البغي والظلم

البغي والظلم

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن البغي والظلم وما يرتبط بهما من التعدّي والاستطالة وكل أصناف العدوان، وعن المنابع التي تنبع منها، والثمار التي تثمرها، وكيفية تهذيب أرض النفس من أشواكها وحجارتها ونيرانها وحياتها وعقاربها.

وكل هذه الأسئلة وجيهة؛ فلا يمكن لمن يسير في طريق الله، إلا أن يكون مسالما طيبا ممتلئا بالعدل الذي ينافي الظلم، والمحبة التي تنافي الظغينة، فأرض نفوس الطيبين طاهرة من كل هذه المثالب، ولذلك لا تثمر إلا الثمار اليانعة الطيبة.

أما النفوس الأمارة، فهي نفوس ممتلئة بالظلم، ولولا الظلم ما كان في النفس كل تلك الأمراض والمثالب والمهلكات، ذلك أن السبب الأول فيها هو وضعها للأمور في غير موضعها، كما قال تعالى في تحديد معنى الظلم: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]

فأول صفات الظالمين هي التبديل المبني على الأهواء والأمزجة، لا على الحقائق، ولذلك فإن المعجب بنفسه ظالم لها، ذلك أنه يعطيها فوق حقها، ويصورها بغير صورتها، وذلك ما يحول بينه وبين السعي إلى إكمالها وتهذيبها وتربيتها.

ومثل ذلك المستكبر؛ فهو يبدل مراتب الخلق، ويتلاعب بها، ويضع نفسه في المرتبة الأعلى، ويطلب من غيره أن ينحني ويذل له، بمجرد اعتباره لنفسه كذلك.

ومثل ذلك المغرور الذي يتوهم أنه من يصنع الحقائق، ويضع معايير القيم.. لا الله تعالى خالق الخلق، ومدبر الأمر، ومنظم شؤون الكون.

وهكذا، فإنك لو تأملت كل ما ذكرته لك من مثالب لوجدت أنها ناتجة عن الظلم، ونابعة منه.. لذلك كان الظلم أساسا من أسس الشر، ومنبعا من منابع الرذيلة، ولا يمكن أن تتطهر النفس إلا بعد أن تتخلص منه كليا.. فكل ذرة ظلم يمكنها أن تحطم كل القيم التي اكتسبها الإنسان.

ولذلك شرط الله تعالى النجاة باتقاء الظلم، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فالظلم في الآية الكريمة يشمل كل تبديل للأوضاع على ما هي عليه في الواقع، سواء كان ذلك التبديل في عالم الحقائق، أو في عالم القيم.. ولذلك فإن الأمن الحقيقي لا يناله إلا من وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وفق ما هي عليه في الواقع، لا وفق ما تملي عليه الأهواء.

إذا عرفت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الظلم ـ كما يغذي كل المثالب، وينميها ـ فإنه كذلك يتغذى منها، ويكبر بسببها؛ فالشر يتزود بعضه من بعض، ويربي بعضه بعضا، إلى أن يصل إلى الحالة التي لا يمكن للنفس السيطرة عليها.

لذلك كان على العاقل أن يراقب نفسه الأمارة بالسوء قبل أن تستفحل فيها الأدواء؛ فيخرج الأمر من يدها، بعد أن يطبع على القلب، ويختم عليه، فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، بل قد يصبح المعروف عنده منكرا، والمنكر معروفا، لأن الهوى صار المتحكم.

وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]

ولذلك كان الظلم هو أداة الضلالة، فلا يضل السبيل إلا من ظلم الحقائق؛ فوضعها في غير مواضعها، وظلم نفسه، فأنزلها غير منزلتها، وظلم الخلق؛ فتعامل معهم بغير ما أمر أن يتعامل به.

ولذلك تربط النصوص المقدسة بين الظلم وكل الجرائم، وتعتبرها نابعة منه، وثمرة من ثماره الخبيثة، ولذلك كان أحسن وصف للظلم هو كونه ظلمات، كما عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (اتقوا الظّلم فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتّقوا الشّحّ فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم)([1])

ذلك أن الظلم هو الذي يجعل البصيرة في ظلام دامس لا ترى الواقع بصورته الحقيقية؛ فلذلك تلتبس على صاحبها الأمور، ويخلط في كل شيء.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لاستعمال هذه الأدوية التي سأصفها لك، والتي وصفها لنا ربنا في صيدليته المقدسة صيدلية القرآن الكريم الذي جعله الله شفاء من كل الأدواء، ومطهرا للنفس من كل المثالب.

العلاج المعرفي:

وأول الأدوية التي تحفظك من هذا المثلب الخطير وما ارتبط به تأملك لما ورد في القرآن الكريم حول الظلم وما ينتج عنه من ثمار، وما يحيق بصاحبه من العقوبة.. ذلك أن الظلم قد يبدأ صغيرا، ثم يكبر، ويستشري في النفس إلى أن يحولها عن حقيقتها؛ فيخسر صاحبها نفسه خسارة أبدية، لا يمكن أن تعوض.

ولذلك فإن أول عاقبة للظالم هو خسارة نفسه، كما قال تعالى عن بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم أصناف النعم الحسية والمعنوية، وبدل أن يضعوا تلك النعم في مواضعها المناسبة لها، راحوا يغيرون ويبدلون، وهم يتوهمون أنهم يخادعون الله، قال تعالى: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]

وقال عن ظلمهم للشريعة السمحة التي كلفهم الله بها، لكنهم راحوا يبدلون ويغيرون حتى حولوها إلى شريعة ممتلئة بكل أنواع الحرج الذي يتنافى مع الفطرة السليمة، قال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118]

وهكذا أخبر أن الظالمين الذين يشوهون الحقائق والقيم لا يشوهون في الحقيقة إلا أنفسهم، ذلك أن الحقائق والقيم ثابتة لا يمكن أن يؤثر فيها أحد، وكيف يؤثر فيها، وهي مستندة لله تعالى، مرتبطة به، قال تعالى: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف: 177]، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]

ولهذا، فإن أول ما يعاقب به الظالم حرمانه من معرفة الحقائق والتسليم لها، ذلك أن إدمانه على تبديل الأشياء عن مواضعها، يجعله لا يثق في شيء، حتى في عينيه، ذلك أنه يتوهم أنهما ربما تكونان قد سحرتا، قال تعالى مخبرا عن قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف جرهم الظلم إلى نكران كل تلك الآيات التي كانوا يرونها بأعينهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 47، 48]، وقال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } [الفرقان: 7 – 9]

وهكذا؛ فإن الظالم يحجب عن رؤية آيات الله الواضحة في الأرض والسماء، وفي كل شيء، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا } [الإسراء: 99]

وأخبر أن من عواقب الظلم وثماره الضلال المبين الواضح، فقال ـ متحدثا عن المشركين وغفلتهم عن أبسط الحقائق بسبب ظلمهم ـ: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11]، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا } [فاطر: 40]، وقال: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38]

ولذلك؛ فإن سبب الجحود ليس العلم ولا البرهان ولا اختلاف وجهات النظر ولا نسبية المعرفة، بل هو الظلم الذي يجعل النفس تأبى أن تتلقى الحقائق من مصادرها، لأنها تريد أن تضع لها مصادر من عندها، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } [العنكبوت: 48، 49]

ولهذا؛ فإن كل أنواع الكفر والضلال والشرك والإلحاد ليس سوى ثمرة من ثمار الظلم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]

وأخبر عن أن الانحراف العظيم الذي وقع فيه بنو إسرائيل لم يكن إلا بسبب ظلمهم، وتركهم لهارون عليه السلام، ولجوئهم إلى السامري، ونسياتهم لتعاليم أنبيائهم، قال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } [البقرة: 51]

ولهذا، يذكر القرآن الكريم أن كل التحريفات التي وقعت للأديان، كانت بسبب الظلم، قال تعالى: { فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [آل عمران: 94]، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]

ولهذ اعتبر الافتراء الأعظم، وهو الشرك، نوعا من أنواع الظلم، فقال: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]

وقد أخبر القرآن الكريم أن الظلم المرتبط بالتحريف لا يتوقف على الحجاب أو الافتراء بل ينتقل إلى البغي والعدوان.. ولذلك كان البغي هو الوسيلة التي استعملها الشيطان لتوجيه الأديان وجهة شيطانية عبر محاربة الصالحين، وتمكين المفسدين.

وقد أشارت آيات كثيرة لذلك، منها قوله تعالى:: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]

وهكذا نجد هذا المعنى في آيات كثيرة، تبين أسبابه وآثاره، وكيفية مواجهته؛ فالله تعالى يضرب المثل على أقرب الأمم زمانا بالأمة الإسلامية، وهي أمة بني إسرائيل؛ فيقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 16، 17]

ثم بين كيفية مواجهة ذلك البغي والتحريف الذي حصل، أو يحصل، فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19]، وهو تصريح من الله تعالى بأن الذي يخرج الأمة من مأزق البغي والضلال الذي يمكن أن تقع فيه هو اتباع البينات التي جاء بها الكتاب، والقيم الرفيعة التي دل عليها، بعيدا عن الأهواء.

بناء على كل هذه الجرائم التي يثمرها الظلم والبغي ورد في القرآن الكريم ذكر أصناف العقوبات المرتبطة به، والتي لا يُقصد منها تقرير الحقائق وذكرها فقط، وإنما تنبيه النفس إلى الحذر من الظلم، والابتعاد عنه، وعن مبادئه قبل تمكنيه ورسوخه ليتحول إلى منبع من منابع الشرور التي تسقي النفس الأمارة.

ولهذا يخبر الله تعالى عن عدم فلاح الظالمين، قال تعالى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [الأنعام: 135]

وكيف يفلحون، وقد تولوا غير الله تعالى، ولذلك لم يعد لهم ولي ولا نصير، قال تعالى: { وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [الشورى: 8]

ويخبر القرآن الكريم أن عقوبات الظلمة لا تؤجل للآخرة دائما، بل إنها قد تعجل لهم في الدنيا، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47]، وقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45]

وأخبر عن هلاك القرى، والسبب في هلاكها، فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]

وضرب الأمثلة على أنواع ذلك الهلاك، والذي يتناسب مع جرائمهم، فقال:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت: 40]

ويخبر أن القوة التي كان يتمتع بها الظلمة لم تجد عنهم شيئا، فمصير الظالم هو الهلاك مهما كانت قوته، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [الروم: 9]

وأخبر أن السبب في انحراف القرى من الأمن والطمأنينة والوحدة والاستقرار إلى الاضطراب والتفرق والخوف هو الظلم، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112، 113]

وضرب مثالا على ذلك بقوم نوح عليه السلام، قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]، وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]

وضرب مثالا عنه بقوم صالح، قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [هود: 66، 67]

وضرب مثالا عنه بقوم شعيب، قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 94، 95]

وضرب مثالا عنه ببني إسرائيل، قال تعالى:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف: 161، 162]

وضرب مثالا عنه بأصحاب السبت، قال تعالى:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]

ويخبر القرآن الكريم أن عقوبات الظلمة لا تعجل لهم في الدنيا فقط، بل ما ينتظرهم في الآخرة أعظم.. وأول الآخرة لحظات الموت، قال تعالى واصفا كيفية قبض أرواح الظالمين: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 93، 94]

ويخبر القرآن الكريم أن تأخير العقاب لا يعني رفعها؛ فالله تعالى يمهل ولا يهمل، ولذلك فإن العقاب الي يرونه في الآخرة لا يمكن تصوره، قال تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [إبراهيم:42، 43]

وقد وصف القرآن الكريم في آيات كثيرة بعض صور عقاب الظالمين، لتمتلئ النفس بالمخافة والخشية، ومنها قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [النحل: 85]

وأخبر عن ذلك الذل الذي يغشى الظالمين المستكبرين، وأنواع التوبيخات التي يتعرضون لها، فقال: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 44، 45]

وأخبر عن الندامة التي يجدها الظلمة، فقال:{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54]

وغيرها من الآيات الكثيرة التي لا يمكن لمن تدبرها بصدق وإخلاص إلا أن يمتلئ قلبه بالمخافة من الظلم وثماره المرة الكثيرة التي يعقبها العقاب المهين الطويل، وكل ذلك يردع النفس، ويزكيها، ويزيل عنها كل الدوافع الداعية إلى الظلم بمراتبه المختلفة.

فإذا ضم إلى ذلك ما ورد في السنة المطهرة من العقوبات المرتبطة بالظالمين، كان لذلك تأثيره الكبير في ردع النفس وزجرها، بشرط ألا تصغي للمرجئة الذين يهونون من شأن تلك العقوبات، ويبطلون مفعولا من باب الهوى والأماني.

ومن تلك الأحاديث ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من استجابة الله لدعوة المظلوم، حتى لو كان فاسقا أو كافرا، وحتى لو كان الظالم في ظاهره تقيا صالحا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرا، فإنه ليس دونها حجاب) ([2])

 وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن سرعة إجابة الله تعالى لها، فقال:(اتّقوا دعوات المظلوم فإنّها تصعد إلى السّماء كأنّها شرار)([3])

وأعظم بهذه العقوبة خطرا، فالمظلوم لن يكتفي بالدعاء على ظالمه بما يتعلق بشؤون الدنيا، بل يضم إليها شؤون الآخرة، وقد لا يتوقف دعاؤه على الفترة التي وقع فيها الظلم عليه، بل قد يمتد إلى طول عمره.

وقد قال الشاعر معبرا عن هذا المعنى:

اصبر على الظّلم ولا تنتصر… فالظّلم مردود على الظّالم

وكل إلى الله ظلوما فما… ربّي عن الظّالم بالنّائم

وقال آخر:

لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرا… فالظلم آخره يأتيك بالندم

نامت عيونك والمظلوم منتبه… يدعو عليك وعين الله لم تنم

وقال آخر:

يا أيّها الظّالم في فعله… فالظّلم مردود على من ظلم

إلى متى أنت وحتّى متى… تسلو المصيبات وتنسى النّقم؟

أما في الآخرة؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الظالم يعاقب بجنس عمله، وبما أنه حجب الحقائق عن نفسه في الدنيا، وقلبها وغيرها؛ فإنه في الآخرة سيعيش وسط الظلمات التي شكلها لنفسه في الدنيا، وذلك في الوقت الذي يكون فيه أحوج ما يكون إلى النور، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الظّلم فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتّقوا الشّحّ فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم)([4])

وقال: (إيّاكم والشّحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وإيّاكم والظّلم فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، وإيّاكم والفحش فإنّ الله لا يحبّ الفحش ولا التّفحّش)، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله! أيّ المسلمين أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) ([5])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن البلايا العظيمة التي يتعرض لها الظلمة كل حين، وهم يتعرضون لمن آذوهم وظلموهم طالبين القصاص منهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النّار حبسوا بقنطرة بين الجنّة والنّار، فيتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدّنيا)([6])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مضاعفة الله تعالى للظالمين العقوبة، بسبب آثارها، فقال: (من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوّقه إلى سبع أرضين)([7])

فتفكر ـ أيها المريد الصادق ـ في كل هذه العقوبات، واملأ بها عقلك وقلبك، وكلما حدثتك نفسك بظلم أي أحد؛ فتذكرها لتردعك، وتحميك من شر نفسك، فالخوف سوط الله الذي يربي به خلقه، فإياك أن تدعه، وتتبع المشاغبين والمتلاعبين.. فلأن تجد من يخوفك حتى تلقى الأمان، خير من أن تجد من يؤمنك حتى تلقى المخافة.

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وامتلأت به نفسك، فاسع لأن تبحث عند الفقهاء عن الموارد التي يتحقق بها الظلم لتجتنبها.

ولا تحدثك نفسك أنها قليلة محدودة، بل إنها من الكثرة بحيث تشمل الشريعة جميعا، ذلك أن أي تعد لها ظلم؛ فالشريعة هي نمط الحياة الذي اختاره الله لعباده رعاية لمصالحهم؛ فإذا ما خالفوه أو تدخلوا فيه بأهوائهم ظلموا أنفسهم، قال تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]

ولهذا اعتبر التحاكم لغيرها في أي شأن من شؤون الحياة الخاصة أو العامة ظلم، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]

وأخبر عن الظلم الذي يقع فيه أولئك الذين يعبدون الله على حرف؛ فيختارون من الشريعة ما يتناسب مع أهوائهم، ويتركون غيرها، فقال: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48 – 50]

وفي المقابل أخبر عن المؤمنين الذين يقبلون الشريعة، ويطبقونها في جميع مجالات الحياة، بل لا يقدمون على عمل قبل أن يعلموا حكم الله فيه، فقال: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51، 52]

ومن مظاهر الظلم الخطيرة التي حذر منها القرآن الكريم موالاة الظلمة ونصرتهم، وخذلان المستضعفين والقعود عن الوقوف معهم في وجه ظالميهم، ذلك أن كل هذا تبديل للقيم عن محالها المناسبة، قال تعالى: { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } [هود: 113]، وقال:{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) ([8])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منهم) ([9])

وقال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة وأعوانهم ؟ من لاق لهم دواة، أو ربط لهم كيسا، أو مد لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم) ([10])

 وقال: (من علق سوطا بين يدي سلطان جائر جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار طوله سبعون ذراعا، يسلط عليه في نار جهنم وبئس المصير) ([11])

وقال: (من أعان ظالما سلطه الله عليه) ([12])

وقال: (من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله) ([13])

وقال: (من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله ورسوله) ([14])

وقال: (من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع) ([15])

وقال: (من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام) ([16])

وقال الإمام الصادق: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم) ([17])

وأجاب من سأله عن عون الظالم للضيق والشدة: (ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وإن لي ما بين لابتيها، لا ولا مدة بقلم ! إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد) ([18])

وقال: (لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا) ([19])

وقال الإمام الرضا في أعمال السلطان: (الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق به النار) ([20])

ولهذا اعتبر الله تعالى الذين يوالون أقاربهم المعتدين من الظلمة، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]، ثم بين بعدها أن موالاة الظلمة مهما كانت قرابتهم فسوق يستحق العقاب الشديد، قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]

وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمن المعصية أن يحب الرجل قومه؟)، قال: (لا، ولكن من المعصية أن يعين الرجل قومه على الظلم) ([21])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو شاهد زور، ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله حتى ينزع، وقتال المسلم كفر وسبابه فسوق)([22])

وقد أخبر الله تعالى عن ذلك الصراع الذي يجري بين الظالمين والمظلومين الذين اتبعوهم في الدنيا، ولم ينكروا عليهم، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سبأ: 31 ـ33]

ولهذا، فإن القرآن الكريم ينفي الظلم عن الذين انتصروا بعد ظلمهم، أو وقفوا في وجوه ظالميهم، قال تعالى: { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 41، 42] لكنه يعود ويذكر بمبادئ السماحة الإسلامية في العفو عن الظلمة عند القدرة عليهم، فيقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]

بل إن الله تعالى يثني على من انتصر على ظالميه في مواجهته لهم وعدم ركونه إليهم، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]

وأثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من أعان المظلومين على ظالميهم، فقال: (من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحبا) ([23])

وقال: (إن داود عليه السلام قال فيما يخاطب ربه عز وجل: يا رب أي عبادك أحب إليك أحبه بحبك قال: يا داود أحب عبادي إلي نقي القلب نقي الكفين لا يأتي إلى أحد سوءا ولا يمشي بالنميمة تزول الجبال ولا يزول أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى عبادي قال: يا رب إنك لتعلم إني أحبك وأحب من يجبك فكيف أحببك إلى عبادك قال: ذكرهم بآلائي وبلائي ونعمائي يا داود إنه ليس من عبد يعين مظلوما أو يمشي معه في مظلمته إلا أثبت قدميه يوم تزل الأقدام) ([24])

وقال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) ([25])

وقال الإمام علي: (أحسن العدل نصرة المظلوم) ([26])، وقال: (إذا رأيت مظلوما فأعنه على الظالم) ([27])

وقال موصيا الحسن والحسين: (قولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا) ([28])

وقال الإمام الصادق: (ما من مؤمن يعين مؤمنا مظلوما إلا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله في الدنيا والآخرة)([29])

وهكذا؛ فإن الظلم ـ أيها المريد الصادق ـ يشمل كل وضع للأشياء في غير مواضعها؛ فإذا سخرت ممن أمرت بتكريمه، أو بدلت اسمه، أو لمزته، أو همزته، أو اغتبته، أو آذيته بأي نوع من أنواع الأذى فهو ظلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد في تنفيذها، وطهر أرض نفسك من أشواك الظلم وحياته وعقاربه، فالسائر في طريق الله يحتاج إلى التزود من الأنوار ليسلك بها سبيله، والظلم ظلمات تحول بينه وبين الحقائق.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه لا يمكن أن يفتح على سالك يظلم غيره، أو هناك من يدعو عليه لظلمه له، فلذلك استحل كل من ظلمته، وبرئ ذمتك منه، وعاهد الله تعالى على ألا تظلم أحدا، وإن خيرت بين أن تكون ظالما أو أن تكون مظلوما؛ فاختر أن تكون مظلوما؛ فذلك أجدى لك عند ربك.


([1])مسلم( 2578) و خرج البخاري أوله [الفتح] 5( 2447)

([2])  أحمد (20/ 22)، وابن معين في تاريخه 2/355، والقضاعي في مسند الشهاب (960)

([3]) الحاكم( 1/ 29)

([4]) مسلم( 2578) و خرج البخاري أوله من حديث ابن عمر الفتح 5( 2447)

([5])  أحمد (11/ 26)، و ابن حبان (5176)

([6]) البخاري [فتح الباري]، 5( 2440)

([7]) البخاري [فتح الباري]، 5( 2452) و مسلم( 2610)

([8])  رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

([9])  رواه أحمد.

([10])  بحار الأنوار: 75 / 372 / 17 .

([11])  بحار الأنوار: 75 / 369 / 3 .

([12])  كنز العمال : 7593 .

([13])  رواه ابن ماجة.

([14])  رواه الطبراني في الأوسط والحاكم .

([15])  رواه الحاكم وصححه .

([16])  رواه البخاري في تاريخه والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان .

([17])  الكافي : 2 / 333 / 16 .

([18])  الكافي : 5 / 107 / 7.

([19])  الكافي : 5 / 106/4.

([20])  بحار الأنوار: 75 / 374 / 25 . 

([21])  رواه البيهقي.

([22])  رواه البيهقي.

([23])  بحار الأنوار: 75 / 359 / 75 .

([24])  رواه البيهقي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 12)

([25])  رواه أحمد.

([26])  غرر الحكم : 2977 .

([27])  غرر الحكم : 4068 .

([28])  بحار الأنوار: 100 / 90 / 75.

([29])  بحار الأنوار: 75 / 20 / 17 .

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *