الحرص والبخل

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق تسألني عن الحرص والبخل، والمنابع التي تنبع منها، والثمار التي تثمرها، وكيفية تخليص النفس منها، وأسرار ما ورد في النصوص المقدسة حولها.
وهذه أسئلة وجيهة، لا يمكن لمن يريد تهذيب نفسه لتصبح صالحة للسير في طريق التحقق والتخلق، ألا يعرف الإجابة عنها، حتى يتخلص من هذين المثلبين الخطيرين اللذين يحولان بينه وبين الكمال المتاح له.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دورهما في ذلك، فقال: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديّهما إلى تراقيهما؛ فأمّا المنفق فلا ينفق إلّا سبغت، أو وفرت على جلده حتّى تخفي بنانه وتعفو أثره. وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلّا لزقت كلّ حلقة مكانها، فهو يوسّعها ولا تتّسع)([1])
وهو يشير إلى أن الانقباض النفسي الذي يعاني منه البخيل بسبب حرصه على المال، يحول بينه وبين كل المكارم، بل يجعله يرى كل شيء من نوافذ ذلك الحرص الذي ارتضاه لنفسه، ولذلك لا ينال أي خير، ولن يتمكن من إصلاحه أي توجيه.
ذلك أنه يرمي كل من يدعوه لذلك بكونه شحاذا أو متسولا، لا يريد إصلاحه، وإنما يريد الاستيلاء على ماله، وذلك ما يكون أعظم حجاب بينه وبينه.
ولهذا ذكر الله تعالى عن الرسل جميعا استغناؤهم عن أموال الناس، وتصريحهم بذلك، حتى لا يكون ذلك حجابا بينهم وبين قبول الحق، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام:90)، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (صّ:86)
ولهذا اعتبر القرآن الكريم من أدلة صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عفافه عن أموال قومه، كما قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (الطور:40)، وقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (المؤمنون:72)
بل إن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يريد أموالهم، ولا رزقهم ولا طعامهم، وإنما يريد عبادتهم التي هي الوسيلة الوحيدة لتهذيبهم والسير بهم في معارج الكمال، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58]
لكن الحريص على الأموال، والمحب لها لا يسمع لذلك، لأن الموازين عنده تختل اختلالا شديدا؛ فالذهب والفضة وكل أصناف الأموال تتحول إلى جدر حصينة تحول بين عقله وبين إدراك الحقائق والتسليم لها، مثلما حصل لفرعون عندما نظر إلى موسى؛ فاحتقره وازدراه، وكانت حجته في ذلك ما عبر عنه بقوله ـ مخاطبا قومه ـ: { يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 – 53]
وهكذا فعل قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7، 8]
وهذا الحال النفسي الذي حال بين أقوام الأنبياء وأنبيائهم هو نفسه الذي حال بين أهل الحق وأهل الباطل والغفلة في كل العصور، ذلك أنهم قبل أن يسمعوا للحقائق، ينظرون إلى أحوال الداعين لها، ومدى ثرائهم.
بل إن القرآن الكريم يخبر أن السبب الأكبر في تحريف الأديان هو ذلك الحرص والجشع الذي حول الدين إلى تجارة، فتحول رجال الدين من وظيفة الهداية إلى وظيفة الجباية، ومن هداة إلى الله إلى لصوص باسم الله، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]
بل إن الحرص بلغ بهم ما هو أعظم من ذلك، حيث أنهم كانوا يكتمون الحقائق، ويحرفونها، حتى تتناسب مع نفوسهم الجشعة، قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة: 79]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة: 174، 175]
وهكذا كان الحرص والبخل منبعا لأكثر الرذائل والانحرافات التي حصلت للمجتمعات البشرية في جميع العصور، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (اتقوا الظّلم فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتّقوا الشّحّ فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم)([2])
فقد قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين البخل والظلم، وبين أن الشح هو السبب في الحروب وانتهاك الأعراض، وهو ما نراه في الواقع البشري، وفي جميع فترات التاريخ، فالحروب ليست سوى مطامع نفوس حريصة، لم يكفها ما أفاض الله عليها من رزقه، فراحت تسرق رزق غيرها.
وهكذا؛ فإنك لو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ ما ورد في النصوص المقدسة حول الحرص والبخل، لعلمت أنهما منبعان لكل الرذائل والمثالب والمآسي التي حصلت في تاريخ البشرية، وأنهما الحائلان الأكبران بين الإنسان وبلوغ الكمال.
فقد أخبر الله تعالى أنهما يورثان النفاق، وهو المحل الذي تجتمع فيه كل المثالب والرذائل، كما قال تعالى ـ مخبرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أخرجه الحرص على المال والبخل به عن تلك الصحبة المقدسة إلى النفاق ـ: {مِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 – 77]
وهكذا نجد الأحاديث النبوية الشريفة تقرن بين البخل والحرص وأنواع الرذائل لتنبه إلى العلاقة الشديدة بينها، كما ورد في الدعاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها، اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)([3])
وفي حديث آخر قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الجبن والشح، فقال: (شرّ ما في رجل: شحّ هالع، وجبن خالع)([4])
وفي حديث آخر قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين البخل واللؤم والجبن، فقال: (إنّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنّما أنتم ولد آدم طفّ الصّاع، لم تملؤوه، ليس لأحد فضل إلّا بالدّين أو عمل صالح، حسب الرّجل أن يكون فاحشا بذيّا بخيلا جبانا)([5])
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن البخل، لا يبقى محصورا في الأموال، وإنما يمتد لغيرها، مثل سائر الطباع، فقال: (إنّ أعجز النّاس من عجز عن الدّعاء، وأبخل النّاس من بخل بالسّلام)([6])، وقال: (البخيل من ذكرت عنده ثمّ لم يصلّ عليّ)([7])
ويروى أن رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنّ لفلان في حائطي عذقا، وإنّه قد آذاني وشقّ عليّ مكان عذقه، فأرسل إليه النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (بعني عذقك الّذي في حائط فلان)، قال: لا. قال: (فهبه لي) قال: لا. قال: (فبعنيه بعذق في الجنّة) قال: لا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (ما رأيت الّذي هو أبخل منك إلّا الّذي يبخل بالسّلام)([8])
العلاج المعرفي:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المنبع الأكبر لهذا المثلب وأخواته، هو الجهل بالحقائق، واختصار الحياة في هذه الحياة الدنيا، وعدم الإيمان بالآخرة، وبأنواع الجزاء المرتبطة بها.
ولذلك كان أول علاج لهذا المرض الخطير هو تصحيح الإيمان واليقين بالله تعالى، وباليوم الآخر، وبحقيقة الحياة، وبدور الإنسان فيها؛ فهذه الحقائق كلها هي التي تهذب النفس، وتزرع فيها كل المكارم، وتنفي عنها كل الرذائل والمثالب.
ولهذا كان أكثر الناس معرفة بالله أكثرهم كرما، لعلمهم بأن كل فضل أو رزق من الله تعالى، وليس من عندهم، ولا بحيلتهم، فلذلك لا يثقون في خزائنهم بقدر ثقتهم في الله، كما عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك)([9])
وقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على بلال، وعنده صُبرة من تمرٍ، فقال: ما هذا يا بلال؟ قال: يا رسول الله ادّخرته لك ولضيفانك، فقال: (أما تخشى أن يكون له بخار في النار؟ أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)
فهذا الحديث يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينظر إلى ما عند الله من الفضل العظيم الذي لا حدود له، فلذلك صارت تلك الصبرة لا تساوي شيئا بالنسبة له..
وهكذا؛ فإن المعرفة بحقيقة المال، وكونه مجرد عرض زائل، وأن الغرض منه أن يكون وسيلة فقط، لا هدفا مقصودا، يساهم كثيرا في نزع الحرص عليه؛ ذلك أنه قد يصبح سببا لعذاب كبير، وآلام كثيرة، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
ومما يروى في هذا أنه حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصّع بالجواهر لم ير له نظير، ففرح الملك بذلك فرحا شديدا، فقال لبعض الحكماء عنده: كيف ترى هذا؟ قال: أراه مصيبة أو فقرا، قال: كيف؟ قال: إن كسر صارت مصيبة لا جبر لها، وإن سرق صرت فقيرا إليه ولم تجد مثله وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر.. ثمّ اتّفق أن كسر يوما وعظمت مصيبة الملك فيه فقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا([10]).
ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ قرأت ما يكتب في الأحداث اليومية لوجدت الكثير من أمثال هذا الملك من أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالحرص على المال؛ فلم ينتفعوا به، لا في دنيا، ولا في آخرة..
ذلك أن من ثمار البخل على الخلق البخل على النفس.. فالحرص الشديد على المال يجعل صاحبه يبخل على كل شيء حتى على نفسه.
ولذلك كان من عقوبة البخيل أن يعاقب بنفس المال الذي بخل به، وحرص عليه، كما قال تعالى: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]
وذكر الله تعالى أنواع العسر التي يمر بها الحريص والبخيل، وكيف لا يغني عنه ماله شيئا، فقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) } [الليل: 8، 9]
وفي مقابله ذكر المؤمن التقي الكريم، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 – 7]
ولهذا أخبر عن أبي لهب أن ماله لم يغنه، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } [المسد: 1 – 3]، وفي ذلك إشارة إلى أن السبب الأكبر في عتوه وكفره بخله وحرصه على ماله.
وقد سبق أن ذكرت لك في رسائل سابقة ما ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تفاصيل العقوبات التي جعلها الله تعالى للكانزين لأموالهم، الحريصين عليها، الذين لا يؤدون حقوق الله فيها؛ فلذلك استعن بها على نفسك وتهذيبها، فوظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تزكية أمته ليست قاصرة على الذين عاصروه، وإنما هي ممتدة لكل العصور.
وأضف إلى ذلك ما ورد من أحاديث في فضل الكرم، وبيان عظم الجزاء الذي يناله أهله.. فالبخل والكرم خلقان متضادان، بقدر ما اقتربت من أحدهما، بقدر ما فررت من الآخر.
ومن تلك الأحاديث ما ورد في الدلالة على قرب السخي من الله، بسبب كون (السخاء خلق الله الأعظم)([11]) كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أن (السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل)([12])
وأخبر أن أحب الأعمال إلى الله الكرم، فقال: (أحب الأعمال إلى الله تعالى، من أطعم مسكينا من جوع، أو دفع عنه مغرما، أو كشف عنه كربا)([13]).. وقال: (أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض، إدخال السرور على المسلم)([14])
وأخبر عن حب الله للمكرمين، فقال: (إن أحب عباد الله إلى الله، من حبب إليه المعروف، وحبب إليه أفعاله)([15]).. وقال: (إن الله تعالى استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما)([16]).. وقال: (إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها)([17])، وقال: (ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدت عليه مؤنة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال)([18])
وقال: (خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما الله تعالى، فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيرا، استعمله على قضاء حوائج الناس)([19])
وأخبر عن تأثير الكرم في الوقاية من نيران الدنيا، فقال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا، هم أهل المنكر في الآخرة)([20])
بل ذكر ما هو أعظم من ذلك، فقال: (تسد الصدقة سبعين بابا من السوء)([21])، وقال: (الصدقة تمنع سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجذام والبرص)([22])، وقال: (الصدقة تمنع ميتة السوء)([23])، وقال: (مناولة المسكين تقي ميتة السوء)([24])، وقال: (تداركوا الهموم والغموم بالصدقات، يكشف الله تعالى ضركم، وينصركم على عدوكم)([25])، وقال: (الصدقة على وجهها، واصطناع المعروف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، تحول الشقاء سعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء)([26])
وأخبر عن الجزاء المعد للكرماء في الدنيا قبل الآخرة، فقال: (إذا أراد الله بقوم نماء، رزقهم السماحة والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح عليهم باب خيانة)([27])، وقال: (استعينوا على الرزق بالصدقة)([28])، وقال: (استنزلوا الرزق بالصدقة)([29])
وأخبر (أن ملكين ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا)([30])، وقال: (إن الله تعالى يقول يا ابن آدم أودع من كنزك عندي، ولا حرق، ولا سرق، ولا غرق، أوفيكه أحوج ما تكون إليه)([31])
وأخبر عن عظم الغبن الذي يحيق بالبخلاء، فقال: (اعلموا أنه ليس منكم أحد، إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت)([32])، وفي رواية: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، فإن ماله ما تقدم، ومال وارثه، ما تأخر)([33])
وغيرها من النصوص الكثيرة التي جعلت الكرم من القيم النبيلة التي يتنافس فيها الأغنياء والفقراء على حد سواء.
العلاج السلوكي:
إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعزمت على أن تتخلص من هذا المثلب الخطير؛ فانظر إلى مالك باعتباره سؤالا من أسئلة الامتحان التي كلفت بها، وأن نجاحك وفوزك مرتبط بمدى صحة إجابتك عنه.
وهي إجابة تحددها أحكام الشريعة، لا الهوى، فأنت لست حرا في إنفاقك لمالك، فقد تدعوك نفسك للكرم، لا لتتحقق من خلال ذلك عبوديتك لربك، وإنما لتتحقق من خلالها عبوديتك لها.. فاحذر أن تخرج من عبودية المال إلى عبودية نفسك.
ولهذا أخبر الله تعالى عن كرم الذين واجهوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه، فقال ـ يحكي عن بعضهم قوله ـ: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } [البلد: 6]
وأول ذلك ما ورد في النصوص المقدسة من إطعام المساكين والأيتام والمستضعفين والعناية بهم، كما قال تعالى في وصف الأبرار، وأعمالهم التي استحقوا بها الجنة: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 8 – 10]
وقال في وصف أهل النار، وأفعالهم التي أوجبت لهم النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [المدثر: 42 – 44]
بل نجد هذا في سورة كاملة تعتبر من لا يحض على طعام المسكين مكذبا بالدين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون:1 ـ 7)
ولهذا، فإن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعلم أنك مستخلف في مالك، وأن أول الأفواه التي عليك إطعامها فمك، وفم من كلفت بهم.. فإذا فضل عليك بعدها؛ فعليك الإنفاق منه على من ترى الشريعة حاجته، لا أنت ولا هواك، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة: 219]
ولا تحتقر أي شيء تقدمه في هذا السبيل؛ فأنت في امتحان، والله تعالى لا ينظر إلى حجم أو وزن ما أنفقت، وإنما ينظر إلى نفسك التي لم تجد إلا ذلك، وقد ورد في الحديث ما يشير إلى تنمية الله لذلك القليل الذي أنفقته حتى يصبح كثيرا، وتنال عليه الأجر العظيم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يقبل الصدقة، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد)([34])، وفي رواية: (إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي ولده، أو فصيله حتى يكون مثل أحد)([35]).. وقال: (إن العبد ليتصدق بالكسرة، تربو عند الله حتى تكون مثل أحد)([36])
ولهذا دعا إلى عدم احتقار أي شيء يبذل في سبيل الله، وفي تطهير النفس من الحرص والبخل، فقال: (ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة)([37]).. وقال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة)([38])، وفي رواية: (اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة)([39])، وفي أخرى: (تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)([40])، وفي حديث آخر قال: (تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار)([41])، وقال: (إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته)([42])، وقال: (من أطعم أخاه من الخبز حتى يشبعه، وسقاه من الماء حتى يرويه، بعده الله من النار سبع خنادق، كل خندق مسيرة سبعمائة عام)([43])
وأخبرصلى الله عليه وآله وسلم عن بعض الجزاء الذي يناله من ينفق ما يقدر عليه حتى لو كان قليلا، فقال: (ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة، كلهم يدعوه إلى ما عنده)([44])، وقال: (كم من حوراء عيناء، ما كان مهرها، إلا قبضة من حنطة، أو مثلها من تمر)([45])
وهذه الأحاديث كلها برواياتها المختلفة، لا تشير فقط إلى عظم الجزاء الأخروي للصدقة مهما كانت قليلة، وإنما تشير أيضا إلى تأثيرها التربوي ودورها في تهذيب النفس، ذلك أن الله تعالى يجازي المبادرين بالهداية إلى المزيد منها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن يغرك الشيطان عن نفسك؛ فتتوهم أنه يكفيك أن تتصدق بشق تمرة مع أنه في إمكانك أن تتصدق بالقناطير من التمر من غير أن يصيبك أي حرج.. فذلك مما يسوله الشيطان للأغنياء الذين يسرفون على شهواتهم وترفهم، ثم يقدمون الفضلات للفقراء والمساكين، وهم يتوهمون أنهم قد ضمنوا الجنة بذلك.. وكل ذلك غرور وخداع للنفس، فالله تعالى يحاسب كل نفس بحسب ما آتاها..
ولذلك فإن تلك الأحاديث التي تدعو إلى التصدق بأي شيء، ليست خاصة بالمترفين الأغنياء، وإنما هي خاصة بالذين لا يجدون إلا ذلك.
فلذلك اعتبر نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ أحد أولئك الفقراء المعوزين؛ فأطعمها بحسب حاجتها، لا بحسب ما يقتضيه الترف، فأنت موظف في مالك، ولست مالكا له.. فخذ ما يكفيك، وضع الباقي في محله الذي أمرتك الشريعة أن تضعه فيها..
والشريعة لم تحرم
عليك أن تملك، ولكنها حرمت عليك أن تتلاعب بما تملك، لأن في ذلك الهلاك، لا لك
فقط، وإنما لكل من سكت عن الترف والمترفين، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا
أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]
([1]) البخاري [فتح الباري]، 3(1443) واللفظ له، ومسلم(1021)
([2]) مسلم(2578) وخرج البخاري أوله [الفتح] 5(2447)
([3]) مسلم(2722)
([4]) أحمد(2/ 302، 320)، وابن حبان(3250)
([5]) أحمد(4/ 145)
([6]) الطبراني (2/ 811)
([7]) الترمذي(3546)، و أحمد(1/ 201) والحاكم(1/ 549)
([8]) أحمد(3/ 328)
([9]) رواه الترمذي.
([10]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج6، ص: 90.
([11]) ابن النجار عن ابن عباس.
([12]) الترمذي والبيهقي.
([13]) الطبراني.
([14]) الطبراني.
([15]) ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ.
([16]) الطبراني.
([17]) البيهقي، وأبو نعيم في الحلية.
([18]) ابن أبي الدنيا والبيهقي.
([19]) البيهقي.
([20]) الحاكم.
([21]) الطبراني.
([22]) الخطيب.
([23]) القضاعي.
([24]) الطبراني والبيهقي.
([25]) الديلمي.
([26]) أبو نعيم في الحلية.
([27]) ابن عساكر، والطبراني.
([28]) الديلمي.
([29]) البيهقي.
([30]) الشيخان وغيرهما.
([31]) البيهقي.
([32]) النسائي.
([33]) أحمد، والترمذي.
([34]) الترمذي.
([35]) أحمد، وابن حبان في صحيحه.
([36]) الطبراني.
([37]) أحمد.
([38]) الشيخان.
([39]) الطبراني.
([40]) الطبراني.
([41]) الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية.
([42]) الطبراني.
([43]) النسائي، والحاكم.
([44]) أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.
([45]) العقيلي في الضعفاء.