اللؤم والدناءة

اللؤم والدناءة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن اللؤم والدناءة وما ارتبط بهما من الخسة وصغر النفس وحقارتها.. وعن الدوافع التي تدفع إليها، والثمار التي تثمرها، وكيفية التخلص منها، لتحل الهمة العالية بدلها، وتحل معها كل قيم النبل والمكارم.

وهذه أسئلة وجيهة؛ فاللؤم والدناءة والخسة وصغر النفس وحقارتها من صفات النفس الأمارة بالسوء، وهي من أكبر الحجب التي تحول بينها وبين السير إلى الله، والتحقق بحقائق أهل الله، ذلك أن أول صفاتهم الهمة العالية، والأدب الرفيع.

ولذلك كانوا أبعد الخلق عن اللؤم.. وكيف يكونون كذلك، وما هو إلا نزول الإنسان من المحل الرفيع الذي أقامه الله فيه إلى أسفل سافلين، فبدل أن يرقى بهمته إلى المعالي ينزل بها إلى المنحدرات، ثم هو في نزوله لا يقع إلا على الخنافس والجرذان، ولا يجد رفيقا له إلا الخنازير والسباع.

ولهذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن (الله يحبّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها([1]))([2])، واعتبر اللؤم صفة الفاجر، فقال: (المؤمن غرّ كريم، والفاجر خبّ لئيم)([3])

وأخبر عن الفرق بين مكارم المؤمنين، ولؤم الفاجرين، فقال: (إن الله يبغض الفحش والتفحش، والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين، ويؤتمن الخائن، حتى يظهر الفحش والتفحش، وقطيعة الأرحام، وسوء الجوار، والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن لكمثل القطعة من الذهب، نفخ عليها صاحبها فلم تغير، ولم تنقص، والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن لكمثل النحلة، أكلت طيبا، ووضعت طيبا، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد) ([4])

وقال في حديث آخر: (والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل، ويخون الأمين، ويؤتمن الخائن، ويهلك الوعول، وتظهر التحوت)، قالوا: يا رسول الله وما الوعول والتحوت؟ قال: (الوعول: وجوه الناس وأشرافهم والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم) ([5])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ وأنت تروم التخلص من اللؤم والدناءة لتتحقق بما تتطلبه الهمة العالية من المكارم أن تقع فيما وقع فيه أولئك المتثاقلون للدنيا، الذين حصروا علو الهمة في المناصب الرفيعة، والجاه العريض، فباعوا دينهم بدنياهم، وعقلهم بهواهم، ولم يستمتعوا بدنيا، ولم يتزودوا لآخرة.

وقد روي عن بعض هؤلاء أنه كان لا يكاد ينام في شبيبته؛ فسئل عن ذلك، فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع، فقيل له: فما الذي يبرد غليلك؟ قال: الظفر بالملك، قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال، قيل: فاركب الأهوال، قال. العقل مانع، قيل: فما تصنع ؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خطراً لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.

وقد قام هذا المسكين بما دعت إليه همته؛ فأجهد نفسه للدنيا، ووصل إلى أعلى مراتبها، لكنه لم ينل منها شيئا.. فقدم على الآخرة خالي الوفاض.. فلم ينل لا الدنيا، ولا الآخرة.

أو ذلك الذي راح يقاتل سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيد شباب أهل الجنة من أجل ذلك الملك المحدود الذي تصور نفسه صاحب همة عالية إن ناله، لكنه لم ينله.

لقد قال يتحدث عن الخيارات التي وضعت بين يديه، وكيف تلاعب به الشيطان، وسول له الهوى ليختار اللؤم على الكرم، والدناءة على الهمة:

فـوالله لا أدري وإنّـي لحائرٌ…   أُفـكّر في أمري على خطرين

أأترك ملكَ الريِّ والريُّ مُنيتي…   أم أرجـع مأثوماً بقتل حسينِ

حسينُ ابنُ عمّي والحوادثُ جمّةٌ …  لَعَمري ولي في الريّ قرّةُ عينِ

وإنّ إلـهَ الـعرشِ يغفر زلّتي …  ولـو كـنتُ فيها أظلمَ الثقلينِ

ألا إنّـما الـدنيا لَـخيرُ مُعجَّلٍ …  ومـا عـاقلٌ باع الوجودَ بدَينِ

يـقولون إنّ اللهَ خـالقُ جنّةٍ …  ونـارٍ وتـعذيبٍ وغلِّ يدينِ

فإنْ صدقوا فيما يقولون إنّني …  أتوب إلى الرحمن من سنتينِ

وإنْ كذبوا فُزنا بدنيا عظيمةٍ …  ومـلكٍ عـقيمٍ دائمِ الحجلينِ

وقد رد عليه بعضهم، فقال:

ألا أيّـها الـنغلُ الذي ليس مثلهُ …  ويـمضي مـن الدنيا بقتلة شينِ

إذا أنت قاتلت الحسينَ بنَ فاطمٍ … وأنـتَ تـراه أشـرفَ الثقلينِ

فلا تحسبنَّ الريَّ يا أخسرَ الورى … تـفوز بـه من بعد قتلِ حسينِ

ومثله ذلك الشاعر الذي قضى عمره يبحث عمن يوليه بعض الولايات، وكان يقول:

وفي الناس من يرضى بميسور عيشه… ومركوبه رجلاه والثوب جلده

ولكن قلباً بين جنبي ما له… مدى ينتهي بي في مراد أحدّه

يرى جسمه يكسي شفوفاً تربّه… فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه

وكان يقول:

على قدرِ أهلِ العزمِ تأتيْ العزائمُ… وتأتيْ على قدرِ الكرامِ المكارمُ

وتعظمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها… وتصغرُ في عينِ العظمِ العظائمُ

وقد توهم نفسه صاحب همة علية، لكنه لم يكن كذلك.. فالهمة العالية لا تكون إلا لمن ترقوا بأرواحهم عن ثقل الطين، ومن عداهم لا يختلفون عن ذلك الذي وصفه الله تعالى، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]

ولذلك اجعل مصدرك في تحديد الهمم العالية، وما ارتبط بها من المكارم، ما ورد في النصوص المقدسة، فهي التي تبين الحقائق، وتعطي القيم الحقيقية للأشياء، أما من عداها، فهي تكذب عليك، وتوهمك بالأماني الكاذبة التي لن تجد في نهايتها إلا السراب.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ـ وهو يخبر عن بني إسرائيل ـ: (كانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، ثم مر بأمة فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها وقال: اللهم اجعلني مثلها فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون: سرقت زنت، ولم تفعل)([6])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فساد الموازين والمعايير التي يتعامل بها البشر مع اللؤم والكرم، فقال: (سيأتي على النّاس سنون يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصّادق، ويخوّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرّويبضة)، قيل: يا رسول الله؛ وما الرّويبضة؟ قال: (السّفيه يتكلّم في أمر العامّة) ([7])

لذلك لا تعتمد ما يقوله عامة الناس أو خاصتهم في تحديد المكارم، بل اعتمد الحقائق والقيم التي وردت في النصوص المقدسة، فهي التي تمثل الحقيقة، أما ما عداها، فليست سوى أوهام وأماني تضرك أكثر مما تنفعك.

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لهذه الوصفات الربانية التي تطهر نفسك من كل لؤم ودناء وخسة، لتملأها بالهمة العالية الحقيقية، والأخلاق العظيمة المرتبطة بها.

العلاج المعرفي:

أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ للتخلص من اللؤم والدناءة وما يرتبط بها من الخسة والوضاعة، أن تعرف الجوائز والعقوبات التي أعدت لكلا الطرفين: اللؤماء والكرماء، وأصحاب الهمم العالية والهمم الدنية.. والتي أشار إليها قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 18، 19]

ثم أخبر بعدها أن الله تعالى يعطي كل نفس بحسب همتها، فقال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]

ثم بين أن الدرجات والمراتب التي تفرق بين الناس في الدنيا هي نفسها التي تفرق بينهم في الآخرة، ولكن مع الفوارق العظيمة، قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } [الإسراء: 21]

ولذلك وصف الله تعالى الآخرة بأنها [خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ]، فهي تخفض المرتفعين المستكبرين الذين يتوهم الناس أنهم أصحاب المكارم والهمم العالية، في نفس الوقت الذي ترفع فيه البسطاء الذين خفضهم الظلمة، واحتقرهم الناس، لتريهم صورهم الحقيقية الممتلئة بالجمال، والذي كان مغطى بذلك الوشاح الدنيوي الذي حال بين البشر ورؤيتهم.

لذلك اسع ـ أيها المريد الصادق ـ لأن تتحقق بتلك الهمة العالية التي تجعلك من الذين يتبوؤون تلك المناصب الرفيعة في الدار الآخرة، والذين ورد ذكرهم وذكر أوصافهم في النصوص المقدسة، لا لتتسلى بالتعرف عليهم، وإنما لتكون أحدهم.

فالله تعالى قد وعد عباده بالجوائز العظيمة إن هم نجحوا في الاختبارات التي يمتحنهم فيها، فاحذر أن تكون من الراسبين الفاشلين، فأنت في السوق الذي لا يربح فيه إلا أصحاب الهمم العالية.

لقد قال صاحب هذه السوق يخاطبك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10]

ثم بين لك الثمن الذي تباع به سلع الآخرة، فقال: { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11]

ثم ذكر لك الثمن الذي يمكنك قبضه، والذي لا يمكن وصفه، فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 12، 13]

وهو ثمن يشمل الدنيا والآخرة.. فالله تعالى ربهما جميعا.. ولذلك يجازي من نجح في الاختبار بهما جميعا، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

وهذا الجزاء العظيم يستدعي الاجتهاد العظيم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة اللّه غالية، ألا إنّ سلعة اللّه الجنّة) ([8])

ولهذا، فإن القرآن الكريم يدعونا إلى المسارعة؛ فالسرعة لنيل المكارم دليل على الهمة العالية، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]

ثم وصفهم، ووصف أعمالهم وكرمهم ونبلهم، فقال: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 134، 135]

ثم بين الجزاء العظيم المعد لهم، فقال: { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]

وهكذا بعد أن وصف النعيم المعد للأبرار، فقال: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 22 – 26]، ختمها بالدعوة للتنافس للحصول عليها، فقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26]

فاجعل همتك ـ أيها المريد الصادق ـ في هذا النوع من التنافس والسباق، وإياك أن تصبح همتك كهمة صاحب الري الذي ضحى بسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ملك لا ينفعه في دنياه، ولا في آخرته.

وإن أردت أن تكون همتك أعلى؛ فاترك كل شيء لأجل ربك حتى تتتحقق بعبودية الأحرار تلك التي وصفها الإمام علي، فقال: إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار) ([9])

وقال الإمام الصادق: (إن العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزوجل خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عزوجل حبا له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة) ([10])

وقال: (إن الناس يعبدون الله عزوجل على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد، وهي الرهبة، ولكني أعبده حبا له عزوجل فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن، لقوله عزوجل: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] ولقوله عزوجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فمن أحب الله أحبه الله عزوجل، ومن أحبه الله عزوجل كان من الآمنين) ([11])

وقال الإمام السجاد: (إني أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلا ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطمع، إن طمع عمل وإلا لم يعمل، وأكره أن لا أعبده إلا لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء، إن لم يخف لم يعمل)، قيل: فلم تعبده ؟ قال: (لما هو أهله بأياديه علي وإنعامه)([12])

وقال الإمام الرضا: (لو لم يخوف الله الناس بجنة ونار لكان الواجب أن يطيعوه ولا يعصوه، لتفضله عليهم وإحسانه إليهم وما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقوه)([13])

فارتق بهمتك ـ أيها المريد الصادق ـ لما ذكره أئمة الهدى، فلا تنال الهمة العالية إلا بذلك، وقد قال بعض الصالحين: (إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟)([14])

 وقيل لبعض العباد: (أي شئ هاجك إلى العبادة؟)، فسكت، فقيل له: (ذكر الموت)، فقال: (وأي شئ الموت؟)، فقيل له: (ذكر القبر والبرزخ)، فقال: (وأى شئ القبر؟)، فقيل له: (خوف النار ورجاء الجنة)، فقال: (وأي شئ هذا.. إن ملكا هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا)

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعزمت على أن تتخلص من اللؤم والدناءة وما يرتبط بهما من الخسة والوضاعة، فعليك بكل أخلاق الكرام الطيبين أصحاب المروءة، وهي أخلاق متفق عليها بين جميع العقلاء والحكماء؛ فعليك بحمل نفسك عليها، فلا يمكن أن تجتمع معالي الأمور مع سفسافها، ولا علو الهمة مع دنوها.

وأول ذلك أن تخلص نفسك من أول صفات اللؤماء، وهي الفحش.. فاللئيم لا يكون إلا فاحشا مقيتا.. يسرع إلى الخنا من القول، ويتكلّف سبّ النّاس ويتعمّده.. ويجعله وسيلته للسيطرة عليهم.

ولذلك وردت النصوص المقدسة بتحذير المؤمنين منه، وببيان العقاب الذي أحله الله به لتملأ النفوس رهبة من سلوك سبيله، ففي الحديث أن رجلا استأذن على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ائذنوا له، بئس أخو العشيرة)، فلمّا دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول اللّه، قلت الّذي قلت ثمّ ألنت له الكلام. قال: (إنّ شرّ النّاس من تركه النّاس اتّقاء فحشه)([15])

وروي أنّ يهود أتوا النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: السّام عليكم، فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم اللّه، وغضب اللّه عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مهلا يا عائشة، عليك بالرّفق، وإيّاك والعنف والفحش) قالت: أو لم تسمع ما قالوا، قال: (أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ)([16])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قسم قسما، فقيل له: واللّه يا رسول اللّه لغير هؤلاء كان أحقّ به منهم، قال: (إنّهم خيّروني أن يسألوني بالفحش أو يبخّلوني، فلست بباخل)([17])

وفي حديث آخر قالصلى الله عليه وآله وسلم: (الظّلم ظلمات يوم القيامة، وإيّاكم والفحش، فإنّ اللّه لا يحبّ الفحش ولا التّفحّش، وإيّاكم والشّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا..)([18])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس أحد أحبّ إليه المدح من اللّه- عزّ وجلّ-، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرّم الفواحش..)([19])

وقال: (ليس المؤمن بالطّعّان، ولا اللّعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء)([20])

وقال: (ما كان الفحش في شيء إلّا شانه، وما كان الحياء في شيء إلّا زانه)([21])

وقال: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، والبذاء([22]) من الجفاء، والجفاء في النّار)([23])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ والبذاءة والسباب، ولو كنت صادقا؛ فهي من صفات اللؤماء؛ فاحذر منها، وطهر لسانك مما تنفر منه نفوس الطيبين، وإن كنت تراه كلاما عاديا لا حرج فيه.

وكيف لا تطهر لسانك منها، وقد نهى الله عنها، وأخبر أنه لا يحبها، فقال: ﴿ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)﴾ (النساء)

بل إنه عاتب عتابا شديدا من وقع فيها فقال: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)﴾ (النور)

بل اعتبر أهلها من المنافقين، فقال:﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)﴾ (الأحزاب)، وقال:﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)﴾ (الممتحنة)

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها من صفات اللؤماء، فقال: (لا تسبّوا أمواتنا، فتؤذوا أحياءنا، ألا إنّ البذاء لؤم)([24])

بل اعتبرها من النفاق، فقال: (الحياء والعيّ شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان([25]) شعبتان من شعب النّفاق)([26])

بل حذر أصحابها من النار، فقال: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النّار)([27])

ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن البذيء لا يستحق اسم الإيمان، فقال: (ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء)([28])

وبين بغض الله للبذيء، فقال: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإنّ اللّه ليبغض الفاحش البذيء)([29])

وحذر من الوقوع فيها، فقال: (إنّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنّما أنتم ولد آدم، طفّ الصّاع لم تملؤوه، ليس لأحد فضل إلّا بالدّين أو عمل صالح. حسب الرّجل أن يكون فاحشا بذيّا بخيلا جبانا)([30])

بل اعتبرها من الكبائر، فقال: (من الكبائر شتم الرّجل والديه). قالوا: يا رسول اللّه، وهل يشتم الرّجل والديه؟ قال: (نعم، يسبّ أبا الرّجل فيسبّ أباه ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه)([31])

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك والمسارعة إلى الكلام البذيء الذي لا يليق، ولو كان موجها لما لا يعقل.. ففي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، دخل على أمّ السّائب فقال: (مالك يا أمّ السّائب تزفزفين([32])؟) قالت: الحمّى لا بارك اللّه فيها، فقال: (لا تسبّي الحمّى، فإنّها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)([33])

ولعن رجل الرّيح، على عهد النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تلعنها، فإنّها مأمورة، وإنّه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللّعنة عليه)([34])

وجاء أعرابيّ جريء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه: أخبرنا عن الهجرة إليك أينما كنت، أو لقوم خاصّة، أم إلى أرض معلومة، أم إذا متّ انقطعت؟ قال: فسكت عنه يسيرا ثمّ قال: (أين السّائل؟) قال: ها هو ذا يا رسول اللّه. قال: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، ثمّ أنت مهاجر وإن متّ بالحضر)([35])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الصيام الحقيقي هو صيام الكرماء، لا صيام اللؤماء الذين لا يطهرون أنفسهم من الفحش والرفث، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصّيام جنّة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إنّي صائم- مرّتين- والّذي نفسي بيده لخلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصّيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)([36])

وقال: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)([37])

وقال: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) ([38])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المسارعين إلى اللعن والسب لا تتاح لهم تلك المكارم التي تتاح للمؤمنين في الآخرة، فقال: (إنّ اللّعّانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)([39])

ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يطلب من أصحابه أن يعاهدوه على عدم الوقوع في هذا المثلب الخطير المشوه للمسلم، ففي الحديث عن جابر بن سليم، قال: رأيت رجلا يصدر النّاس عن رأيه، لا يقول شيئا إلّا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا (هذا) رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. قلت: عليك السّلام يا رسول اللّه- مرّتين- قال: (لا تقل عليك السّلام! فإنّ عليك السّلام تحيّة الميّت، قل: السّلام عليك) قال: قلت: أنت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (أنا رسول اللّه الّذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلّت راحلتك فدعوته ردّها عليك)، قلت: اعهد إليّ، قال: (لا تسبّنّ أحدا) قال: فما سببت بعده حرّا ولا عبدا، ولا بعيرا ولا شاة، قال: (ولا تحقرنّ شيئا من المعروف، وأن تكلّم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إنّ ذلك من المعروف.. وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه، فإنّما وبال ذلك عليه)([40])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ والنجوى.. فإنها من صفات أهل اللؤم والخسة، ولهذا نهى الله تعالى عنها، فقال:﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)﴾ (النساء)، وقال:﴿ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47)﴾ (الإسراء)

ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها، فقال: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتّى تختلطوا بالنّاس من أجل أنّ ذلك يحزنه)([41])

وقال: (لا يتناجى اثنان دون صاحبهما، ولا يقيم الرّجل أخاه من مجلسه ثمّ يجلس)([42])

وقال: (لا يتناجى اثنان دون الثّالث؛ فإنّ ذلك يؤذي المؤمن، واللّه يكره أذى المؤمن)([43])

وقال: (لا يتسارّ اثنان دون الثّالث)([44])

وكل هذه الأحاديث تشير إلى أن الغرض من النهي عنها هو أداؤها لإذية المؤمن؛ فإن خلت من ذلك، أو كان الغرض منها صالحا؛ فهي من المستثنيات التي نص عليها قوله تعالى: ﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ (114)﴾ (النساء)

وفيما عدا ذلك فالتّسارّ مذموم يسوّل به الشّيطان ليقع سوء الظّنّ بين النّاس، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [المجادلة: 8]

وقد اشتملت آية أخرى على المحمود والمذموم من التّناجي فقال تعالى ناهيا عن التّناجي المذموم وآمرا بالتّناجي المحمود:﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)﴾ (المجادلة)

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ والإسراف.. فإنه من صفات أهل اللؤم والخسة.. وهو ليس خاصا بالطعام، بل هو يشمل كل شيء، كما قال تعالى مخبرا عن الصالحين واستغفارهم من الإسراف: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران)

وقال تعالى يبين عموم الإسراف:﴿ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾ (الزمر)

وذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمور كثيرة، فقال: (كلوا وتصدّقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)([45])، وقال: (إنّ اللّه- عزّ وجلّ- حرّم عليكم عقوق الأمّهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال)([46])، وقال: (إنّ اللّه يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السّؤال وإضاعة المال)([47])

وجاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا ثمّ قال: (هكذا الوضوء. فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدّى وظلم)([48])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)([49])

وقال: (ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)([50])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ والجهر بالسوء.. فإنها من صفات أهل اللؤم والخسة، وقد نهى الله تعالى عنها، فقال:﴿ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (118)﴾ (النساء)، وقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)﴾ (النور)

ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وبين عظم جرمها، فقال: (كلّ أمّتي معافى إلّا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملا، ثمّ يصبح وقد ستره اللّه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبح يكشف ستر اللّه عنه)([51])

وقال: (ما ظهر في قوم الرّبا والزّنا إلّا أحلّوا بأنفسهم عقاب اللّه)([52])

وقال:(يكون في آخر هذه الأمّة خسف ومسخ وقذف). قالت، قلت: يا رسول اللّه، أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: (نعم إذا ظهر الخبث)([53])

وقال: (إنّ اللّه لا يحبّ الفحش، أو يبغض الفاحش والمتفحّش، ولا تقوم السّاعة حتّى يظهر الفحش والتّفاحش، وقطيعة الرّحم، وسوء المجاورة، وحتّى يؤتمن الخائن، ويخوّن الأمين)([54])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أخطر مظاهر المجاهرة إظهار المعصية، كما يفعل المستهترون بحدود اللّه.. والّذي يفعل ذلك يكون كمن وصفهم الله تعالى، فقال: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 26]؛ فهو لم يكتف بنهي نفسه عن المعروف، وإنما راح ينهى غيره أيضا.

ولا يقل عن هؤلاء أولئك الذين سترهم الله تعالى، لكنهم راحوا يفضحون أنفسهم، ويتحدثون بما وقعوا فيه من المعاصي، بل يتحدثون بها تفاخرا أو استهتارا بستر اللّه تعالى، وهؤلاء هم الّذين قصدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: (يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)، وقال: (وإن من الإجهار والمجانة عدم المبالاة بالقول والفعل)([55])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ وعدم الاهتمام بالطهارة والنظافة بكل أنواعها.. فإنها من صفات أهل اللؤم والخسة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود؛ فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود) ([56])

ولذلك بادر إلى الطهارة عن الأحداث والأخباث.. وقد ورد في الحديث عن جابر أنّه قال: أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرّق شعره، فقال: (أما كان يجد هذا ما يسكّن به شعره؟) ورأى رجلا آخر وعليه ثياب وسخة. فقال: (أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه؟)([57])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر على قبرين فقال: (إنّهما يعذّبان وما يعذّبان في كبير: أمّا هذا فكان لا يستنزه من بوله، وأمّا هذا فإنّه كان يمشي بالنّميمة)، ثمّ دعا بعسيب رطب فشقّه باثنين فغرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا ثمّ قال: (لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا)([58])

ولا تكتف بذلك.. بل اسع لتطهير جوارحك عن الجرائم والآثام، بماء التوبة والأوبة والإنابة.. فلا يمكن لأي ماء في الدنيا أن يطهر الجوارح المتسخة بالظلم والإثم والجريمة غير تلك المياه الطاهرة.

ولا تكتف بذلك.. بل اسع لتطهير قلبك عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة، وكل المثالب التي تحول بينك وبين إنسانيتك التي كرمها الله تعالى.

ولا تكتف بذلك.. بل اسع لتطهير روحك عما سوى الله تعالى.. فهذه الطهارة هي طهارة الأنبياء والصديقين.. فارفع همتك لأن تكون معهم، وفي صفهم، فلا يفلح إلا من كان كذلك.


([1]) سفسافها: السفساف: الحقير الردي‏ء من كل شي‏ء وعمل.

([2]) رواه الطبراني في الكبير.

([3]) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.

([4]) رواه أحمد (11/ 458)

([5]) ابن حبان، 6844، الحاكم، 8664.

([6]) البخاري ومسلم.

([7]) ابن ماجة (4036). وأحمد (2/ 291). والحاكم في المستدرك (4/ 512)

([8]) رواه الترمذي رقم (2452) وقال هذا حديث حسن غريب.

([9]) نهج البلاغة: الحكمة 237.

([10]) الكافي: 2 / 84 / 5.

([11]) الخصال: 188 / 259.

([12]) البحار: 70 / 210 / 33.

([13]) عيون أخبار الرضا: 2 / 180 / 4.

([14]) إحياء علوم الدين (4/ 310)

([15]) رواه البخاري ومسلم.

([16]) رواه البخاري ومسلم.

([17]) رواه مسلم.

([18]) رواه أبو داود وأحمد.

([19]) رواه البخاري ومسلم.

([20]) رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

([21]) رواه الترمذي وقال حديث حسن، وابن ماجة.

([22]) البذاء: الفحش في الكلام.

([23]) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

([24]) رواه النسائي بإسناد صحيح.

([25]) المراد بالبيان: كشف ما لا يجوز كشفه، أو المراد به المبالغة في الإيضاح حتى ينتهي إلى حد التكلف.

([26]) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه على شرطهما.

([27]) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

([28]) رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وأحمد والحاكم وصححه.

([29]) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

([30]) رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وبقية رجاله وثقوا.

([31]) رواه البخاري ومسلم.

([32]) تزفزفين: يعني تتحركين حركة شديدة وترتعدين.

([33]) رواه مسلم.

([34]) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب.

([35]) رواه أحمد.

([36]) رواه البخاري ومسلم.

([37]) رواه البخاري (1804)

([38]) رواه أحمد (8693)

([39]) رواه مسلم.

([40]) رواه أبو داود.

([41]) رواه البخاري ومسلم.

([42]) رواه أحمد.

([43]) رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط.

([44]) رواه أحمد.

([45]) رواه النسائي وابن ماجة.

([46]) رواه أحمد والطبراني في الأوسط.

([47]) رواه البخاري ومسلم.

([48]) رواه النسائي واللفظ له، وأبو داود وابن ماجة.

([49]) رواه البخاري.

([50]) رواه الترمذي واللفظ له، وقال: حسن صحيح. وابن ماجة والحاكم وصححه. وابن حبان.

([51]) رواه البخاري ومسلم.

([52]) رواه أحمد وأبو ادود، وبعضه عند أبي داود.

([53]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

([54]) رواه أحمد.

([55]) البخاري، رقم 6096، ومسلم، رقم 2990.

([56]) الترمذي وقال: غريب.

([57]) رواه أبو داود والنسائي والحاكم.

([58]) رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *