للمسلمين: إذا لم يكن في جعبتكم الأسلوب الأحسن في الجدال فلا تجادلوا أهل الكتاب.

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحفظها، واعلم أن تنفيذها يحتاج وعيا وإدراكا عظيما، لاختلاط الحق في هذا المثلب بالباطل، وعسر التمييز بينهما، لذلك الجأ إلى الورع والاحتياط في حال خوفك على نفسك ودينك، فما نجا إلا أصحاب الورع.


([1])  سنتحدث عنها بتفصيل في كتاب [مدارس النفس اللوامة]

([2]) الترمذي( 2007)

([3]) الحفالة و الحثالة: الردي‏ء من كل شي‏ء، و الحفالة أيضا بقية الأقماع و القشور في التمر و الحب.

([4]) لا يباليهم اللّه بالة: أي لا يرفع لهم قدرا و لا يقيم لهم وزنا.

([5]) البخاري [فتح الباري]، 11( 6434)

([6]) المحقب: الذي يقلد دينه لكل أحد.

([7]) لسان العرب( أ م ع)

([8]) الاعتصام( 2/ 359)

([9])  أقرب المعاني إلى هذا المغالطة التي يطلق عليها [الشخصنة] أو [القدح الشخصي]، وهو صنف شائع من المغالطات، بحيث أن الدعوى أو الحجة تكون خاطئة، بسبب معلومات (عيوب) متعلقة بالكاتب أو بالشخص الذي يعرض هذه الدعوى، وليس بالدعوى نفسها.

وفي العادة تتخذ هذه المغالطة خطوتان: الأولى، هي هجوم على الشخص الذي يتبنى الدعوى بسبب ظروفه أو أفعاله أو أي شيء متعلق بشخصيته.. الثانية، يتم تمديد الهجوم ليكون دليلا ضد الدعوى أو الحجة.

وهذا النوع من المغالطة يسير بالنحو التالي:

شخص (أ) يطرح دعوى (س).

شخص (أ) يتسم بالعيب (ك).

العيب (ك) هو في المدعي (أ) وليس في الدعوى (س).

إذن، دعوى (س) خاطئة.

السبب في كون [الهجوم على الشخص] يعتبر مغالطة، هي أن الشخصية، أو الظروف أو أفعال الشخص، لا علاقة لها بصحة أو بخطأ الدعوى المطروحة، فحقيقة أن [1+1=2] لا تختلف إطلاقا مهما كان قائلها لأنها لا تعتمد على الشخص.

([10]) رواه البزار والطبراني في معاجمه الثلاثة.

([11]) رواه الترمذي وقال غريب.

([12]) رواه البخاري.

([13])   الإحياء: 1/45.

([14])   الإحياء: 1/45..

([15])   رواه ابن ماجة.

([16]) رواه أبو داود والترمذي واللفظ له وابن ماجه والبيهقي وقال الترمذي حديث حسن ورواه الطبراني في الأوسط.

([17]) رواه البزار والطبراني في معاجمه الثلاثة.

([18]) رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

([19]) الألد: هو شديد الخصومة.

([20]) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

([21]) رواه الترمذي وقال حديث غريب.

([22]) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه ورواه الطبراني وغيره.

([23]) رواه الطبراني في الكبير.

([24]) رواه الطبراني في الكبير.

([25])  الاعتقادات، ص 74.

([26])  مصباح الشريعة، باب 48.

([27])  توحيد الصدوق، ص 476.

([28])  توحيد الصدوق، ص 476.

([29])  توحيد الصدوق، ص 478.

([30])  توحيد الصدوق، ص 479.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *