موالاة الظالمين

موالاة الظالمين

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أولئك الذين يدّعون الولاية والقرب من الله والسير إليه، ويتحدثون عن المعاني المرتبطة بها، وربما يتوهمون أنها خاصة بهم، وأنهم أهلها، ولا ينافسهم أحد فيها.. لكنهم يقفون مع كل ظالم، ويسندون كل مستبد، ويشوهون طريق الله بذلك أعظم تشويه.

ثم سألتني عن حظ هؤلاء من ولاية الله، ونصيبهم من تهذيب أنفسهم، وهل أن سلوكهم ذلك لا يقدح في الولاية أو في الطريق إليها، أم أنه قادح من القوادح، ومثلب من المثالب التي لا يمكن العروج إلى الله بصحبتها.

وهذا سؤال وجيه وواقعي ومهم للغاية.. فالسلوك إلى الله يقتضي توضيح كل الحقائق، وبشفافية ووضوح، بعيدا عن جميع الأهواء، ومراعاة مشاعر أي كان؛ فالحق أحق أن يتبع، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]

والحقائق التي تنص عليها المصادر المقدسة تدل على أن ولاية الله مرتبة رفيعة لا تُنال بالدعوى، وإنما بالمجاهدة والمكابدة ورياضة النفس والتزام الشريعة في كل الأحوال، وقد قال الله تعالى يصف المتقين: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس: 62، 63]، وقد وصفتهم الآية الكريمة بصفتين: الإيمان والتقوى.. وهما صفتان تعنيان التسليم والإذعان لكل الحقائق والقيم التي جاء بها الإسلام، ونصت عليها النصوص المقدسة.

ومثل ذلك ما ورد في تعريف الولاية في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30]، والتي عقبها الله تعالى بقوله: { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت: 31]

وكلا الموضعين من القرآن الكريم يدلان على مدى دقة السراط المستقيم الذي يسلكه الأولياء، وأن أي انحراف بسيط قد يخرجهم من الولاية، كما ذكر الله تعالى ذلك عن بلعم بن باعوراء الذي ابتعد عن طريق الأولياء بسبب بعض المواقف التي وقفها، كما قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } [الأعراف: 175، 176]

لذلك كان الهوى منزلقا من منزلقات السالكين في طريق العلم أو طريق الولاية، والذين يُختبرون كل حين في معارفهم وسلوكهم ومواقفهم، حتى يُمحصوا ويميز الطيب منهم من الخبيث..

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى أن الابتلاء الذي يتعرض له هؤلاء أكبر من الابتلاء الذي يتعرض له غيرهم، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس بلاء الانبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)([1])

وهو لا يشير فقط إلى ذلك البلاء الذي يتوهمه أكثر الناس، والمرتبط بنقص المال والأنفس، وإنما هو البلاء المرتبط بالمواقف التي يوضع فيها النبي أو العالم أو مدعي الولاية، والتي قد تصبح بعد ذلك محل قدوة وهداية للغير.

ولذلك كان العلماء والمشايخ والمربون والسالكون أدلاء وهداة.. وقد تكون هدايتهم لله، وقد تكون لغيره.. ولذلك كان انحرافهم عن السبيل خطيرا، لأنه لا يتعلق بهم فقط، وإنما يتعلق بالذين يدلونهم، ويوجهونهم، كما روي عن المسيح عليه السلام أنه قال: (مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء، ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء كمثل قناة الحشّ ظاهرها جصّ وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى)

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنّ أهل النّار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشدّ أهل النّار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله وأدخله الله الجنّة وأدخل الدّاعي النّار بتركه علمه واتّباعه الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ وأمّا طول الأمل ينسي الآخرة)‏([2])

ولذلك؛ فإن المرجع الذي علينا الرجوع إليه ـ أيها المريد الصادق ـ لتحديد الولاية والأولياء، هو ما ورد في النصوص المقدسة المعصومة التي لم تختلط بالأهواء، ولم يصبها دنس النفوس الأمارة.. فهي وحدها المرجع الذي تعرف به الحقائق، وتميز به القيم.

أما مدعو الولاية، مهما كان شرفهم ورتبتهم ومكانتهم؛ فيظلون بشرا من البشر، ولا يمكن اعتبارهم قدوة ولا أسوة خاصة إن انحرفوا عن السراط المستقيم، الذي وضحته أنوار الهداية الإلهية.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن ما أشرت إليه من ولاية الظالمين والمستبدين والمستكبرين، والوقوف معهم في وجه المستضعفين والمظلومين والمحتقرين قادح في الولاية، ومؤثر فيها، ذلك أن من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب موالاة المستكبرين، والبراءة من المستضعفين المظلومين.. والذي يفعل ذلك لا يختلف عن الظالمين أنفسهم.

ومما يروى في هذا أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: (هل عملت لي عملا قط؟) فقال: (إلهي إني صليت لك، وصمت، وتصدقت وزكيت)، فقال: (إن الصلاة لك برهان، والصوم جنة والصدقة ظل، والزكاة نور، فأي عمل عملت لي؟)، قال موسى: (إلهى دلني على عمل هو لك)، قال: (يا موسى هل واليت لي وليا قط؟ وهل عاديت فيّ عدوا قط؟)

أنا أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي ما يمكن أن يذكره المحدثون عن أمثال هذه الرواية، وعدم ثبوتها.. ولذلك يمكنك أن تعود بدلها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أوثق عرى الإيمان، الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحبّ في الله، والبغض في الله)([3])، وقوله: (من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه) ([4])

ويمكنك أن تعود قبلها لتلك الأحاديث المتواترة في القرآن الكريم عن هذا المعنى، وهي كثيرة جدا، وتدلك على أن من العلامات الكبرى للإيمان موالاة المؤمنين المستضعفين المظلومين ونصرتهم والوقوف في صفهم، في نفس الوقت الذي يقفون فيه في الصف المواجه لأعدائهم من الظالمين المستكبرين.

ومن تلك الآيات الواضحة الصريحة ما ورد في سورة الممتحنة، والتي يدل اسمها على معناها؛ فكل ما فيها من معان هي امتحانات من الله تعالى لعباده، لتمحيصهم، وتمييز الصادق في إيمانه من الكاذب فيه.

وقد بدأ الله تلك السورة بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة: 1]، وهو نهي صريح عن نصرة ومحبة أعداء الله وأعداء المؤمنين، والذين وصفتهم الآية الكريمة بأنهم {كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} [الممتحنة: 1]

فالآية الكريمة لم تصفهم بالكفر الذي هو اختيارهم الشخصي فقط، وإنما وصفتهم بالعداوة للمؤمنين، وإخراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه بسبب إيمانهم.. وهو دليل على أن كفرهم ليس كفرا مرتبطا بعدم الاقتناع ببراهين الإيمان، وإنما كفر ناشئ عن الاستكبار والاستعلاء والظلم.

ولذلك كان الموقف منهم هو الموقف من الظلم نفسه، لأن الظلم والعدوان والكبرياء تجلت فيهم، فصاروا مظهرا لها.. ولذلك صار من أحبهم محبا للظلم، ومن ناصرهم مناصرا له.. ولا يمكن أن يجتمع حب الظلم وحب العدل في مكان واحد.

ولذلك لم ينه الله تعالى المؤمنين عن المودة والبر الذي يبذلونه لمن يخالفهم في دينهم إذا لم يكن معتديا ولا ظالما ولا مستكبرا، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]

بل إنه دعا إلى اللين لهم وتأليف قلوبهم والتعامل معهم بكل ما يقتضيه اللطف من أخلاق، كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، وهي آية ترسم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من المسالمين، وهي علاقة مبينة على الحوار لا على الصراع، وعلى الألفة لا على العداوة إلا الظالمين الذين لا يكتفون بظلم أنفسهم بالإعراض عن الحق، وإنما يظلمون غيرهم أيضا.

بل إن القرآن الكريم يدعو إلى البحث عن المشتركات التي تجمع بين المؤمنين وغيرهم من أهل الأديان، حتى تستثمر في مواجهة الظلم والاستبداد والاستكبار، كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 64]

ولهذا كله؛ فإن سورة الممتحنة تبين أسباب تلك المواقف العدائية التي على المؤمنين اتخاذها اتجاه الظلمة والمستكبرين والمستعلين في الأرض، قال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]

أي أنهم يستعملون كل الوسائل لإيذاء المؤمنين، وصرفهم عن الحق الذي اقتنعوا به.. ولذلك كان الولاء لهم عداوة للإيمان والمؤمنين.

وقال في آية أخرى:{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]

وهذه الآيات الكريمة لا تنطبق على قريش وحدها، تلك التي حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستعملت كل الوسائل لإذية المؤمنين، وإنما ينطبق على غيرها، وفي جميع العصور.. فالمؤمن هو الذي يبرأ إلى الله من كل ظلم وعدوان وقع، وفي أي زمان، أو مكان، ومن أي جهة.. ذلك أن البراءة من الظلم، تستدعي البراءة من الظالمين.. ومن ادعى أنه يبغض الظلم، ثم لا يبغض الظالمين وجرائمهم، فهو يكذب على نفسه.

إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما تورده لك النصوص المقدسة من أدوية لتعالج هذا المثلب الخطير الذي يخرجك من صفوف أولياء الله ليضعك في صفوف أعدائه.

العلاج المعرفي:

وأول ذلك، وآخره، أن تقرأ ما ورد في النصوص المقدسة حول هذا المثلب، وبيان أنه من الاختبارات الإلهية التي يُمتحن بها الإيمان، ليُميز بين الصادقين الثابتين في إيمانهم، وبين المذبذبين الذين يخافون على مصالحهم، ولذلك يحاولون الجمع بين الكينونة مع المؤمنين وغيرهم.

وقد اعتبر الله تعالى ذلك نفاقا، فقال: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } [النساء: 142، 143]

ثم عقبها بالنهي الشديد عن تولي أعداء الله؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144]

ثم ختمها بقوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 145، 146]

وهكذا ربط في مواضع أخرى بين النفاق وموالاة الظالمين، وبين سبب ذلك، فقال:{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139]

وكل ذلك يدل على أن الإيمان الحقيقي يقتضي تسليم القلب لله وحده.. وهو يقتضي أن يكون الولاء لكل من يوالي الله، والعداء لكل من يعاديه ويحارب أولياءه.

ولهذا وصف الله تعالى رسله وأولياءه ببراءتهم من الظالمين المعتدين، فقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة: 4]

ونهى أن يُقدم على ولاية الله وولاية المؤمنين أي ولاية أخرى، حتى لو كانت لأقرب الأقربين، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 23، 24]

وأخبر أن كل ولاية ومحبة ونصرة تكون خارج ذلك النطاق تتحول إلى عداوة يوم القيامة، قال تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]

ولم يكتف القرآن الكريم بكل تلك المفاهيم، وإنما أشار إلى مصاديقها في الوقع والتاريخ حتى يقيم الحجة على الخلق، ومن تلك الإشارات الواضحة ما ورد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]

فهذه الآية الكريمة تحدد بدقة المؤمنين الذين ينبغي أن تمتد إليهم أيدي الولاية والنصرة، وهم الذين يقومون بواجباتهم في نصرة المستضعفين، والوقوف بجانبهم، في وجه المستكبرين الظالمين.

وقد عقب الله تعالى تلك الآية الكريمة بما يزيدها وضوحا، فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة: 55]

ثم بين أن هؤلاء هم حزب الله الحقيقي، فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]

ولا أراك ـ أيها المريد الصادق ـ بما آتاك الله من بصيرة وإيمان إلا وقد عرفت المقصود من هذه الآيات ومصاديقها التي دل عليها التاريخ والواقع.. فكل ما أصاب الإسلام من انحرافات كان بسبب تعطيل تلك الآيات الكريمة حرصا على أولئك الذين ادعوا مراتب من الولاية لا تليق بهم، وليسوا أهلا لها.

ثم جاء أصحاب الورع البارد؛ فوضعوا الأولياء والأشقياء، والمستضعفين والمستكبرين في سلة واحدة، وتوهموا أن الورع في السكوت عن الباطل، وخالفوا بذلك هدي نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وهدي ورثته من بعده.

ولو أنهم رجعوا إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المصادر التي يتفقون على قبول رواياتها لوجدوا البينات الواضحات التي تدلهم على الحقيقة، وتميز بين أولياء الله الذين تجب نصرتهم، وأعداؤه الذين تجب مواجهتهم.

وأول ذلك ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: (أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم) ([5])

فاجعل هذا الحديث ـ أيها المريد الصادق ـ مقدمة لك، لتصل إلى أهل الولاية الذين أمر الله تعالى بنصرتهم ومحبتهم والوقوف معهم.. وسترى إن كنت صادقا أعلام الهداية وأعلام الضلالة.. فلا يمكن أن يأمرنا الله بشيء، ثم لا يعلمنا كيفية تنفيذه.

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وأردت أن تتخلص من هذا المثلب الخطير، وكل ما ينتج عنه من ثمار وآثار، فاستمع لكلمات ربك المقدسة التي تدلك على الطريق الذي يمكنك أن تنفذ به تلك التعليمات.

وأولها ألا تجعل ولاءك للمحاربين لدينك، أو للمستضعفين الظالمين، والذين ذكر القرآن الكريم أن أكثرهم من اليهود والنصارى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]

وقد دل الواقع والتاريخ على ما ذكره القرآن الكريم؛ فأكثر ما تراه في عصرك هذا، وفي عصور سابقة من الاعتداء والظلم والاستعمار والحروب تجده ممن يدعون نسبتهم لليهودية والنصرانية.. ولذلك نهى القرآن الكريم عن ولايتهم، لا ليهوديتهم ونصرانيتهم، وإنما لتلك المظالم التي يمارسونها باسمهما.

ولذلك أثنى الله تعالى على النصارى الصادقين الذين لم يحاربوا المستضعفين، ولم يظلموهم، بل أقروا بالحق بعد أن عرفوه، فقال: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [المائدة: 82، 83]

وأخبر أن أهل الكتاب، سواء كانوا من اليهود والنصارى، ليسوا في درجة واحدة، فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران:113)

وضرب نموذجا عن أسباب ذلك التميز، فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ} (آل عمران: 75)

وبهذا؛ فإنك لو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ القرآن الكريم، لوجدت أنه عند ذكره للولاء والبراء، لا يقصد ربطه باليهود ولا النصارى، ولا أي دين آخر، وإنما يقصد المعتدين الظالمين، والذين كانوا في ذلك الحين وبعده من تينك الطائفتين، ولهذا قال الله تعالى يخبر عن الذين ادعوا الإيمان، وفي نفس الوقت يوالون أعداءه: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]

 وهكذا ترى القرآن الكريم يشتد اشتدادا عظيما على الأعراب المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما صدر عنهم من أنواع الانحراف، كما قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:97)، وقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:98)

لكنه في نفس الوقت يثني ثناء عظيما على من لم يتخلق بتلك الأخلاق، ولم يسلك ذلك السلوك، قال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:99)

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تسلك سبيل أولئك الذين اختلطت عليهم الأمور، ووضعوا النصوص المقدسة في غير مواضعها، فراحوا يوالون المستكبرين الظالمين، ويستعينون بهم على ضرب إخوانهم من المؤمنين المستضعفين في نفس الوقت الذين يشتدون فيه على عامة الناس من أهل الكتاب ممن لم يحاربوا المؤمنين، فيستحلوا دماءهم وأموالهم بغير حق، ويحجبونهم بذلك عن دين الله بما ابتدعوه من أديان.

ولو أنهم أعملوا عقولهم التي لا يفهم الوحي إلا بها، لعرفوا مراد الله تعالى من الأمر بالبراءة من الكافرين، وكونه ليس مرتبطا بجحودهم للحق، وإنما بمحاربتهم له، وصراعهم معه، ومع من يمثله.

ولهذا اقترن الإذن الإلهي بالجهاد مع الظلم، ولم يقترن بالدين؛ فالله تعالى لم يأذن بالجهاد لإخراج الناس عن أديانهم، وإدخالهم الإسلام، وإنما أذن بذلك لمحاربة المستكبرين الظالمين من أي دين كانوا، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (الحج: 39 – 40)

بل ورد الأمر بنصرة المستضعفين من غير اهتمام بالأديان التي هم عليها، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)، فالآية الكريمة تقرر أن الغاية من الجهاد هي ردع الظالمين المجرمين، وحماية المستضعفين من أي دين كانوا.

ويذكر القرآن الكريم أن ما مورس من جهاد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعدو هذا الغرض، فهو يوضح أن المسلمين كانوا مستهدفين من الأعداء في كل حين، وأنه لولا ما آتاهم الله من قوة وسلاح لأجهز عليهم الأعداء، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:217)

ولهذا لا نجد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي بدء بالعدوان على قرية أو مدينة أو أي جهة من الجهات، بل كان السلام هو الشعار الذي حمله رسول الهداية ورحمة الله للعالمين.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعامل مع الناس بكل ما تستدعيه الأخلاق الطيبة، من غير نظر إلى الأديان التي هم عليها، وقد روي أنه عندما دخل وفد نصارى نجران المدينة المنورة دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوهم)، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم وكانوا ستين راكبا([6]).

وهكذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفق بأهل الكتاب، والتعامل معهم بكل ما يستدعيه البر والتسامح والأخلاق الحسنة من معاملات، وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بأهل مصر، مع علمهم أنهم كانوا من أهل الكتاب، فقال: (إنكم ستفتحون مصر وهى أرض يسمى فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما) ([7])

وعلى هذا سار أئمة الهدى الذين مثلوا الدين الحقيقي، ولم ينحرفوا إلى تلك السبل التي ابتدعها أصحاب الملك العضوض، ومن ساندهم من العلماء والفقهاء، وقد روي عن الإمام علي وصيته لولاته برعاية المظلومين والمستضعفين من أي دين كانوا، فقد قال في عهده إلى مالك الأشتر: (ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووليّ الأمر عليك فوقك، واللّه فوق من ولّاك)([8])

ولذلك فإنه ليس من البراءة من المستكبرين الظالمين إذية أصحاب أي دين كان، ولا التدخل في خصوصياتهم، ولا هدم معابدهم، أو التكبر عليهم بأي لون من ألوان التكبر.. بل نحن مطالبون عكس ذلك بتأليف قلوبهم ومراعاة مشاعرهم، وعدم التعرض لمقدساتهم بالشتم أو السب أو الإساءة.

وقد علمنا الله ذلك مع أشد الناس كفرا، فقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108]، فالله تعالى لم يكتف بالنهي عن سبهم، وإنما راح يبرر سبهم في حال حصوله بكونه استفزازا، وعن غير علم.

هذه هي المعاملة الشرعية التي مثلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن تمثيل، سواء مع من جاوره من اليهود، أو مع أولئك النصارى الذين وفدوا إليه من نجران.. فقد أنزلهم في المسجد، وكانوا يصلون في جانب منه، وعندما حاورهم طبق في حواره لهم ما أمرنا الله تعالى به في قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46]، ولم يكرههم على الدخول في الإسلام، بل ترك لهم الحرية في الاختيار، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران([9]).

 ومثّله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يوصي بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين، ويدعو إلى مراعاة حقوقهم، والإحسان إليهم، وينهى عن إيذائهم؛ فيقول: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه ـ أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه ـ يوم القيامة)([10])، ويقول: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)([11])

لكن كل هذا لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ أن نسكت عن نصيحتهم وتوجيههم وحوارهم ومناظرتهم؛ فاحترامنا لمقدسات الآخر لا تعني سكوتنا عليها، أو اعتبارها وجهة نظر، بل علينا أن ندعو إلى تصحيحها، ونستعمل كل الحجج لأجل ذلك، كما علمنا ربنا عند حديثه عن الذين ضلوا من أهل الكتاب وأسباب ضلالهم، والردود العقلية القوية على ذلك.

فمن الخداع لهم أن نعتبر ما يقعون فيه من الضلالة هداية، أو نقرهم على ذلك، مع أن الله تعالى أخبر بأنهم انحرفوا بذلك انحرافا خطيرا، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 73]، فالله تعالى اعتبر القائلين بذلك كفارا، وتوعدهم بالعذاب الشديد، ومن احترامنا لكلام الله أن نردد ما قاله، لا أن نناقضه، ونخالفه، ونخدع بذلك أنفسنا، ونخدع قبل ذلك أولئك الذين كان علينا أن ننصحهم، لا أن نجاملهم.

ومن تلك الحدود ألا تنسجم نفوسنا مع الباطل، وتقره، وتذعن له، بحجة التسامح وحرية الفكر والرأي.. فليس من ولاية الله أن يسمع مسلم ملحدا يسخر بالله أو يستهزئ به، ثم لا يتحرك له جفن، ولا يهتز له عرق، وكأن شيئا لم يحصل، مع أنه لو تعرض أحد لأبسط شيء يتعلق به لقامت قيامته، وتخلى عن كل ألوان التسامح والعفو وسعة الصدر.

وهذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى مخبرا عن بعض عقائد أهل الكتاب أو غيرهم من الأديان ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴾ [مريم: 88]، ثم بين تأثير هذه الكلمة العظيمة على الكون جميعا، وكيف ينفعل لها، فقال: ﴿ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴾ [مريم: 89 ـ 92]

ولهذا فإن عدم اهتزاز قلب المؤمن لما يقال في حق الله مما لا يتناسب مع جلاله وعظمته وقدره هو ضعف في الإيمان، وقصور فيه؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتأثر كثيرا بسبب ما يقع فيه المشركون وغيرهم من أنواع الضلالة، كما قال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]

فاستن ـ أيها المريد الصادق ـ بسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم في اللين والشدة، وفي كل شيء.. فهو حامل راية الهداية، وهو السراج المنير، ومن استضاء بغيره أطبقت عليه الظلمات، وانحرف عن الهدى، وسلك سبيل الغواية.


([1])  أحمد والبخاري وابن ماجة والترمذي وابن حبان والحاكم.

([2])  الكافي: 1/44.

([3]) الطبراني في الكبير.

([4]) رواه أحمد والترمذي.

([5])  رواه الترمذي ج 2 ص 319، الحاكم: 3/ 149.

([6])  انظر: زاد المعاد:3/ 629، هداية الحيارى:27.

([7])  مسلم (7/ 190)

([8])  نهج البلاغة: الكتب، ص 53.

([9])  زاد المعاد في هدي خير العباد، (3/ 549)

([10])  رواه أبو داود (3052)

([11])  رواه أحمد 2/171 (6592)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *