الغيبة والنميمة

الغيبة والنميمة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الغيبة والنميمة، والمنابع التي ينبعان منها، والثمار التي يثمرانها، وكيفية معالجة النفس الأمارة منهما، وأسرار تلك النصوص المقدسة الواردة حولهما.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذين المثلبين من مثالب النفس الأمارة، من أخطر المهلكات، وأنهما ليسا مرضين بحد ذاتهما، وإنما هما عرضان لأمراض كثيرة تعتري النفس تبدأ بالعجب والغرور والاستكبار الذي يختصر كل شيء في أنانية الإنسان، واعتباره لنفسه المحور والقطب والمركز.. ولذلك تسارعان لكل من ينافس تلك النفس، أو يصرف الأنظار عنها إلى الإساءة إليه بأي شيء، ومنها الإساءة إليه بذكر عيوبه وإشاعتها ونشرها، أو الإفساد بينه وبين غيره.

ومن منابع هذين المرضين دناءة النفس، وغفلتها عن حقيقتها ووظائفها، وذلك ما يجعلها في فراغ كبير، يستغله الشيطان ليملي عليها نشر العداوة والشحناء عبر وسائل الغيبة والنميمة والقذف وغيرها.

ومن منابعها تلك التبعية والعبودية للأصدقاء والأعراف والمجتمعات، والتي تجعل المريض بها يجاريها، ويسير وفق أهوائها، من غير أ ن يكون له في ذلك أي مصلحة، سوى إرضاء الأصدقاء أو المجتمع، وعدم الخروج عنه.

ومن منابعها الحقد والحسد والبغضاء التي تجعل المريض بها منشغلا عن نفسه بتتبع أخطاء الآخرين وإذاعتها ونشرها والزيادة فيها.

وغيرها من المنابع الكثيرة التي عبر عن أصولها الكبرى الإمام الصادق، عند ذكره للغيبة، فقال: (انّ أصل الغيبة متنوّع بعشرة أنواع: شفاء غيظ ومساعدة قوم وتهمة وتصديق خبر بلا كشفه وسوء ظنّ وحسد وسخريّة وتعجّب وتبرّم وتزيّن.. فإن أردت السّلامة فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرة ومكان الإثم ثوابا) ([1])

وما ذكره الإمام الصادق يدل على أن الأمراض النفسية يؤدي بعضها إلى بعض، ويقوي بعضها بعضا.. فالحقد والحسد يدعو إلى الغيبة والنميمة، وهما يقويان الحقد والحسد، ويجذرانه في النفس..

ومثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل الشجرة التي تغذي أوراقها بالماء والأملاح المعدنية، فإذا ما قويت الورقة واشتدت غذت الشجرة بما تحتاجه من طاقة عبر التمثيل الضوئي.

أما الثمار التي يثمرانها، فكثيرة جدا، وأولها انشغال النفس عن وظائفها، وهربها من نقصها بتتبع نقص الآخرين، وإشاعتها للفساد عبر نشرها لأخباره، وإشاعتها للقطيعة عبر الإفساد الذي تهدم به عرى المجتمع.

ولذلك لا يمكن لمن يريد أن يزكي نفسه، ويطهرها، ويجعلها صالحة لسلوك الطريق المستقيم ألا يحيط علما بحدود هذين المثلبين، وكيفية علاجهما، حتى يحفظ أعماله وسلوكه، ويهيئ نفسه للمراتب العالية التي لا يرقى إليها إلا أصحاب القلوب السليمة، والألسنة الطاهرة، والنفوس المطمئنة.

ولذلك سأحدثك عن كل واحد منهما، وحدوده، وكيفية علاجه؛ فالعلم بالمثالب أول الطريق لعلاجها.. ورب نفوس صادقة لا تحتاج سوى معرفة حدود الشريعة لتلتزم بها، من غير أن مشقة ولا عناء.

الغيبة وعلاجها:

أما الغيبة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تلك التي نص على تحريمها وعقوبة أصحابه قوله تعالى: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]

وقد عرّفها رسول الله a تعريفا جامعا مانعا، لا يترك مجالا لأي تأويل، ولا يحتاج بعده أي تفصيل؛ فقد روي في الحديث أنه a قال ـ مخاطبا أصحابه ـ: (أتدرون ما الغيبة؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قالوا: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)([2])

وفي حديث آخر أن رجلا ذكر عند رسول الله a فقالوا: ما أعجزه، فقال رسول الله a: (اغتبتم صاحبكم)، قالوا: يا رسول الله قلنا ما فيه، قال: (إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه)([3])

وروي عن عائشة أنّها ذكرت امرأة فقالت: إنّها قصيرة فقال النبيّ‏ a: (اغتبتها)([4])

وهذه الأحاديث جميعا تدل على أن الغيبة تشمل كل ما يكرهه من وقعت عليه الغيبة، سواء في دينه أو دنياه، أو جسده، أو نسبه، أو أي شيء قد لا يخطر على البال، وقد ذكر بعض الصالحين رجلا فقال: ذلك الرّجل الأسود، ثمّ قال: أستغفر الله، إنّي أراني قد اغتبته.

وقال آخر: (ذكر الغير بالسوء ثلاثة أقسام: الغيبة والبهتان والإفك، والكلّ في كتاب الله، والغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك)

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم من هذه النصوص اختصاص الغيبة باللسان، فالأمر ليس كذلك؛ فاللسان ليس سوى أداة لذلك، ولذلك فإن الغيبة تشمل كل تنقيص للغير، وذكر لعيوبه، حتى لو كانت صورة نشرتها عنه، أو حركة أومأت بها إليه، أو تعريضا عرضت به، يسيء إليه، أو إشارة أو إيماء أو غمزا أو رمزا أو كتابة أو حركة.. فكل هذه الأمور داخلة في الغيبة، وقد ذكرت لك في مناسبات سابقة ما ورد في الحديث عن عائشة أنها أومأت بيدها تشير إلى امرأة بكونها قصيرة، فاعتبر رسول الله a حركتها غيبة([5]).

وهي كذلك تشمل الأحياء والموتى، بل إن غيبة الميت أشد، لعدم إمكانية الاستحلال منه، وقد ورد في الحديث عن النبي a أنه قال: (إذا مات صاحبكم فدعوه، ولا تقعوا فيه )([6])

وهذا لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكف لسانك عن إنكار المنكر خشية أن يفهم البعض منه قصدك لأشخاص معينين، أو طوائف معينة؛ فذلك ليس من الغيبة، وقد كان رسول الله a إذا كره من إنسان شيئا قال: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)([7]) من دون أن يعين أحدا.

وإياك عند قصدك لهذا، أن تحكم على الناس من خلال رؤيتك للشريعة، أو مرتبتك في التحقق بها؛ فتقع فيما وقع فيه ذلك الصحابي الذي راح يذم بعضهم بسبب تقصيره في بعض الشعائر، فأخبره رسول الله a أنه خير منه.

فقد ورد في الحديث أنّ رجلا مرّ على قوم في حياة رسول الله a فسلّم عليهم فردّوا عليه السلام؛ فلمّا جاوزهم قال رجل منهم: إنّي لأبغض هذا للَّه، فقال أهل المجلس: والله لبئس ما قلت والله لننبّئنّه.. فقاموا، فأخبروه، فأتى الرّجل رسول الله a وحكى له ما قال وسأله أن يدعوه، فدعاه فسأله، فقال: قد قلت ذلك؟ فقال رسول الله a: لم تبغضه؟ قال: أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يصلّي صلاة قطّ إلّا هذه المكتوبة، قال الرجل: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخّرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها أو الرّكوع أو السجود؟ فسأله فقال: لا، قال: والله ما رأيته يصوم شهرا قطّ إلّا هذا الشهر الّذي يصومه البرّ والفاجر، قال الرجل: فاسأله يا رسول الله هل رآني قطّ أفطرت فيه أو نقصت من حقّه شيئا؟ فسأله، فقال: لا، قال: والله ما رأيته يعطي سائلا قطّ ولا مسكينا، ولا رأيته ينفق من ماله شيئا في سبيل الخير إلّا هذه الزكاة الّتي يؤدّيها البرّ والفاجر، قال الرجل: فأسأله هل رآني نقصت منها شيئا أو ماكست فيها طالبها الّذي يسألها؟ فسأله، فقال: لا، فقال للرّجل: (قم فلعلّه خير منك)([8])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه إذا اقتضت المصلحة الشرعية اللجوء إلى ذكر الأسماء، والتصريح بها؛ فإن الحرج حينها منتف، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } [النساء: 148]

ولذلك لا يمكنك أن تلوم شخصا يذكر ظالمه، ويشكو منه، وتنعته بكونه مغتابا، وتطلب منه ألا يسميه، فكيف يمكنك أن تنصره، وأنت لا تعرف من ظلمه، ولذلك قال رسول الله a لبعضهم: (دعوه، فإن لصاحب الحقّ مقالا)([9])، وقال: (مطل الغني ظلم)([10])، وقال: (ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته) ([11])

ومثل ذلك من يريد الاستعانة على تغيير المنكر؛ فيضطر إلى تسمية من وقع فيه، حتى يدعو لنصحه، والإنكار عليه، فلا حرج في ذلك، ما دام المنكر لا يغير إلا بذلك، وقد قال الإمام الصادق في ذلك: (صفة الغيبة أن يذكر أحد بما ليس هو عند الله عيب ويذمّ ما يحمده العلم فيه، وأمّا الخوض في ذكر غائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به وكنت أنت معافى عنه خاليا منه وتكون مبيّنا للحقّ من الباطل ببيان الله ورسوله، ولكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين الله‏، وأمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده وإن كان صوابا) ([12])

وانتبه ـ أيها المريد الصادق ـ لما قيد به الإمام الصادق إباحة ذلك، وهو قصد بيان الحق، والبعد عن أهواء النفس وأحقادها وأمراضها.

ومثل ذلك المستفتي الذي يذكر حاله للمفتي، أو الشاكي الذي يذكر حاله للقاضي، فيسمي من ظلمه، أو أخطأ في حقه؛ فكل ذلك جائز، ولا حرج فيه، وقد ورد في الحديث أن هندا قالت للنبيّ a: (إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني إيّاي وولدي أفآخذ من غير علمه؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)([13])

ومثل ذلك التحذير من رؤساء الشر، ودعاة الفتنة، وبيان عيوبهم وفضائحهم، حتى يحذر منهم الناس، وقد قال رسول الله a في ذلك: (أترعون عن ذكر الفاجر حتّى لا يعرفه النّاس، اذكروه بما فيه يحذره النّاس)([14])

ويدخل في هؤلاء المجاهرون بالفسق الدعاة للرذيلة، الذين ينطبق عليهم قوله a: (من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له)([15])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن تلك النصوص المقدسة التي استثنت تلك المواقع، تشبه ما يفعله الطبيب الذي قد يضطر إلى القيام بعملية جراحية، لا يقصد منها إيذاء صاحبها، ولكن يقصد استئصال الداء منه.. فإذا تجاوز ذلك، وراح يجرحه في المواقع التي لا تحتاج إلى جرح كان مؤذيا وظالما.

وهكذا الذي قد يضطر إلى الغيبة؛ فإنه لا يقصد منها تلبية دوافع نفسه الأمارة، فيغذي منابع السوء فيها، وإنما يقصد منها الإصلاح، وبيان الحق، والتحذير من الباطل.. فإن تجاوز ذلك يكون حاله كحال الطبيب الذي يعالج أعضاء، ويقضي على أخرى.

إذا عرفت هذا.. وأردت أن تعالج نفسك من هذا المثلب الخطير؛ فتذكر ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع العقوبة المرتبطة به، فقد قال رسول الله a: (من أكَلَ برجلٍ مسلمٍ أُكْلةً فإن الله يُطعِمُهُ مثلها من جهنم، ومن كُسِيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياءٍ؛ فإن الله يقوم به مقام سُمعة ورياء يوم القيامة)([16])

وأخبر عن بعض صور ذلك العذاب، فقال: (لـمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)([17])

وأخبر عن الجزاء الوفاق الذي يناله من تتبع عورات إخوانه، فقال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتّبعَ عوراتِهمْ يتّبع الله عورتَهُ، ومن يتبعِ الله عورته، يفضحْهُ في بيته)([18])

وشبه a الغيبة بالربا، واعتبر أنها أربى الربا، مع أن الله تعالى توعد المرابين بالمحاربة، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]

فقد ورد في الحديث عن رسول الله a أنه قال: (إن من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق )([19])

وفي حديث آخر أن بعضهم سأل النبي a مسائل تتعلق بالقرض وغيره، وكان يقصد الورع عن الربا، فقال له رسول الله a: (عباد الله، وضع الله عنكم الحرج، إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً فذلك الذي حرج، وهلك)([20])

ولا تكتف ـ أيها المريد الصادق ـ بتذكير نفسك بهذه العقوبات، بل أضف إليها تلك الحسرة التي يجدها من يجد حسناته التي تعب في جمعها في الدنيا، تذهب في الآخرة إلى أولئك الذين اغتابهم، حتى ينالوا حقهم منه، كما أخبر رسول الله a عن ذلك في حديث المفلس، فقال: (المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثمّ طرح في النّار) ([21])

ولهذا روي عن بعض الصالحين أنه قيل له: (إن فلانًا قد اغتابك)، فبعث إليه طبقًا من الرطب، وقال: (بلغني أنك أهديتَ إليَّ حسناتِك، فأردتُ أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام) ([22])

وقيل لآخر: بلغني أنك تغتابني، فقال: (لم يبلغ قدرك عندي أن أُحكِّمَك في حسناتي)

وقيل لآخر: إن فلانًا يغتابني، فقال: (قد جلب لك الخير جلبًا) ([23])

وقال آخر: (لولا أني أكره أن يُعْصى الله، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنات يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها؟!)([24])

وقال آخر: (لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ؛ لأنهما أحق بحسناتي)

وقال آخر: (يا مكذب، بخلت بدنياك على أصدقائك، وسخوت بآخرتك على أعدائك، فلا أنت فيما بخلت به معذور، ولا أنت فيما سخوت به محمود) ([25])

وقال آخر: (إذا بلغك عن أخيك ما يَسُوؤك، فلا تغتم، فإنه إن كان كما يقول، كانت عقوبة عجلت، وإن كان على غير ما تقول، كانت حسنة لم تعملها) ([26])

وكتب آخر إلى رجل كان يغتابه: (أما بعد، فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد ممَّا أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، واعلم أني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر، والسلام) ([27])

إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد أن تمسك لسانك عنها، وأن تبتعد عن كل المجالس التي تدعوك إليها، واعلم أن الشيطان قد يجرك للجلوس فيها، لتلتذ بها من غير أن تشارك فيها، موهما لك، ولمن تجلس معهم أنك تقي ورع، مع أن نفس مجالستك لهم، وسكوتك عن الإنكار عليهم غيبة، بل ربما تكون أشد منها.

هي تشبه تماما ما يطلق عليه التدخين السلبي، فذلك الذي يجلس بين المدخنين، تسري إليه أمراضهم والهواء النتن الذي يفرزونه، وهو يزعم لنفسه أنه بعيد عن التدخين، ولم يبتل به.

ولذلك، فإنك بين أمرين: إما أن تفارق تلك المجالس، أو تقوم بالإنكار عليهم، وإلا كنت شريكا لهم، فمن كثر سواد قوم كان منهم، وقد ورد في الحديث عن رسول الله a أنه قال: (ما من امرئٍ يخذل امرؤاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته )([28])

وفي حديث آخر قال a: (من ردّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) ([29])

و قال: (من ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار ) ([30])

ولا تكتف بهذا ـ أيها المريد الصادق ـ إن أردت تهذيب نفسك وتصفيتها، فلا تكفي العزيمة على ترك الغيبة في المستقبل، بل عليك البحث في ماضيك، ومن اغتبتهم، لتصلح ما أخطأته في حقهم، حتى لا يخاصمونك عند الله يوم القيامة.

فإن كنت تعرف من اغتبته، ورأيت أن طلبك إبراء الذمة منه لن يؤثر فيه، أو يغضبه، فاستحل منه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله a أنه قال: (من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هنالك دينار ولا درهم إنّما يؤخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنة أخذ من سيّئات صاحبه فزيدت على سيّئاته)([31])

وقد وصف بعضهم كيفية ذلك، فقال: (تمشي إلى صاحبك وتقول: كذبت فيما قلت، وظلمت وأسأت فإن شئت أخذت بحقّك وإن شئت عفوت)

وإن رأيت أن ذلك يؤذيه ويحرجه ويجرحه، فاكتف بالدعاء له وذكر محاسنه لتكفر عن خطيئتك باغتيابه، كما ورد في الحديث عن رسول الله a أنّه قال: (كفّارة من اغتبته أن تستغفر له)([32])، وقد قال رسول الله a: (اتّق الله حيثما كنت وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن) ([33])

وقد جمع الإمام الصادق بين الأمرين، فقال: (إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه، وإن لم تبلغه فاستغفر الله له)([34])

النميمة وعلاجها:

أما النميمة ـ أيها المريد الصادق ـ فتشترك مع الغيبة في نشرها للعيوب والفضائح، وتزيد عليها في الغرض الذي تهدف إليه، وهو الإفساد بين المتآخين والمتحابين، بخلاف الغيبة التي قد لا يكون مقصودها سوى الضحك واللهو واللعب، ولا ينتج عنها سوى ذلك الألم الذي يجده من وقعت الغيبة عليه.

ولذلك فإن كل العقوبات التي ذكرت في الغيبة، تكون للنمامين، ويضاف إليها ذلك الإفساد الذي قاموا به، والذي قد يتفاقم إلى أن يخرج من السيطرة.. وحينها قد يصبح النمام قاتلا ومجرما من غير أن يسفك أي دم، أو يقتل أي شخص.

وقد روي في بعض الحكايات أن رجلا باع عبدا فقال للمشتري: ما فيه عيب إلّا النميمة قال: قد رضيت فاشتراه فمكث الغلام أيّاما ثمّ قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتزوج عليك، وأنا أسحره لك في شعره، فقالت: كيف أقدر على أخذ شعره؟ فقال: إذا نام فخذي الموسى واحلقي من قفاه عند نومه شعرات حتّى أسحره عليها فيحبّك، ثمّ قال للزّوج: إنّ امرأتك اتّخذت خليلا، وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتّى تعرف ذلك، فتناوم فجاءته المرأة بالموسى فظنّ أنّها تريد قتله، فقام، فقتلها، فجاء أهلها وقتلوا الزّوج فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر بينهم.

ولهذا، فإن النميمة جريمة من الجرائم الكبرى التي قد تفوق القتل وغيره، ذلك أنها السبب في كل المفاسد، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

تنحّ عن النّميمة واجتنبها … فإنّ النّمّ يحبط كلّ أجر

يثير أخو النّميمة كلّ شرّ … ويكشف للخلائق كلّ سرّ

ويقتل نفسه وسواه ظلما … وليس النّمّ من أفعال حرّ

بل إن النمام قد لا يكتفي بالإفساد بين الأفراد المحدودين، وإنما يسري فساده للأمة جميعا، فالطائفية المقيتة التي فرقت بين المسلمين، وزرعت الصراع بينهم، ليست سوى ثمرة لأولئك النمامين الذين ـ بدل أن ينشروا المحبة بين المسلمين ـ راحوا ينشرون الفرقة والصراع بينهم.

ولهذا ذم الله تعالى النمامين ذما شديد، فقال: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 10 – 13]، فهذه الأوصاف جميعا هي منابع النميمة وثمارها.. فالنمام لا يرتاح إلا إذا رأى الخلق يتصارعون، ويمنع بعضهم خيره عن الآخر.

وقرن الله تعالى بين النميمة والقطيعة والإفساد في الأرض ونقض المواثيق، فقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26، 27]

وشبه النمام بالذي يحمل الحطب ليشعله، ويحرق الخلق به، كما قال تعالى في وصف امرأة أبي لهب التي كانت تسعى بالنميمة لتفسد بين رسول الله a وقومه: { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]

ولهذا أخبر رسول الله a أن النمام شر الناس، فقد روي أنه قال: (إنّ من شرّ النّاس من اتّقاه النّاس لشرّه)([35]) والنمّام منهم.

وأخبر أنه (لا يدخل الجنة نمام)([36]) ، وفي رواية: (لا يدخل الجنّة قاطع)‏([37])، وكيف يدخلها، وهو الذي إن دخلها لن يلتذ بنعيمها ما لم ير قصورها تهدم، وأشجارها تحرق..

بل إن رسول الله a أخبر عن تعجيل العذاب للنمامين في البرزخ؛ فقد روي أنه خرج من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان، في قبريهما فقال: (يعذبان وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير: كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة)([38])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر من أن تتكلم كلمة لا تلقي لها بالا قد تكون سببا في فتنة عظيمة، لا يمكن أن تسدها؛ فزن كلماتك قبل أن تتحدث بها، حتى لا تكون وبالا عليك، وحتى لا تأتي يوم القيامة مجرما، وأنت لم تقتل صرصورا واحدا.

ولا تكتف بذلك، بل واجه النميمة، وأفسد أغراضها، ولا تقبل من النمامين، حتى لا تكون معينا لهم.

وإياك أن تسمع للنمام، فهو فاسق حتى لو لبس ملابس العلماء، وتحدث بكلام الحكماء، وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]

و قد روي عن الإمام عليّ أنّ رجلا أتاه يسعى إليه برجل، فقال: (يا هذا نحن نسأل عمّا قلت فإن كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، فإن شئت أن نقيلك أقلناك؟)، فقال: (أقلني يا أمير المؤمنين)([39])

وروي أن حكيما زاره بعض إخوانه، ونقل له خبرا عن غيره، فقال له الحكيم: (قد أبطأت عن الزّيارة، وأتيتني بثلاث جنايات: بغّضت إليّ أخي، وشغلت قلبي الفارغ، واتّهمت نفسك الأمينة)

وروي عن بعض الأمراء أنّه دخل عليه رجل، فذكر له عن رجل شيئا، فقال له: (إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟) فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا)([40])

وقال حكيم لبعض الأمراء: (احذر قاتل الثّلاثة)، قال: (ويلك، من قاتل الثّلاثة)؟ قال: الرّجل يأتي الإمام بالحديث الكذب، فيقتل الإمام ذلك الرّجل بحديث هذا الكذّاب، ليكون قد قتل نفسه، وصاحبه، وإمامه)([41])

وروي أن بعض الأمراء كتب إليهم أحد المتملقين له يحثّه على أخذ مال يتيم، وكان مالا كثيرا فكتب على ظهرها يقول له: (النّميمة قبيحة، وإن كانت صحيحة، والميّت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال نمّاه الله، والسّاعي لعنه الله)([42])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن (من نمّ إليك نمّ عليك)([43])، وأن من بلغك سب غيرك لك، فقد سبك بغير لسانه، وقد قال الشاعر:

لا تقبلنّ نميمة بلّغتها … وتحفّظنّ من الّذي أنباكها

إنّ الّذي أهدى إليك نميمة … سينمّ عنك بمثلها قد حاكها

وقد قال رجل لبعض الحكماء: إنّ فلانا ما يزال يذكرك في قصصه بشرّ، فقال له الحكيم: (يا هذا ما رعيت حقّ مجالسة الرّجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدّيت حقّي حين أعلمتني عن‏ أخي ما أكره، ولكن أعلمه أنّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين)([44])

وأختم لك وصيتي هذه بما أوصى به لقمان الحكيم ابنه، فقد قال له: (يا بنيّ أوصيك بخلال إن تمسّكت بها لم تزل سيّدا: أبسط خلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللّئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن أخدانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تغتبهم ولم يغتابوك)

هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد في أن تحفظ نفسك من هذين المثلبين الخطيرين، ولا يمكنك ذلك ما لم تطهرها من كل الأمراض الباطنية التي تدفعها لذلك.. فلا يمكن للحاقد والحاسد والمستكبر، والذي استولت عليه نفسه الأمارة أن يحكم لسانه، أو يضبط تصرفاته، وهل يمكن للنار أن تطفئها بالماء، وأنت تزودها كل حين بالوقود الذي يهيجها.


([1])  مصباح الشريعة، الباب التاسع و الأربعون.

([2]) مسلم، رقم 2589.

([3])  الطبراني في الكبير، مجمع الزوائد ج 8 ص 94.

([4])  أحمد و أبو داود ج 2 ص 567 و الترمذي.

([5])  الخرائطي و ابن مردويه و البيهقي كما في الدر المنثور ج 6 ص 94.

([6]) أبو داود، رقم 4899.

([7])  أبو داود ج 2 ص 550.

([8])  أحمد ج 5 ص 455.

([9])  رواه أحمد (6/ 268)

([10])  البخاري- الفتح 5 (2400)

([11])  أبو داود وابن ماجه رقم 2427

([12])  مصباح الشريعة ، الباب التاسع و الأربعون.

([13])  البخاري- الفتح 4 (2211) واللفظ له، ومسلم (1714)

([14])  ابن أبي الدنيا في الصمت و الحكيم في نوادر الأصول و الحاكم في الكنى و الشيرازي في الألقاب.

([15])  البيهقي، الدر المنثور ج 6 ص 97.

([16]) أبو داود، 4881،وأحمد،4/229.

([17]) أبو داود، 4878.

([18]) أبو داود، 4880، وأحمد، 4/421، 424.

([19]) أبو داود، 4876، وأحمد، 1/190.

([20])أحمد ، 4/278، والحاكم ، 4/199، و4/499.

([21])  مسلم (2581)

([22])  تنبيه الغافلين: 1/ 176 .

([23])  حلية الأولياء: 8/ 108 .

([24])  رواه البيهقي في شعب الإيمان: 5/ 305 .

([25])  تنبيه الغافلين: 1/ 177 .

([26])  سير أعلام النبلاء: 6/ 264 .

([27])  ترتيب المدارك: 1/ 450 .

([28]) أبو داود، 4884، وأحمد، 4/30.

([29]) أحمد،6/450،والترمذي، 1931.

([30]) أحمد، 6/461.

([31])  أحمد ج 2 ص 506.

([32])  ابن أبي الدنيا في الصمت.

([33])  رواه الترمذي (1987)، ورواه أحمد (5/ 153، 158، 228، 236) ، والدارمي (2794)

([34])  مصباح الشريعة الباب التاسع و الأربعون.

([35])  الكافي ج 2 ص 327، و البخاري و مسلم نحوه.

([36]) البخاري، 6056، ومسلم، برقم 169.

([37])  البخاري ج 8 ص 6 و مسلم ج 8 ص 8.

([38]) البخاري، 6055، ومسلم، 292.

([39])  رواه المفيد في الاختصاص ص 142.

([40]) إحياء علوم الدين، ( 3/ 166)

([41]) انظر مساوى‏ء الأخلاق للخرائطي( 93)

([42]) الأذكار للنووي( 310)

([43]) إحياء علوم الدين، ( 3/ 166)

([44])  المرجع السابق، ( 3/ 167)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *