الخداع والمكر

الخداع والمكر

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الخداع والمكر، وما ارتبط بهما من الكيد والتآمر، والدوافع التي تدفع إليها، والثمار التي تثمرها، وكيفية معالجة النفس الأمارة منها، وسر ما ورد من النصوص المقدسة في وصف بعض أفعال الله تعالى بها مع تنزهه وتنزه أفعاله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الخداع والمكر، ومثلهما الكيد والتآمر، وإن اشتهرت دلالاتها في الرذائل والمثالب، إلا أنها في أصل اللغة لا يراد بها ذلك([1]).. وإنما يراد بها كل الطرق الخفية التي توصل إلى تحقيق الأغراض بسهولة ويسر، للحاجة التي تستدعي ذلك.

ويشير إلى هذا قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فقد أخبر الله تعالى أنه أتاح ليوسف عليه السلام أن يصطنع تلك الحيلة حتى يبقي أخاه معه، ولو أنه لم يقم بها لما سمح له إخوته بالبقاء.

وبما أن في إبقاء يوسف عليه السلام مصلحة لأخيه، بل لإخوانه جميعا، فقد كان ذلك الكيد طيبا وصالحا.. بل إن الله تعالى أخبر أنه هو الذي أرشده لذلك.

ولهذا نرى القرآن الكريم يصف المكر الذي قام به أعداء الأنبياء عليهم السلام بكونه مكرا سيئا، فقال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 42، 43]؛ فالعتاب لم يكن لمكرهم وتخطيطهم، وإنما كان لهدفه الذي كان سيئا.

فالتخطيط في حد ذاته مشروع، ولا حرج فيه، والحرج مرتبط بالهدف الذي يهدف إليه؛ فإن كان الهدف طيبا وصالحا، كان المكر طيبا وصالحا.

ولهذا أخبر الله تعالى أن له المكر جميعا، فقال:{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا } [الرعد: 42]، ثم عقب على ذلك ببيان دليله، فقال: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42]

وهذا ما يقال في الخداع؛ فهو إن وضع في غير محله، كان انحرافا وضلالا ومثلبا خطيرا.. لكنه إن وضع في محله الصحيح، واستعمل لسد المفاسد، كان عملا شرعيا وصحيا، يُمدح صاحبه عليه.

فالطبيب الذي يخدع مريضه ببعض الحيل، ليتناول دواءه، ويشفى من مرضه، لا حرج عليه في ذلك ما دام لا يجد سبيلا سوى ذلك([2])..

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الحرب خدعة) ([3])، ذلك أن الأذكياء في الحروب هم الذين يخططون التخطيط الجيد الذي يقلل الخسائر قدر الإمكان.

ولهذا فإن الخدعة في الحرب تدخل في مقتضيات قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: 60]

ولك ـ أيها المريد الصادق ـ فيما ذكره علماء السير والمغازي من دور بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تخذيل الأحزاب وشق صفوفهم، وإلقاء الشكوك بينهم، وخداعه لهم([4]) ما يدلك على أن المؤمن لا ينتظر مؤامرات غيره وخداعهم لتُنفذ عليه، وهو ساكن لا يتحرك، بل إن الذكي هو الذي يتحرك الحركة الإيجابية التي تحميه وتحمي المستضعفين، وقد تكون سببا في ردع المستكبرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف المؤمن: (المؤمن كيس فطن حذر) ([5])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن كيس فطن حذر وقاف مثبت لا يعجل عالم ورع، والمنافق همزة لمزة حطمة لا يقف عند شبهة ولا عند محرم كحاطب الليل لا يبالى من أين اكتسب ولا فيما أنفق) ([6])

وأخبر عن فطنة المؤمن، فقال: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) ([7])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تقع فيما وقع فيه أولئك الذين لم يقدروا الله حق قدره، فراحوا يصفونه بالمخادع والماكر والمستهزئ، وغيرها بناء على تلك النسب التي وجدوها في القرآن الكريم.. ذلك أن الله تعالى لا يوصف إلا بالكمال، وله الأسماء الحسنى.

ولذلك يمتنع أن يوصف بهذه الأوصاف لسببين:

أولهما: أن الكيد والخداع دليل على القصور والضعف، ولذلك يلجأ المخادع والكائد إلى تلك الطرق الخفية ليحقق أغراضه، والله تعالى منزه عن ذلك؛ فله الكمال المطلق، والقدرة المطلقة التي لا يعجزها شيء.

وثانيهما: أن هذه الألفاظ ـ بحسب ورودها في القرآن الكريم وفي لغة العرب ـ اشتهرت في المثالب أكثر من اشتهارها في المحاسن، ولذلك كان في وصف الله تعالى بذلك، تشويها لجلاله وجماله وعظمته، وخاصة لمن لا يعرف أنواع دلالات هذه الألفاظ، واتساعها للحق والباطل، والخير والشر.

ولهذا؛ فإن كل النصوص المقدسة التي ورد فيها ذكر المكر والخديعة والكيد منسوبا إلى الله تعالى لا يراد بها الحقيقة، وإنما يراد بها الاستعارة ومجاز المقابلة، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]

ومثل ذلك ما اتفقت عليه الأمة جميعا من استحالة النسيان على الله تعالى، وأن قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]

ومثله ما ورد من نسبة الملل إلى الله تعالى كما روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (عليكم بما تطيقون، فوالله؛ لا يمل الله حتى تملوا)، وفي رواية: (فوالله؛ لا يسأم الله حتى تسأموا) ([8])

ومن هذا الباب أيضا يمكن تنزيه المؤمنين عن هذه الألقاب التي اشتهرت في المنكر، وإن كان في أصلها يمكن أن تطلق على المعروف، ولذلك لا يصح وصف المؤمنين بالخداع ولا المكر ولا الكيد ولا التآمر.. وإن كان ذلك صحيحا في أصل اللغة، لأن العبرة بما تعارف عليه الناس، ولا مشاحة في الاصطلاح.

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لتطهير أرض نفسك من أشواك المكر والخديعة والكيد، وكل أصناف العدوان.. وقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على مجامع ذلك وتفاصيله، فتدبر معانيها؛ فلا يعالجك من أدوائك مثلها، وقد قال الله تعالى يصف كلماته المقدسة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]

فإياك أن تكون من الظالمين الذين يعرضون عن أدوية ربهم إلى غيرها، فلا يجدون إلا الخسارة والعمى، كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]

العلاج المعرفي:

وأول الأدوية القرآنية لهذه المثالب الخطيرة التي تجعل صاحبها لا يكتفي بالعدوان المباشر الذي قد يكون بسبب غضب عارض، وإنما يضيف إليه التخطيط والإصرار ووجوه الحيلة التي تظهر خلاف ما يبطن، ما أخبر الله تعالى عنه من أن حرب المخادعين والماكرين ليست موجهة لأولئك المستضعفين الذين يكيدون لهم، ويتآمرون عليهم، وإنما حربهم مع الله تعالى.. وهل يمكن لعاقل أن يحارب ربه؟

ولذلك تذكر ـ أيها المريد الصادق ـ في كل موقف يدعوك الشيطان فيه للتآمر على أحد من الناس اطلاع الله عليك، وعلمه بك، وأن المكر لا يحيق إلا بأهله، وأن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.

والآيات القرآنية التي تدل على ذلك كثيرة، فاقرأها بعين التنزيه لا بعين التشبيه، فالله تعالى لا يصف نفسه فيها، وإنما يهدد أولئك العتاة الغلاظ الذين لا تنفعهم إلا التهديدات، ولا يجدي فيهم إلا اللغة المتناسبة مع نفوسهم الأمارة.

ومن تلك الآيات المهددة للماكرين قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ﴾ [إبراهيم:46]

فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن مكرهم العظيم، والذي تكاد تزول الجبال من شدته، وعظم الأحقاد التي تحركه إلا أنه لن يصل إلى غرضه، وكيف يصل إلى غرضه، والله يحول بينه وبينه، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وعقب عليها بوعده العظيم بنصرة الدين وإظهاره على كل الأديان، فقال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]

وهكذا يتوعد الله تعالى كل الماكرين بأن مكرهم لن ينفعهم، وسيرتد عليهم، وستتحول كل مؤامراتهم إلى عكس ما كانوا يقصدون، قال تعالى: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النحل:26] ، وقال: ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر:43]

وقد أخبر الله تعالى عن النماذج الكثيرة لذلك الكيد والمكر الذي قام به أعداء الرسل عليهم السلام، وبين أن كل ذلك المكر ارتد عليهم، وأن الخسارة حاقت بهم، قال تعالى ـ مبينا سنته في ذلك ـ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام:123]

والآية الكريمة لا تشير فقط إلى أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وإنما تشير إلى أعداء الحقيقة، وأعداء الصادقين في كل مكان وزمان، وأنهم جميعا سيرتد كيدهم عليهم في نحورهم، ويحفظ الله تعالى المؤمنين من شرورهم، كما ذكرت ذلك السيدة زينب في مواجهتها ليزيد، وقولها له: (فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم يناد المناد ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود) ([9])

ولذلك فإن نهج الإمام الحسين لا زال قائما، وكلماته لا تزال حية، وتلاميذه وأبناؤه لا يزالون يقاومون الطغيان .. ولا يزالون يرفعون رايات المواجهة الكبرى مع جميع الشياطين والظلمة والمستبدين.. على الرغم من كل أصناف الكيد والمكر والخديعة التي وجهت لهم، وعبر التاريخ جميعا.

ومن النماذج التي ذكرها القرآن الكريم لكيد أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام الكيد الذي تعرض له نوح عليه السلام الذي مكر به قومه مكرا عظيما، وصفه الله تعالى بقوله ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴾ [نوح:22]، لكن الله تعالى كاد له من حيث لا يحتسبون، فأمره بأمر غريب لم يكن في حسبانهم، قال تعالى:{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [هود: 38، 39]، وحصل ما أخبر الله عنه، وارتد كل كيدهم عليهم، وأنجى الله نوحا والذين آمنوا معه، و{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48]

وهكذا أخبر الله تعالى عن عاد ومكرهم وكيدهم بنبيهم هود عليه السلام، وقوله لهم: { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 54 – 57]، ثم ذكر عاقبة كيدهم ومكرهم، فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 58 – 60]

وهكذا أخبر الله تعالى عن ثمود ومكرهم وكيدهم بنبيهم صالح عليه السلام، قال الله تعالى: { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]، ثم بين عاقبة مكرهم، وكيف ارتد عليهم، فقال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [النمل: 51 – 53]

وهكذا أخبر الله تعالى عن قوم إبراهيم عليه السلام، وكيدهم له كيدا عظيما بسبب تحطيمه لأصنامهم، قال تعالى: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]، لكن الله تعالى رد عليهم من حيث لا يحتسبون، فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ، ثم بين عاقبة كيدهم، فقال: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]، وقال: { فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98]

وهكذا أخبر الله تعالى عن فرعون، وقوله لجنود: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 63، 64]، ثم أخبر أنه{ تَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [طه: 60]، لكن الله تعالى أخبر أن كيد فرعون ومكره لا يمكنه أن يواجه الله، قال تعالى:{ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37]، ولذلك تحقق النصر لموسى عليه السلام والهلاك لفرعون وجنوده من حيث لا يحتسبون، قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54]، وقال: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103]

وهكذا أخبر الله تعالى عن مكر اليهود بالمسيح عليه السلام، وارتداد مكرهم عليهم، وإنقاذ الله تعالى المسيح عليه السلام منهم، وإلقاء الشبه على من دبر له المكايد، قال تعالى: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [آل عمران: 54، 55]

 وهكذا ورد في الآيات الكثيرة صور الكيد والمكر الذي قامت به قريش واليهود والمنافقون وغيرهم في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن كل كيدهم باء بالفشل، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]

لكن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحداهم، لأن الله معه، فقال: ﴿ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 195-196]

وقد أخبر الله تعالى عن عاقبة كيدهم، فقال: ﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ ﴾ [الطُّور:42] ، وقال: ﴿ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [غافر: 25] ، وقال: ﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال:18]

وقد حصل ذلك؛ فقد ارتد كل كيدهم عليهم، ونصر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمستضعفين الذين معه، من حيث لم يحتسب أولئك الكائدون.

تدبر كل هذه الآيات ـ أيها المريد الصادق ـ وتعلم منها أن تلجأ إلى الله، وأن تكون مع الحق وأهله، وألا يزعجك الباطل وجنده؛ وإياك أن تكون في صف الظالمين الماكرين، حتى لا تكون محاربا لرب العالمين.. فأسعد الناس من كان مظلوما، وأشقاهم من كان ظالما، لأن النصر سيكون حليف المظلومين، والوبال والخسارة ستكون حليف الظالمين ومصيرهم، وقد قال تعالى مخبرا عن عاقبة كيد المنافقين: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران:120]

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر من كل ما يخرج قلبك عن سلامته، ونفسك عن طهارتها.. فكن واضحا في كل تصرفاتك، صادقا في كل مواقفا، ولا تلجأ إلى الخديعة والمكر.

وإياك أن تكون من أولئك الذين يضعون أقنعة مختلفة، ليحتالوا على الجميع، {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } [النساء: 143]، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم شر الناس، فقال: (إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)([10])

وقال: (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)([11])

إلا إذا كان قصدك من ذلك الاحتيال للإصلاح بين المختلفين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الكذّاب الّذي يصلح بين النّاس، ويقول خيرا وينمي خيرا) ([12])، قال الراوي: ولم أسمع يرخّص في شيء ممّا يقول النّاس إلّا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين النّاس، وحديث الرّجل امرأته، وحديث المرأة زوجها) ([13])

وإياك أن تتوهم أن الخداع والمكر والكيد خاص بأقوام الأنبياء عليهم السلام، أو بما يرتبط بالدين؛ فقد يدخل الخداع في أي شيء تمارسه في حياتك.. وقد ورد في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: (ما هذا يا صاحب الطّعام؟) قال: أصابته السّماء يا رسول الله. قال: (أ فلا جعلته فوق الطّعام كي يراه النّاس؟ من غشّ فليس منّي)([14])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيّته إلّا حرّم الله عليه الجنّة)([15])

وانتبه جيدا ـ أيها المريد الصادق ـ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من غشّ فليس منّي)، فليس هو كما يرويه الناس، ويذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خص بالغش المؤمنين، فقال: (من غشّنا فليس منّا)، فالغش محرم مطلقا، للمسلم وغير المسلم، وقد قال  رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمّة الله وذمّة رسوله فقد أخفر بذمّة الله فلا يرح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا)([16])

وهكذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخديعة والمكر والغش في كل شيء، ففي الحديث عنه قال: (أهل النّار خمسة: الضّعيف الّذي لا زبر([17]) له، الّذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الّذي لا يخفى له طمع‏([18]) وإن دقّ إلّا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك) وذكر البخل أو الكذب، والشّنظير([19]) الفحّاش)([20])

وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمر أنّ رجلا ذكر للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه يُخدع في البيوع؛ فقال: لا خلابة([21]))([22])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السّبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدّقه، وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلّا لدنيا. فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف)([23])

وجاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنّ لي ضرّة، فهل عليّ جناح أن أتشبّع من مال زوجي بما لم يعطني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المتشبّع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور)([24])

ونهى عن كل صور الخداع في البيع، فقال: (لا يتلقّى الرّكبان لبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصرّوا الإبل والغنم؛ فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النّظرين، بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها وصاعا من تمر)([25])

وعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر) ([26])، وعن آخر قال: (نهى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن النّجش‏([27]))([28])

ومثله نهى عن الخداع في الزكاة، فقال: (لا يجمع بين مفترق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة)([29])

ومثله نهى عن الخداع والتلاعب في العلاقات الزوجية، فعن ابن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المحلّل والمحلّل له)([30])

وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة لذلك، فقال: (المؤمن غرّ([31]) كريم، والفاجر خبّ‏([32]) لئيم)([33])

واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ من أن تكون كأولئك الذين يتاجرون بالدين، ويخدعون الخلق به، أو يستعملون ذكر الله والقسم به في غير محله، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اقتطع حقّ امرى‏ء مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النّار، وحرّم عليه الجنّة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله. قال: (وإن قضيبا من أراك)([34])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقتدي بأولئك الذين يعتبرون ذلك شطارة وذكاء.. فالذكي هو الذي يتورع أن يأكل أموال الناس بالباطل أو الكذب أو التزوير، وتذكر قول بعض الحكماء: (لا يزال الرّجل يزداد في صحّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشّه سلبه الله نصحه ورأيه، ولا يلتفتنّ إلى من قال: إذا نصحت الرّجل فلم يقبل منك فتقرّب إلى الله بغشّه، فذلك قول ألقاه الشّيطان على لسانه، اللهمّ إلّا أن يريد بغشّه السّكوت عنه، فقد قيل: كثرة النّصيحة تورث الظّنّة، ومعرفة النّاصح من الغاشّ صعبة جدّا، فالإنسان لمكره يصعب الاطّلاع على سرّه، إذ هو قد يبدي خلاف ما يخفي، وليس كالحيوانات الّتي يمكن الاطّلاع على طبائعها) ([35])

وروي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى السلعة يبيعها بصَّر عيوبها ثم خيره، وقال: (إن شئت فخذ وإن شئت فاترك)، فقيل له: (إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع)، فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم) ([36])

وروي عن آخر، وهو واثلة بن الأسقع أنه كان واقفاً؛ فباع رجل ناقة له بثلثمائة درهم فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة؛ فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقبا قد رأيته وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يحل لأحد يبيع بيعاً إلا أن يبين آفته، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا تبيينه) ([37])

وروي عن بعض الصالحين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر، فكتب إليه غلامه: إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة، فاشتر السكر، فاشترى سكراً كثيراً، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفاً، فانصرف إلى منزله فأفكر ليلته وقال: ربحت ثلاثين ألفاً وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفاً، وقال: بارك الله لك فيها، فقال: ومن أين صارت لي؟ فقال: إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت، فقال: رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك، قال: فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهراً وقال: ما نصحته، فلعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد وقال: عافاك الله، خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي، فاخذ منه ثلاثين ألفاً([38]).

هذه نماذج عن صفاء قلوب الصالحين وصدقهم، وهم الذين ينبغي أن يكونوا أسوة لك، أما من عداهم ممن يعتبرون أنفسهم دهاة وأذكياء، فسينالهم العقاب من حيث لا يشعرون، وأول ذلك العقاب دعوات أولئك الذين ظلومهم وغشوهم، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

يا بائعاً بالغش أنت مُعَرّض … لدعوة مظلوم إلى سامع الشكوى

فكل من حلال وارتدع عن محرم … فلست على نار الجحيم غداً تقوى

ذلك أن الغش والخديعة أخطر أنواع الظلم، فلذلك قد يدعو عليك من غششته أو خدعته، وأنت تظن أنك بعته بيعا شرعيا عن تراض، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السّماء ويقول: بعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين) ([39])

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فامتلئ بالصدق والإخلاص، وإياك والحيلة والدهاء، وما تؤدي إليه من المكر والخداع إلا إذا كان في سبيل الحق ونصرته، ومواجهة الباطل وظلمه.————


([1])  مما يدل على هذا المعنى قول الرَّاغب الأصفهاني عند حديثه عن المكر، فقد عرفه بقوله: (صرف الغير عمَّا يقصده بِحِيلة، وذلك ضربان:

1 – مكر مَحمود: وذلك أن يتحرَّى بذلك فعلاً جميلاً، وعلى ذلك قال: ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54]

2 – مكرٌ مذموم: وهو أن يُتحرَّى به فعل قبيح، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]

وقال في الأمرين: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا ﴾ [النمل: 50][ المفردات في غريب القرآن،473]

([2])  مثلما روي عن ابن سينا أنه داوى مريضا كان يعتقد بأنه بقرة، وكان يطلب من ذويه بإلحاح أن يذبحوه، فانقطع عن الأكل لأنهم رفضوا أن يفعلوا ذلك، فأرسل ابن سينا إليه يخبره بأنه قادم ليذبحه استجابة لطلبه، ولما حضر وفي يده السكين، أمر بربط يدي المريض ورجليه، وطرحه على الأرض ليذبحه. ولما همّ ابن سينا بالذبح، جس عضلات المريض جسا دقيقا، ثم التفت إلى أهله وقال لهم بصوت جهوري: إن هذه البقرة ضعيفة جدا، ويجب تسمينها قبل ذبحها، وعندها أخذ المريض من تلك الساعة يأكل بشهية زائدة ليسمن، فقوي جسمه وترك وهمه وشفي من مرضه شفاء تاما، عبد الكريم شحادة, صفحات من تاريخ التراث الطبي العربي الإسلامي.

([3])  البخاري- الفتح 6 (3030) واللفظ له، مسلم (1739) و (1740)

([4])  انظر: ابن هشام- السيرة 2/ 229- 230، الواقدي- المغازي 2/ 481.

([5])  القضاعى (1/107، رقم 128)، الحكيم (4/26) . قال العجلونى (2/387)

([6])  الديلمى (4/175، رقم 6544)

([7])  البخاري5782 ، ومسلم 348.

([8])  رواه البخاري (43). ومسلم (785)

([9])  بحار الأنوار (45/ 135)

([10]) البخاري، 7179، ومسلم،  199- (2526)

([11]) أبو داود، 4873.

([12])  البخاري- الفتح 5 (2692) . مسلم (2605)

([13])  البخاري- الفتح 5 (2692) . ومسلم (2605)

([14]) مسلم( 102)

([15]) البخاري [فتح الباري]، 13( 7150)، و مسلم( 142)

([16]) الترمذي( 1403)

([17]) لا زبر له: أي لا عقل له يزبره و يمنعه مما لا ينبغي.

([18]) و الخائن الذي لا يخفى له طمع: معنى لا يخفى لا يظهر.

([19]) الشنظير: فسره في الحديث بأنه الفحاش، و هو السي‏ء الخلق.

([20]) مسلم 4( 2865)

([21]) لا خلابة: لا تخلبوني أي لا تخدعوني.

([22]) البخاري [فتح الباري]، 12( 6964) ، و مسلم( 1533)

([23]) مسلم( 108) ، و بعضه عند البخاري الفتح 5( 2353)

([24]) البخاري [فتح الباري]، 9( 5219)، و مسلم( 2130) .

([25]) البخاري [فتح الباري]، 4( 2150)، و مسلم( 1515) .

([26]) مسلم( 1513)

([27]) النجش: الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.

([28]) البخاري [فتح الباري]، 4( 2142) ، و مسلم( 1516)

([29]) البخاري [فتح الباري]، 12( 6955)، و أبو داود( 1567) .

([30]) الترمذي( 1120)

([31]) الغر: الذي لم يجرب الأمور.

([32]) الخب: الخداع المكار الخبيث.

([33]) الترمذي( 1964)، و أبو داود( 4790)

([34]) مسلم( 137)

([35])  الذريعة إلى مكارم الشريعة، (ص211)

([36])  رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، (ص803)

([37])  رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد. 

([38])  إحياء علوم الدين (2/ 78)

([39])  رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (2/ 304) (8030) 

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *