الوهن والكسل

الوهن والكسل
وهذه أسئلة وجيهة؛ فلا يمكن للنفس أن ترتقي مراقي الكمال، وهي تتصف بما ذكرت من صفات، ذلك أنها حجب كبرى حائلة بينها وبين سلوك طريق الله؛ فهو طريق يحتاج نفسا صاحبة عزيمة وقوة؛ ولا يمكن لمن لم يكن كذلك أن يسير فيه، ولهذا قرن الله تعالى هدايته بالمجاهدة في سبيله، فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)
ووصف المؤمنين الصادقين أصحاب الهمم العالية الذين يخلص الله بهم المستضعفين من المستكبرين بأنهم أولو بأس شديد، فقال: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } [الإسراء: 5]
ونهى المؤمنين من الوهن، وكل ما يؤدي إليه، فقال: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 104]
وأخبر أن الألم والكآبة والحزن في طريق الكسل، لا في طريق الجد والعمل، ذلك أن الجاد يعمل، وهو يأمل في فضل الله، وفي عظم الأجور التي ينالها بخلاف الكسول، كما قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، ثم عقب عليها بقوله:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]
ولهذا يقترن ذكر مواثيق الله تعالى وعهوده بالقوة، ذلك أنه لا يمكن أن ينفذها إلا الأقوياء أصحاب العزائم، كما قال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]
وقال عن يحي عليه السلام:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]
وأخبر أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بأن يأخذوا المواثيق مأخذ الجد، فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن القوة صفة من صفات المؤمن الأساسية، فقال: (المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان)([1])
وأخبر أن السبب الأكبر في ضعف الأمة هو وهنها وكسلها وضعف همتها، بسبب ركونها إلى الدنيا، ونفورها من دينها، فقال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟. قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟. قال: (حبّ الدّنيا وكراهية الموت)([2])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما ورد في النصوص المقدسة من وصفات علاجية يمكنها أن تخلصك من هذا الداء العضال الذي يحجبك عن كل المكارم، ويحجب نفسك عن كل ما أتيح لها من كمال.
العلاج المعرفي:
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ لإخراج نفسك من زمرة الكسلاء المتهاونين الممتلئين بالوهن هو أن تعرف بأن الطريق إلى التزكية، والتحقق بحقائقها، ونيل ثمارها يستحيل مع الكسل والوهن، ذلك أن الطريق جد، ولا يقوى عليه إلا أصحاب الجد والعزائم.
وقد أرسل بعض المشايخ لمريد له رأى عزيمته لا تتناسب مع جهده، يقول له: (يا مخنث العزم أين أنت والطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحي، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تزهى أنت باللهو واللعب)([3])
ثم أنشده قول الشاعر:
فيا دارها بالحزن إن مزارها… قريب ولكن دون ذلك أهوال
وأرسل آخر لمريده الذي شكا له بعض المكدرات البسيطة التي تحول بينه وبين السير، يقول له: (من ذا الذي حصل له غرض ثم لم يكدر ؟ هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأخرج منها، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسماعيل بالذبح، ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا.. وأما ما لقي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم، ويفوق الوصف) ([4])
ثم أنشده قول الشاعر:
طبعت على كدر وأنت تريدها… صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضــد طباعها… متطلب في الماء جذوة نار
ولذلك لا تلتفت ـ أيها المريد الصادق ـ لتلك التبريرات والأعذار التي يختلقها الكسالى لأنفسهم؛ فهم لا يختلفون فيها عن أولئك الذين قعدوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وركنوا إلى الدنيا ومتاعها القليل، وضيعوا الآخرة ومتاعها العظيم.
وقد وصف الله أولئك المتخلفين الكسالى أصحاب الأعذار الواهية ليكونوا عبرة للمعتبرين، فقال: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86]
وذكر فرحهم عند تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعصيانهم لأوامر الله، فقال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [التوبة: 81]
ثم بين أن ذلك الفرح الذي ركنوا إليه، وفرطوا في صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجله ليس سوى ثمن قليل باعوا به نعيما عظيما، واشتروا به عذابا أليما، فقال: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]
وفي هذه الآية إشارة إلى ما للجزاء الإلهي من أدوار تربوية وإصلاحية للنفس؛ وقد روي عن بعض الصالحين أنه كان إذا أوى إلى فراشه، يقول: (اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام)، فيقوم إلى مصلاه([5]).
وروي عن آخر أنه كان يسهر الليل ويبكي، فعوتب على ذلك، فقال: (إني إذا ذكرت الجنة طال شوقي، وإذا ذكرت النار طار نومي)
وكان آخر ينام أول الليل، ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: (النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات)، ثم يتوضأ، ويقول على أثر وضوئه: (اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار)
وقال آخر: (سهوت ليلة عن وردي ونمت فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وفي يدها رقعة فقالت لي: أتحسن تقرأ؟ فقلت: نعم، فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها([6]):
أألهتك اللذائذ والأماني… عن البيض الأوانس في الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيها… وتلهو في الجنان مع الحسان
تنبه من منامك إن خيرا… من النوم التهجد بالقران
وقد أشار الشاعر إلى هذا المعنى، فقال يصف الصالحين وجدهم واجتهادهم:
إذا ما الليل أظلم كابدوه… فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا… وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وقال آخر:
منع القرآن بوعده ووعيده… مقل العيون بليلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الجليل كلامه… فرقابهم ذلت إليه تخضعا
وأنشدوا أيضا
يا طويل الرقاد والغفلات… كثرة النوم تورث الحسرات
إن في القبر إن نزلت إليه… لرقادا يطول بعد الممات
ومهادا ممهدا لك فيه… بذنوب عملت أو حسنات
أأمنت البيات من ملك المو… ت وكم نال آمنا ببيات
وقال آخر:
وما فرشهم إلا أيامن أزرهم… وما وسدهم إلا ملاء وأذرع
وما ليلهم فيهن إلا تخوف… وما نومهم إلا عشاش مروع
وألوانهم صفر كأن وجوههم… عليا جساد هي بالورس مشبع
نواحل قد أزرى بها الجهد والسرى…… إلى الله في الظلماء والناس هجع
ويبكون أحياناً كأن عجيجهم… إذا نوم الناس الحنين المرجع
ومجلس ذكر فيهم قد شهدته… وأعينهم من رهبة الله تدمع
أنا لا أدعوك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقتدي بهؤلاء في كل ما فعلوه، فنحن لم نؤمر باتباع أحد غير المعصومين، ولكني مع ذلك أدعوك لأن تفكر في تلك الخسارة العظيمة التي يجدها من ضيع وقته في الدنيا في تلبية حاجات كسله ووهنه، ليجد نفسه في الآخرة فقيرا من كل شيء.
ويجد تلك الأعذار التي كان يختلقها ليفر من التكليف أو ما يدعوه إليه الاجتهاد، لا تختلف كثيرا عن الأعذار التي كان يختلقها الكسالى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذين ذكرهم القرآن الكريم ليكونوا عبرة لنا، قال تعالى في وصف بعضهم: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]
وهؤلاء ـ كما يخبر القرآن الكريم ـ أكثر الناس إسراعا إلى الفتن، ذلك أن عزائمهم لا تتناسب مع الصدق بقدر ما تتناسب مع الفتنة، قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا } [الأحزاب: 13، 14]
وفي مقابل هذا يصف الله تعالى المؤمنين؛ فيقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 146، 147]
ثم بين الجزاء العظيم الذي ظفروا به مقابل ذلك الجهد القليل، فقال: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]
ووصفهم في آية أخرى، فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]
ثم بين الجزاء الذي أعد لهم، مقارنة بالجزاء المعد للكسالى؛ فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 24]
وأخبر عن الدرجة العظيمة التي ينالها أصحاب الجد مقارنة بغيرهم، ولو كانوا من المؤمنين، فقال:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95]
فانظر ـ أيها المريد الصادق ـ لهذه المشاهد التي ينقلها لك القرآن الكريم، ثم اختر لنفسك ما تراه مناسبا.. هل ذلك الطريق الذي سار فيه الأنبياء والأولياء والصديقون، الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجاهدوا أنفسهم في الله.. أم طريق أولئك الكسالى الوهنين الذين جعلهم كسلهم يقعون في كل الموبقات بما فيها النفاق نفسه.
وإن لم تجد هذا العلاج كافيا لإقناع نفسك بفضل الجد والاجتهاد؛ فحدثها عن تلك الأجور العظيمة التي ينالها الجادون، ويقعد دونها الكسالى.. فالمؤمن الجاد ساع في بناء آخرته، يحول بين نفسه والأهوال العظيمة التي تنتظره، بخلاف الكسول المنشغل باللذات المحدودة عن تبعاتها الخطيرة.
العلاج السلوكي:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فعليك أن تجاهد نفسك، وتدربها على الجد والاجتهاد، وتمنعها من كل تلك المبررات التي كان يستعملها المخلفون والمنافقون والكسالى ليقعدوا عن المراتب العلية التي هيئت لهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر المسلمين! شمروا فإن الأمر جد، وتأهبوا فإن الرحيل قريب، وتزودوا فإن السفر بعيد، وخففوا أثقالكم، فإن وراءكم عقبة كؤودا ولا يقطعها إلا المخفون) ([7])
وقال: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والاحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ)([8])
وبهذا أوصاك كل ورثته وأئمة الهدى من بعده؛ فلا يدرك الكمال من استسلم للكسل ودواعيه، وقد قال الإمام علي: (عليكم بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد، ولا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرت من كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية) ([9])
وقال: (طاعة الله سبحانه لا يحوزها إلا من بذل الجد، واستفرغ الجهد) ([10])
وقال: (صابروا أنفسكم على فعل الطاعات، وصونوها عن دنس السيئات، تجدوا حلاوة الإيمان) ([11])
وقال الإمام الصادق: (أعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإن الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه) ([12])
وقال: (اعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلا طاعتهم له، فاجتهدوا في طاعة الله) ([13])
وسئل: (على ماذا بنيت أمرك؟)، فقال: (على أربعة أشياء: علمت أن عملي لا يعمله غيري فاجتهدت، وعلمت أن الله عز وجل مطلع علي فاستحييت، وعلمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأننت، وعلمت أن آخر أمري الموت فاستعددت) ([14])
واعتبر الإمام الرضا العزيمة الخالية من الجد والاجتهاد دعاوى كاذبة، فقال: (سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوذ بالله من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) ([15])
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تلزم نفسك بما ألزم الصالحون به أنفسهم من المشارطات والمعاهدات والمرابطات التي دعا إليها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]
فالمرابطة ـ كما أنها تعني لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر ـ فهي تعني كذلك، وبالدرجة الأولى، لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته.
بل قد ورد في النصوص ما يدل على أن من أفضل الرباط وأعظمه الرباط على النفس حماية لها من وساوس الشياطين، وترفعا بها إلى المعالي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدّرجات؟) قالوا: بلى، يا رسول الله قال: (إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط)([16])
وقال: (أفضل الرباط الصلاة، ولزوم مجالس الذكر، وما من عبد يصلي ثم يقعد في مصلاه إلا لم تزل الملائكة تصلي عليه حتى يحدث أو يقوم) ([17])
والمرابط على نفسه في هذه الحالة لإصلاحها لا يقل أجره عن رباط الجهاد في سبيل الله، لأنه لا يمكن للمجاهد جهاده إذا لم يهذب نفسه التي تحول بينه وبين الجهاد في سبيل الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر ثواب الرباط: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الّذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتن) ([18])
واقتد بالصالحين الذين بايعوا الله والصالحين من عباده، والتزموا بما بايعوا عليه، كما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنه ـ بعد أن لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدرا بسبب الظروف التي مرت عليه ـ راح يعوض عن ذلك في أحد، ويعاهد الله تعالى ويلزم نفسه بالوفاء، فقد روي أنه قال: (أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيّبت عنه، وإن أراني الله مشهدا، فيما بعد، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليراني الله ما أصنع)
وروي أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له: (يا أبا عمرو! أين؟)، فقال: (واها لريح الجنّة، أجده دون أحد)، فقاتلهم حتّى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية) ([19])
وإن عجزت أن تلزم نفسك بما يؤدبها ويهذبها ويملؤها بالنشاط، فاستعن بإخوانك الصالحين، فملكهم أمر نفسك، واجعلهم يحاسبونك على تقصيرك، وقد روي في حكمة آل داود: (حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب) ([20])
ولا تقصر اجتهادك على أمور دينك، بل إن الاجتهاد والجد يكون في جميع شؤون الحياة، فلا يمكن أن يستقيم الدين من غير أن تستقيم الدنيا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبلا، فيأخذ حزمة من حطب فيبيع فيكفّ الله بها وجهه خير من أن يسأل النّاس أعطي أم منع)([21])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره، فيتصدّق به ويستغني به من النّاس، خير له من أن يسأل رجلا، أعطاه أو منعه ذلك. فإنّ اليد العليا أفضل من اليد السّفلى. وابدأ بمن تعول)([22])
وقال: (الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الّتي تليها، ويد السّائل السّفلى، فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك)([23])
واستعن على ذلك بما كلفك الله به من شعائر وشرائع، فمن مقاصدها العظمى إخراجك من كسلك، وملئك بالنشاط والاجتهاد والجد الذي يعود نفعه على حياتك جميعا، كما قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 45، 46]
ولذلك ذكر الله تعالى تثاقل المنافقين عن الصلاة، وكسلهم في أدائها، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 142]
ولهذا شاء الله تعالى ـ بحكمته في رعاية خلقه ـ أن يكلفهم بصلاة الصبح في ذلك الوقت الذي يتكاسل فيه المتكاسلون، حتى يتبين الصادقون في عزيمتهم من غيرهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر. ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا) ([24])
وذكر دور الشيطان في الدعوة للكسل، فقال: (يعقد الشّيطان على قافية رأس أحدكم([25]) ثلاث عقد إذا نام، بكلّ عقدة يضرب عليك ليلا طويلا، فإذا استيقظ، فذكر الله، انحلّت عقدة. وإذا توضّأ، انحلّت عنه عقدتان، فإذا صلّى انحلّت العقد. فأصبح نشيطا طيّب النّفس، وإلّا أصبح خبيث النّفس كسلان)([26])
وذكر صلى الله عليه وآله وسلم فضل بعض الشعائر التعبدية، لمشقتها على النفس، ودورها في مقاومة الوهن والكسل، فقال: (ألا أدلّكم على ما يكفّر الله به الخطايا ويزيد في الحسنات؟) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (إسباغ الوضوء في المكاره، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة.. ما منكم من رجل يخرج من بيته فيصلّي مع الإمام ثمّ يجلس ينتظر الصّلاة الأخرى إلّا والملائكة تقول: اللهمّ اغفر له، اللهمّ ارحمه) ([27])
وهكذا ذكر الذكر بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فقال: (من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله، حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة)([28])
بل اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أفضل أوقات البركة هو ذلك الوقت الذي يحبه الكسالى للنوم، لا للعمل، فقال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)، قال الراوي: وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرا، وكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله) ([29])
وهكذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثرة أعمال الخير وتشعبها، وتعلقها بجميع المجالات، وجميع الأوقات، وهو ما ينفي الضجر والملل الذي قد يدعو إليه الكسل، وقد قال الله تعالى مشيرا إلى تغير الأوقات، ودورها في الحث على العمل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]
وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كثرة أعمال البر وتنوعها بحيث تشمل كل المجالات: (تبسّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرّجل في أرض الضّلال لك صدقة، وبصرك للرّجل الرّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشّوكة والعظم عن الطّريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة) ([30])
ولهذا يمكن أن يختار أي شخص الأعمال التي تتناسب مع طبيعته، ليقوم بها، بدل أن يكلف نفسه بما لا تطيق، أو ما لا ترغب، وقد ورد في الحديث ناسا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، اشتكوا له، فقالوا: (يا رسول الله ذهب أهل الدّثور ـ أي الأغنياء ـ بالأجور، يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم، ولا نتصدق)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنّ بكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكلّ تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ([31])
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد في تنفيذها، واعلم أنه لن يكلفك ذلك سوى بعض الجهد القليل، وبعدها سترى كيف يقذف الله حلاوة العمل الصالح في قلبك؛ فتتحول من الكسل إلى العمل، ومن الوهن إلى النشاط، من غير أن تشعر، ولذلك ورد في الأثر: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) ([32])
ومثلهما كل من أدمن على أي شيء من الأشياء؛ فالنفس إن تحركت للطاعة،
والعمل الصالح، حببه الله إليها، حتى يصبح أحب إليها من الماء البارد على الظمأ،
ولذلك لا يجد مشقة التكليف إلا الكسالى، أما الصادقون، فإنهم ـ كما يذكرون عن
أنفسهم ـ يعيشون في سعادة لو علمها الملوك لقاتلوهم عليها.
([1])مسلم( 2664)
([2]) أبو داود( 4297)، أحمد( 5/ 278)
([3]) الفوائد لابن القيم (ص: 42)
([4]) صيد الخاطر ص 441
([5]) هذه الروايات من كتاب: التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، لابن رجب، (ص: 37) فما بعدها.
([6]) إحياء علوم الدين (1/ 355)
([7]) أعلام الدين: ٣٤٣.
([8]) الترمذي والحاكم وأحمد وابن ماجه رقم 4260.
([9]) نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠.
([10]) غرر الحكم: ٦٠٠٩، ٥٨٩١.
([11]) غرر الحكم: ٦٠٠٩، ٥٨٩١.
([12]) الكافي: ٨ / ٧ / ١ وص ١١.
([13]) الكافي: ٨ / ٧ / ١ وص ١١.
([14]) البحار: ٧٨ / ٢٢٨ / ١٠٠
([15]) البحار: ٧٨ / ٣٥٦ / ١١.
([16]) مسلم (251)
([17]) رواه الطيالسي.
([18]) الترمذي (1165) وقال: حديث حسن صحيح.
([19]) البخاري- الفتح 6 (2805) . ومسلم (1903)
([20]) روى مرفوعًا من كلام النبى صلى الله عليه وآله وسلم ، رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره، وروي قريب منه عن الإمام علي في نهج البلاغة / 545 حكمة 390 ..
([21]) البخارى ـ الفتح 5( 2373)
([22]) البخاري [فتح الباري]، 3( 1470)، و مسلم( 1042) و اللفظ له.
([23]) أبو داود( 1649) و اللفظ له، و الحاكم( 1/ 408)
([24]) البخاري- الفتح 2 (644) . مسلم (651)
([25]) قافية رأس أحدكم: أي آخر الرأس.
([26]) البخاري [فتح الباري]، 3( 1142)، و مسلم( 776) و اللفظ له.
([27]) مسلم (251) بنحوه، وابن خزيمة برقم (357) واللفظ له.
([28]) الترمذي، رقم (586)
([29]) أبو داود الترمذي وقال حديث حسن.
([30]) الترمذي (7195) وقال: هذا حديث حسن غريب.
([31]) مسلم (1006)
([32]) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 95)