البهتان والكذب

البهتان والكذب

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن البهتان والكذب، وما ارتبط بهما من الإفك والقذف وشهادة الزور، وكل ما يشوه الحقائق ويزورها، وعن حدودها وأماراتها والمنابع التي تنبع منها، وكيفية مواجهتها واستئصالها لتطهر أرض النفس منها.

وهو سؤال وجيه، ولا يمكن لمن يريد سلوك طريق الله ألا يعرف تفاصيل ما ذكرت، ويدقق فيها، حتى يتجنب كل ما قد يزينه له الشيطان؛ فيتحول إلى كذاب من حيث لا يشعر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :  (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً)([1])، وفي رواية: (وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كَذَّاباً)([2])

وهذا الحديث يدل على قاعدة مهمة في السلوك إلى الله تعالى، وهي أن النفس الأمارة بالسوء تتشكل طبيعتها، وتتصور صورتها بحسب السيئات التي تدمن عليها.. والتي قد تبدأ صغيرة يستهين بها صاحبها، ثم تكبر بالمداومة والاستمرار، إلى أن تصبح طبيعة لا يمكن الفكاك منها.

ولهذا ورد في الحديث النهي عن كل كذب، ولو لم يكن له أي تأثير عدواني على الآخرين، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذيبة) ([3])

بل روي ما هو أشد من ذلك مما يتساهل فيه الخلق، لكنه يؤدي إلى تغذية هذا المثلب في النفس إلى أن يصبح طبيعة فيها، فقد روي في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: دعتني أمي يومًا ورسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدٌ في بيتنا فقالت: ها تعالَ أُعْطِك، فقال لها رسول الله: (ما أردتِ أن تعطيه؟)، قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمَا إنك لو لم تُعطِيه شيئًا، كُتِبَت عليك كَذِبة) ([4])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (مَن قال لصبي: هاك، ثم لم يُعطِه، فهي كذبة)([5])

وحتى ذلك التساهل الذي يتساهل فيه الكثير في نقل الأخبار من دون تثبت، زاعما أنه يلقي عبئها على الراوي، أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كونه مثلبا من المثالب التي تغذي النفس الأمارة بالسوء، فقال: (بئس مطية الرجل: زعموا) ([6])

ولهذا أخبر الله تعالى أن الصدق الحقيقي لا يكون بالنقل المجرد عن التحقيق، وإنما يكون بالتحقيق والبحث الواعي، قال تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) ([7])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المنابع التي تمد هذا المثلب الخطير كثيرة جدا، بل إن كل الأمراض النفسية، تدفع صاحبها لتزوير الحقائق، وإذاعة الإفك، وتشويه من يختلف معهم، ولهذا اعتبر الله تعالى الكذب من أعظم الآفات، وأن سببه الأكبر هو ضعف الإيمان أو عدمه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]

وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض الذنوب، وإمكانية اجتماعها مع الإيمان، أجاب بالإيجاب، لكنه عندما سئل عن اجتماعها مع الكذب نفى ذلك.. ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سُئل : أيكون المؤمن جباناً ؟ قال : ( نعم ) ، ثم سُئل: أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : ( نعم ) ، ثم سُئل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال : ( لا ) ([8])

ولهذا أخبر الله تعالى أن امتحان الصدق والكذب هو أكبر الاختبارات التي يتعرض لها البشر لتمييز طيبهم من خبيثهم، قال تعالى: قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]

بل أخبر أن هدايته لا تتنزل على الكذابين، وكيف تتنزل عليهم، وهم قد ألفوا تشويه الحقائق؛ فصاروا يتهمون كل من يريد هدايتهم بالكذب، قياسا له على أنفسهم، قال تعالى: قوله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]

ولهذا، فإن من أكبر العقوبات التي تتنزل على الكاذب استعداده للنفاق، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)([9])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تحفظ نفسك وتقيها من هذا الداء العضال، فإنه من المهلكات التي قلما ينجو من أدمن عليها.

العلاج المعرفي:

وأول الأدوية التي تحفظك من هذا المثلب الخطير وما ارتبط به تأملك لما ورد في القرآن الكريم حوله، لتعلم أن الله تعالى لم يصف به سوى المنافقين والكافرين والظالمين في نفس الوقت الذي وصف فيه المؤمنين بالصدق والصفاء.

فاقرأ تلك الآيات ـ أيها المريد الصادق ـ قراءة تدبر وتمعن، واعلم أنك إن صدقت مع كل آية منها، فستقوم بدورها في تطهير نفسك وتزكيتها إلى أن تطهر من هذا الداء الخبيث؛ فأعظم الأدوية هي الأدوية القرآنية، وأعظم المربين هو كتاب ربنا وكلماته المقدسة.

وبما أني لا أستطيع أن أوردها لك جميعا؛ فسأكتفي بنماذج منها، تكون دليلا لك إلى غيرها:

فمن تلك الآيات ما ورد في القرآن الكريم من اجتراء الكاذبين على الله، وهي تشير إلى أن المدمن على الكذب، لا يكتفي بالكذب على الخلق والافتراء عليهم، وإنما تطالبه نفسه بالمزيد والمزيد إلى أن يفتري على الله نفسه، مثلما تفعل المخدرات بأصحابها، والذين يحتاجون إلى زيادة الجرعات كل حين، حتى يلبوا الحاجات التي لا تنقطع لإدمانهم.

ومن تلك الآيات قوله تعالى في افتراءات اليهود على الله تعالى: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [آل عمران: 181]، وقوله: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [المائدة: 64]

وهي تشير إلى أن اليهود ـ مع كثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم ـ إلا أن نفوسهم الأمارة الممتلئة بالكذب وتزوير الحقائق جعلتهم لا يستفيدون منهم، وهو ما يدل على أن الكذب والافتراء هو الحجاب الأعظم بين الإنسان والحقائق.

وأخبر الله تعالى أن الكذب والافتراء هو السبب في كل التحريفات التي حصلت للأديان، فقال:  { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [المائدة: 103]

ولهذا اعتبر الله تعالى في آيات عديدة الكذب على الله والافتراء على دينه أعظم أنواع الظلم، ذلك أنه يشبه من يضع السموم في الأدوية، فيصبح ملاذ الشفاء سبب الموت، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [الأنعام: 21]

ثم بين أن الكذب الذي أدمنوا عليه في الدنيا، يبقى معهم في الآخرة، وأنهم يلجؤون إلى ما كانوا يلجؤون إليه في الدنيا من الاحتيال على تشويه الحقائق بالقسم ونحوه، قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 22 – 24]

وقبل هذه الآيات الكريمة أشار الله تعالى إلى أن تكذيب هؤلاء للحقائق ليس ناشئا عن ضعف أدلتها، وإنما لما أدمت عليه نفوسهم من الكذب؛ فصاروا يتصورون كل الخلق مثلهم، حتى أنبياء الله، قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 20]

وفي آية أخرى ذكر الله تعالى أن الذين يفترون على الله الكذب، قد يتفاقم وضعهم، إلى أن يدعو تنزل وحي الله عليهم، قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [الأنعام: 93]، ثم بين عاقبة هؤلاء لينفر النفوس منها، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]

وهي تبين أن المنبع الذي نبع منه هذا النوع من الكذب هو الكبرياء، ذلك أن المستكبر لا يستطيع أن يسلم لغيره، ولهذا يلجأ إلى الكذب والافتراء ليشكل دينا على مقاسه ومزاجه.

ولهذا؛ فإن الكاذب على الله من أخطر المجرمين، لأنه لا يقتل أجساد الناس، وإنما يقتل أرواحهم، ويسمم منابع الهداية التي أنزلها الله عليهم، قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17]

لا تحسب ـ أيها المريد الصادق ـ أن هذه الآيات خاصة بأولئك اليهود، أو أولئك المشركين، وأن هذه الأمة بمعزل عنها.. ليس الأمر كذلك.. فالتحريف الذي وقع في تلك الأديان وقع في هذه الأمة.. ولولا أن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه لمسه التحريف والتزوير والتبديل، لكنهم عندما لم يطيقوا ذلك راحوا يحرفون الحقائق والقيم ويشوهونها، ويضيفون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقله، ليخلطوا الحق بالباطل، أو ليلبسوا الحق ثوب الباطل.

ولهذا ورد التحذير الشديد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ([10])

ومثل ذلك في الاجتهاد، والذي قد تدخله الأهواء، وتتلاعب به الأمزجة، وتتداخل فيه المصالح، فيحلل المحرم، ويحرم الحلال، افتراء على الله، قال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]

وقد أشار الله تعالى إلى سنة المجتمعات بعد أنبيائها في ذلك، فقال: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأعراف: 169]

وأعطى في آيات أخرى أدوية كثيرة لعلاج هذه الحالة المستعصية، وأولها أن يعلم المجتهد أنه موقع عن رب العالمين، وأن الشريعة شريعة الله لا شريعته، لذلك لا يحل له إقحام عقله وهواه ومزاجه فيها، قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59]

ثم بين عاقبة هؤلاء المفترين، فقال: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60]

ثم بين الحضور الدائم لله، حتى يراقب المفتري على الله نفسه، فقال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يبين أن الكذب ليس سمة أهل الكتاب ولا المشركين ولا محرفي الأديان فقط، وإنما هو الصفة الأساسية الغالبة للمنافقين، وهو يعني أن الكذب من منابع النفاق، وأن من أدمن عليه قد يصبح منافقا من حيث لا يشعر.

ولهذا أخبر الله تعالى أن من ثمار الوعود الكاذبة إنبات شجرة النفاق في القلب، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75، 76]، ثم بين عاقبة ذلك، فقال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]

وهكذا أخبر أن ذلك الكذب هو الذي أورثهم النفاق وما ينتج عنه من العذاب الشديد، قال تعالى مخبرا عن المنافقين وصفاتهم وأفعالهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 – 10]

وتذكر ـ أيها المريد الصادق ـ عند ذكرك لهذا تلك العقوبات الشديدة التي ارتبطت بالمنافقين، والذين لم يكونوا ليصبحوا كذلك لولا تساهلهم مع الكذب، ومنها هذه العقوبة الخطيرة التي نص عليها قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعلمت أن الكذيبة تؤدي إلى الكذبة، والكذبة تؤدي إلى الافتراء والبهتان والإفك، وكلها تنتهي إلى النفاق؛ فاحذر من مبادئ الكذب حتى لا تقع في مستنقعاته وأوحاله.

وإياك أن تتوهم ـ أيها المريد الصادق ـ أن عقوبة الكاذب مؤجلة للآخرة، لا .. ليس كذلك .. بل هي معجلة في الدنيا ، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ العبد ليكذب الكذب فيتباعد الملك عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به)([11])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت كان رجلا جاءني فقال: قم فقمت معه فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلّوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتّى يبلغ كاهله، ثمّ يجذبه فيلقمه الجانب الآخر فيمدّه فإذا مدّة رجع الآخر كما كان فقلت للّذي أقامني: ما هذا؟ فقال: هذا رجل كذّاب يعذّب في قبره إلى يوم القيامة)([12])

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاجعل بينك وبين الكذب آلاف الحواجز، ولا تفت لنفسك بأي فتوى، قد تجعلك تغرق في أوحاله، ثم لا تستطيع أن تخرج منها.

وأول ذلك أن تحذر كل الحذر من أن تكون كأولئك اليهود الذين استحلوا الموبقات إن كانت مع غيرهم، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]

فالموبقات والذنوب مثلها مثل المنجيات والحسنات قيم ثابتة تطبق مع جميع الناس، وفي جميع الأحوال، ومن راح يميز في معاملته بين قوم وقوم، يكون كاذبا في دعواه.. ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]

ولهذا أخبر الله تعالى عن السجناء أنهم قالوا ليوسف عليه السلام: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]، وهو يدل على أن معاملته لهم لم تكن تختلف عن معاملته مع أبيه وإخوانه وأهل بيته..

وإياك أن تتعود على إطلاق الوعود، حتى لو كانت بسيطة؛ فإن خلفها من أعظم الكذب، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]

وأثنى الله تعالى على نبيّه إسماعيل عليه السلام بأنه {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]، وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (إنّما سمّي إسماعيل صادق الوعد لأنّه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة؛ فسمّاه الله صادق الوعد، ثمّ إنّ الرّجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك)([13])

وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد حدث بعضهم قال: بايعت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، فنسيت يومي والغد فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه، وقال: يا فتى قد شققت عليّ أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك)([14])

وإن شئت أن ترتدع عن إطلاق الوعود الكاذبة، فتذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)([15]).

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أربع من كنّ فيه كان منافقا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من خلال النفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([16])

وإذا عرض لك عارض منعك من الوفاء بوعدك أو عهدك، فاعتذر لمن وعدتهم وعاهدتهم، واذكر لهم عذرك؛ فقد رفع الله الإصر على من فعل ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الخلف أن يعد الرجل الرّجل ومن في نيّته أن يفي)، وقال: (إذا وعد الرّجل أخاه وفي نيّته أن يفي فلم يجد فلا إثم عليه)([17])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ ونشر أفكارك، أو بيع سلعك، أو الترويج لمنتجاتك بالكذب أو بالمعاريض، فإن ذلك مهلك لك، ومتلف لسلعتك.. فالكذب شؤم، وما حل بشيء إلا أفسده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الكذب ينقص الرزق)([18])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ التجّار هم الفجّار)، فقيل: يا رسول الله أليس الله قد أحلّ البيع؟ فقال: (نعم ولكنّهم يحلفون فيأثمون، ويحدّثون فيكذبون)([19])

وإياك أن تفهم من هذا الحديث ـ أيها المريد الصادق ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرم التجارة، أو ينهى عنها، وإنما هو يحذر من الفجور فيها، ولذلك قال في التجار الصادقين: : (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله) ([20])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن العقوبة التي يستحقها من ينفقون سلعهم بالأيمان الكاذبة، فقال: (ثلاث نفر لا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيامَةِ، ولا ينظر إليهم، ولا يزكّيهم: المنّان بعطيّته، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)([21]).

وقال في حديث آخر: (ما حلف حالف بالله فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلّا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة)([22])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرّ برجلين يتبايعان شاة ويتحالفان، يقول أحدهما: والله لا أنقصك من كذا وكذا، ويقول الآخر: والله لا أزيدك على كذا وكذا، فمرّ بالشاة وقد اشتراها أحدهما فقال: (أوجب أحدهما بالإثم والكفّارة)([23])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم من هذه الأحاديث أن العقوبة فيها مرتبطة بالأيمان الكاذبة فقط، بل إن مجرد الكذب خيانة، ولو  كان خاليا من الأيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك مصدّق وأنت له به كاذب)([24]).

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقع فيما يقع فيه الكثير من قومك من استحلال الكذب لإضحاك الناس، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويل للّذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له)([25])

وإياك أن تفهم من هذا الحديث أن تكون متزمتا متشددا منقبضا، لا تضحك، ولا تُضحك، فالحديث لا يحرم ذلك، وإنما يحرم الكذب، حتى لا يحول الشيطان الكذب الهازل إلى كذب جاد.. وكم ترى في الواقع من ناس يُضحكون غيرهم، ويملؤون بنفس تلك الأحاديث قلوب آخرين ألما وحسرة.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمزح مع أصحابه تأليفا لقلوبهم، ولكن لا يقول إلا حقا، وقد قال في ذلك: (إني لأمزح، ولا أقول إلا حقا) ([26])

ومما رواه الرواة عنه في ذلك، ما روي أن عجوزا قالت له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أم فلان، إنّ الجنة لا يدخلها عجوز!)، فبكت المرأة، لأنها أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها صلى الله عليه وآله وسلم أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزاً، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرباً أتراباً} (الواقعة: 35 ـ 37)([27])

تصور ـ أيها المريد الصادق ـ مقدار فرح تلك العجوز بهذه المزحة الجميلة المعلمة الممتلئة أدبا، فقد علمها صلى الله عليه وآله وسلم أثناء مزاحها علما، وبشرها بشارة، وكل ذلك في قالب مضحك مله.

وفي حديث آخر روي أن رجلا جاءه يسأله أن يحمله على بعير، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أحملك إلا على ولد الناقة!) فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! ـ انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير ـ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وهل تلد الإبل إلا النوق؟)([28])

وروي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن هو؟ .. أهو الذي بعينه بياض؟)، قالت: والله ما بعينه بياض! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بلى إنّ بعينه بياضاً)، فقالت: لا، والله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أحد إلا بعينه بياض) ([29])

هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ كيف أنه يمكن بالصدق أن تعيش حياة طيبة غير متكلفة، وليس فيها أي أذى.. ذلك أن الله تعالى ما حرم شيئا إلا وأعطى البدائل التي تغني عنه.

ولذلك إن اضطررت إلى الكذب في بعض المواضع التي تكون فيها مصلحة شرعية معتبرة لا تلجأ إلى الكذب الصريح حتى لا تتعود نفسك عليه، بل الجأ إلى المعاريض، فقد روي في الآثار أن (في المعاريض ما يغني الرّجل عن الكذب)

ومن أمثلتها ما روي عن بعضهم أنه قال: (إذا بلغ الرّجل عنك شي‏ء فكرهت أن تكذب فقل: إنّ الله ليعلم ما قلت من ذلك من شي‏ء، فيكون قوله: (ما) حرف النفي عند المستمع وعنده للإبهام)

و كان بعضهم إذا طلبه في الدّار من يكرهه يخطّ دائرة، ويقول لأهل بيته: ضعوا الإصبع فيها، وقولوا: (ليس هاهنا)

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم من هذا إباحة التعريض فيما لا ضرورة فيه؛ فالأمر ليس كذلك، بل إن للكذب حدودا شرعية، قد يباح فيها للضرورة التي تستدعي ذلك، ومنها ما نص عليه قوله تعالى: { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران: 28]

فالآية الكريمة تجيز للمؤمنين في حال الضرورة، وخشيتهم على أنفسهم أو دينهم من أعدائهم أن يكذبوا عليهم، ولا يصرحوا بمعتقداتهم حفاظا عليها وعلى أنفسهم.

ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس بكذّاب من أصلح بين اثنين فقال: خيرا أو نمى خيرا)([30])

و قال: (كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلّا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما)([31])

وقال: (مالي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النّار، كلّ الكذب مكتوب كذبا لا محالة إلّا أن يكذب الرّجل في الحرب فإنّ الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدّث امرأته يرضيها)([32])

وفي حديث آخر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرخّص في شي‏ء من الكذب إلّا في ثلاث: الرّجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرّجل يحدّث امرأة والمرأة تحدّث زوجها)([33])

وفي حديث آخر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: وقع بين رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلام حتّى تصادما، فلقيت أحدهما فقلت: مالك ولفلان فقد سمعته يحسن الثناء عليك، ولقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتّى اصطلحا، ثمّ قلت: أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا أبا كاهل أصلح بين الناس)([34]) أي ولو بالكذب.

وفي حديث آخر أن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أكذب أهلي؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا خير في الكذب)، قال: أعدها وأقول لها؟ قال: (لا جناح عليك)([35])

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن تقع في البهتان والحديث في أعراض الناس والقذف وغيرها من أعظم الجرائم؛ فهي جرائم عظيمة لا تقل عن قتل النفس بغير حق، وهي لا تصيب بأذاها ذلك الذي قذفته فقط، وإنما تصيب المجتمع جميعا، وتملؤه بالفواحش والمنكرات.

لقد أشار الله تعالى إلى آثار ذلك في آيات كثيرة في سورة النور حين تحدث عن حادثة الإفك، وكيف استثمرها الشيطان في الفساد والإفساد، وكيف غضب الله تعالى على من أشاع ذلك الإفك العظيم، وفي حق عرض أشرف خلق الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فاقرأها .. لا باعتبارها تذكر حادثة تاريخية، وإنما لتربي بها نفسك، وتهذب بها أخلاقك، لتكون من أهل ذلك النور الذي ورد في السورة؛ فهو نور لا يتنزل إلا على القلوب الصافية التي هي مثل ذلك الزيت النقي الذي{ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]

لقد ذكر الله تعالى عظم ذلك البهتان، فقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]

ثم بين منهج التعامل مع أمثال تلك الافتراءات، فقال: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]

ثم بين المنبع الذي تصدر منه أمثال هذه الأخلاق، والمصير الذي يصير إليه أصحابها، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]

وبين في آيات أخرى أنواع العقاب الذي يتنزل على القاذفين والمفترين والكاذبين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 23 – 25]

بل إن الله تعالى لم يكتف بتلك العقوبات القدرية، بل أضاف إليها عقوبات تشريعية، فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 4]

ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن القذف من الموبقات التي تهلك صاحبها، فقال: (اجتنبوا السّبع الموبقات) قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: (الشّرك بالله، والشّحّ، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)([36])

فاقرأ هذه النصوص المقدسة ـ أيها المريد الصادق ـ واعلم أنها تحمل الحقائق المطلقة التي لا شك فيها ولا جدال، واحذر أن تكون من الذين يلقونها وراء ظهورهم، ولا ينتفعون بها، ويرتضون بدلها السماع لأولئك المرجئة الذين يوهمونهم بأن كل ذنوبهم يمكن مغفرتها بوضوء أو صلاة ركعتين أو حجة أو عمرة أو شفاعة، وهم لا يعلمون أن عدالة الله تأبى إلا القصاص من هؤلاء الذين نهشوا أعراض إخوانهم، وأشاعوا الفاحشة بين المؤمنين.

وكيف يقولون ذلك، وقد رتب الله لعنته على الكاذبين، واللعن هو الطرد من رحمة الله، قال تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، وذكر في شهادة من يقذف زوجته أن يقول في الخامسة: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7]

وإياك بعد هذا أن تقع في شهادة الزور؛ فهي من أكبر الكبائر، وقد وصف الله تعالى المؤمنين، فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وأخبر أنهم {بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]

ومن أعظم الزور ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكتم الشهادة في حال الحاجة إليها، وقد قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة: 283]، وقال: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 140]

ومن أعظم الزور أن تفرق في شهادتك بين من تحب وتبغض، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن شهادة الزور من أعظم الموبقات، فقد سُئلَ عن الكبائر قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور)([37])

وروي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: (الإشراك بالله)،قال: ثم ماذا؟ قال:(ثم عقوق الوالدين)، قال: ثم ماذا؟ قال:(اليمين الغموس)، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: (الذي يقتطع مال امرئٍ مسلم هو فيها كاذب)([38]

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه، وشرابه)([39]

وعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فلما انصرف قام قائماً فقال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثم تلا هذه الآية: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [الحج: 30] )([40])

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ وهي لا تشمل كل موارد الكذب؛ فهي أكثر من أن تحصى؛ فكن حذرا من أن توبق نفسك بكذبة قد تفرح لها بعض ساعات، وقد يسر بها جلساؤك، لكن تبعاتها تبقى في رقبتك آمادا طويلة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر بعض عقوبات الكذب الذي يستهين به الخلق: (من تحلّم‏([41]) بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين‏([42])، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك‏([43]) يوم القيامة، ومن صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ)([44])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفرى الفرى‏([45]) أن يري عينه ما لم تر)([46])


([1]) البخاري، 6094، ومسلم، 2607.

([2]) مسلم، (2607)، والترمذي، 1971.

([3])  أحمد (45/ 465)

([4])  رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي

([5])  رواه أحمد

([6])  رواه أبو داود

([7])  رواه مسلم.

([8])  الموطأ (2/990) (19)، البيهقي في شعب الإيمان (6/456) (4472)

([9]) البخاري، رقم 33، ومسلم، رقم 59.

([10])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما، قال المنذري: هذا الحديث قد روي عن غير واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر .

([11])  الترمذي ج 8 ص 147.

([12])  البخاري ج 9 ص 56.

([13])  رواه الصدوق في العلل باب 67.

([14])  أبو داود ج 2 ص 595. و البغوي في المصابيح 2 ص 154.

([15])  مسلم ج 1 ص 56.

([16])  مسلم ج 1 ص 56.

([17])  أبو داود ج 2 ص 595.

([18])  رواه الأصبهاني كما في الترغيب ج 3 ص 596.

([19])  البيهقي في الكبرى ج 5 ص 266.

([20]) رواه ابن ماجه، والزبير بن بكار في أخبار المدينة والحاكم.

([21])  السنن الكبرى ج 6 ص 265.

([22])  الترمذي و الحاكم.

([23])  قال العراقي: أبو الفتح الازدى في كتاب الأسماء المفردة من حديث ناسخ الحضرمي.

([24])  البخاري في الادب المفرد و أبو داود.

([25])  أبو داود ج 2 ص 594.

([26])  رواه الطبراني في الكبير.

([27])  الترمذي.

([28])  الترمذي.

([29])  ابن أبي الدنيا.

([30])  مسلم ج 8 ص 28.

([31])  أحمد ج 6 ص 455.

([32])  أبو بكر بن لال في المكارم والطبراني.

([33])  البخاري و مسلم و أحمد و الترمذي.

([34])  الطبراني.

([35])  رواه مالك في الموطإ ج 2 ص 254.

([36]) النسائي( 6/ 257)

([37]) البخاري، رقم 2653، ومسلم، رقم 88.

([38]) البخاري، رقم 6920.

([39]) البخاري، رقم 1903.

([40]) أبو داود، رقم 3599، والترمذي، رقم 2300.

([41]) من تحلم: تكلف الحلم.

([42]) أن يعقد بين شعيرتين: تعجيزا و تعذيبا.

([43]) الآنك: الرصاص المذاب.

([44]) البخاري [فتح الباري]، 12( 7042)

([45]) من أفرى الفرى: أي من أعظم الكذبات.

([46]) البخاري [فتح الباري]، 12( 7043)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *