حصائد الألسن

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن اللسان وعلاقته بالنفس الأمارة، وكيف يمكنه أن يتخلص من تحكمها فيه، وسيطرتها عليه، وعن أولئك الذين راحوا يضعون الحجارة في أفواههم حتى يتدربوا على الصمت، وعن مشروعية ذلك، وأسئلة أخرى كثيرة لها علاقة باللسان، ربما أجيبك عنها في رسائل لاحقة.
وقبل أن أجيبك عن أسئلتك أحب أن أبين لك أن اللسان جارحة من الجوارح الخاضعة للنفس، وهي تتحكم فيه بحسب المرتبة التي تنزل فيها، فإن كانت نفسا أمارة أمرته بالصمت في الوقت الذي يجب فيه الكلام، وبالكلام في الوقت الذي يجب فيه الصمت، وخلطت عليه الأمور، وأصبح بذلك أداة من أدوات الشيطان.. وإن كانت النفس مطمئنة شغلته بالذكر والمذاكرة والمجاهدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل خصال الخير.
وهكذا، فإن اللسان مثله مثل سائر الجوارح، تابع للنفس، يتلون بلونها، ويتحرك تحت أوامرها.. ومن طهّر نفسه طهُر لسانه، ومن أوبقها أوبقه.
ولذلك أثنى الله تعالى على اللسان الطيب الذي يقول الكلمة الطيبة، فقال: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25]؛ فقد أخبر الله تعالى أن الكلمة الطيبة يمكنها أن تتحول إلى مصدر كبير من مصادر الحسنات التي لا تنضب.
وهكذا ورد في النصوص المقدسة الكثيرة عظم الأجر الذي يناله المسبحون والذاكرون لله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كتب له بكل حرف عشر حسنات) ([1])، وقال: (والحمد لله تملأ الميزان) ([2])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل الدعوة إلى الله، وعظم الأجر الذي يناله أصحابها، فقال: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) ([3])
وهكذا، فإن الكثير من أعمال الخير لا يمكن لأحد من الناس أن يقوم بها من دون أن يستعمل فيها لسانه، وبذلك فهو آلة من آلات التقوى والهداية والصلاح.
وقد أخبر الله تعالى أن ملك مصر لم يعرف قدر يوسف عليه السلام إلا بعد أن كلمه، فقال: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54]
وبعكس ذلك، فإن اللسان الذي رفع يوسف عليه السلام، هو نفسه اللسان الذي فضح أولئك اليهود، الذين أخبر الله عنهم، فقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181، 182]
وهو الذي فضح المنافقين، كما قال تعالى: { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 7، 8]
وهو الذي فضح الأفاكين، كما قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 15 – 17]
وهو الذي أخبر الله تعالى أنه من يمد الشجرة الخبيثة في النفس، ويملأ العالم بالصراع، قال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]
وبذلك فإن اللسان أكبر دليل على الإنسان، فهو الذي يرفعه أو يخفضه، وهو الذي يكرمه أو يهينه، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]
وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
ولكم ترى من صامتٍ لك مُعجب =زيـادته أم نقصه في التكــــــــــــلمِ
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فـؤاده=فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدمِ
وعبر عنه بعض الحكماء، فقال: (القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض وعذب، وأجاج، وغير ذلك وَيُبَيِّن لك طعم قلبه اغتراف لسانه)([4])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لكل مرض من أمراض القلوب، إفرازاته الخاصة باللسان، ولذلك كان علاج اللسان متوقفا على علاج مصادر الخبث التي تمده؛ فإن لم تعالج بقي الداء العضال.
ولذلك لا تنفع الحصيات التي توضع في الأفواه، ولا تكميمها؛ فإن ذلك لا يسد أبواب الشر، وإنما يستر بعض روائحها الكريهة.
وأنا لا أستطيع أن أوافقك أو أوافق أحدا من الناس على رياضة لم يأت بها الشرع، ولم يدل عليها الدليل؛ ونحن لم نطالب بالصمت المطبق، ولا بتكميم الأفواه، وإنما طولبنا بأن نعبد الله بالكلام الطيب، والذكر الكثير، وعدم السكوت عن المنكر.
والعلاج الأجدى من ذلك هو تأمل ما ورد في النصوص المقدسة، والاستفادة منها في تطهير الألسن، وتربيتها وإصلاحها، حتى تكون أداة للتزكية والترقية، لا للتدنيس والانتكاسة.
وسأصف لك ـ بحسب طلبك أيها المريد الصادق ـ علاجين، إن أنت أدمنت على استعمالهما، شفى الله لسانك، وطهره، وجعله سلمك الذي ترتقي به في معارج الكمال.
العلاج المعرفي:
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ لإصلاح لسانك، وحماية نفسك من آثاره، أن تمتلئ تصديقا بتلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تجعل مصيرك ومستقبلك رهنا للكلمات التي تقولها؛ فتلك النصوص هي قوانين العقوبات الإلهية التي أنذر الله بها عباده، وأعلمهم إياها، والقانون لا يحمي المغفلين.
فإياك أن تسمع لأولئك الذين يهونون من تلك النصوص، أو يكذبونها، أو يحقرونها، فإن ذلك أماني تمنوها، وليس لهم عليها دليل من كتاب، ولا برهان من عقل، وقد قال الله تعالى مخبرا عن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا اني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) ([5])
ولذلك لا تدع أقوال نبيك صلى الله عليه وآله وسلم التي يربيك بها، ويزكيك، ويعلمك الكتاب والحكمة، وتذهب لأولئك المشاغبين المجادلين فيها، الذين راحوا يستثمرون ما دس الكذبة فيها، ليرموها جميعا من غير تحقيق، ولا دراسة، وإنما هو الكسل الذي دعاهم إلى ذلك.
فلو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ تلك الوصايا والأحاديث النبوية لعلمت عظم خطر اللسان عليك، وعلى حقيقتك، وعلى مستقبلك، وعلى علاقتك مع الله، وعلاقتك مع خلقه.
وقد ورد في الحديث أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل آمنت بالله ثمّ استقم)، قال: فما أتّقي؟ فأومأ صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى لسانه)([6])
وسأله آخر: (ما النجاة؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)([7])
وسأله آخر: (أنؤاخذ بما نقول؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثكلتك أمّك، وهل يكبّ الناس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم) ([8])
وسأله آخر: (ما أكثر ما يدخل النّاس الجنّة)، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النّار، فقال: (الأجوفان: الفم والفرج)([9])
وقال له آخر: (يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلسانه، ثمّ قال: (هذا)([10])
وكان يقول لهم، ولكل الأجيال: (من يتكفّل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفّل له بالجنّة)([11])
ويقول: (من وقي شرّ قبقبه وذبذبه ولقلقه([12]) فقد وقي)([13])
وقد سبق أن ذكرت لك حديث ذلك الرجل الذي دخل النار بسبب كلمة قالها لأخيه يتألى فيها على الله، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) ([14])
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يمكن أن يستقيم القلب حتى يستقيم اللسان، فقال: (لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنّة رجل لا يأمن جاره بوائقه)([15])
وعبر الإمام عليّ عن هذا المعنى، فقال: (اللّسان قوام البدن، فإذا استقام اللّسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللّسان لم تقم له جارحة)([16])
وهو دليل على أن الاستقامة تحتاج إلى الطرفين: القلب والجوارح.. وأن المستقيم هو الذي يزكيهما جميعا؛ فيستعين بإصلاح قلبه على إصلاح لسانه، وبإصلاح لسانه على إصلاح قلبه.
ولهذا ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصمت وحسن الخلق، فقال: (أنا زعيم ببيت في ربض([17]) الجنّة لمن ترك المراء وإن كان محقّا، وببيت في وسط الجنّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنّة لمن حسن خلقه)([18])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)([19])، وفي ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه الثلاثة دليل على أنه لا يمكن إكرام الجار، ولا الضيف من دون التحكم في اللسان.
العلاج السلوكي:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعزمت على أن تتحكم في لسانك، فعليك بكثرة الصمت، فـ (من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار) ([20])
ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن السلامة في الصمت عما حرم الله، فقال: (من كفّ لسانه ستر الله عورته، ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره)([21])
وقال: (إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلّها تستكفي اللّسان أي تقول اتق الله فينا فإنّك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا)([22])
وروي عن ابن مسعود أنّه كان على الصفا يلبّي، ويقول: (يا لسان قل خيرا تغنم، أو اصمت تسلم من قبل أن تندم)، فقيل له: يا أبا عبد الرّحمن أهذا شيء تقوله، أو شيء سمعته؟ قال: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إنّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)([23])
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة مختصرة يسهل حفظها لذلك، فقال: (من صمت نجا)([24])، و قال: (من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت)([25])
وقد قال الشاعر معبرا عن هذه المعاني:
عوّد لسانك قلّة اللّفظ … واحفظ كلامك أيّما حفظ
إيّاك أن تعظ الرّجال وقد … أصبحت محتاجا إلى الوعظ
وقال آخر:
من لزم الصّمت اكتسى هيبة … تخفي على النّاس مساويه
لسان من يعقل في قلبه … وقلب من يجهل في فيه
وقال آخر:
عجبت لإدلال العييّ بنفسه … وصمت الّذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصّمت ستر للعييّ وإنّما … صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما
ثم عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تراعي في لسانك ما تراعيه في سائر جوارحك، من عدم تحريكه إلا وفق ما ضبطته به الشريعة الحكيمة؛ فلا تتكلم إلا حيث ترى الكلام نافعا، وما عدا ذلك انشغل بالصمت إلا عن ذكر الله.
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة لذلك، فقال: (كلّ كلام ابن آدم عليه لا له إلّا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)([26])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإنّ أبعد النّاس من الله القلب القاسي)([27])
ولذلك ابتعد ـ أيها المريد الصادق ـ عن فضول الكلام وحشوه، وما لا حاجة لك فيه؛ فقد يدفعك الشيطان إلى أن تتكلم ببعض الخير، ثم يزينه لك، ثم يملي عليك حينها كل ما يريده، فلذلك إن أديت مقصودك بكلمة واحدة فاكتف بها، ولا تتبعها بالثانية، فقد تحبط كل ما ذكرته في الأولى.
وقد قال بعض الحكماء في هذا: (إنّ من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو نطقا بحاجتك في معيشتك الّتي لا بدّ لك منها، أتنكرون {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ } [الانفطار: 10، 11] { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 17، 18]، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته الّتي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه)
وقال آخر: (إنّ الرّجل ليكلّمني بالكلام لجوابه أشهى إليّ من الماء البارد على الظمآن، فأترك جوابه خيفة أن يكون فضولا)
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله)([28])
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم لأجل ذلك ينهى المبالغة في الكلام والتقعر فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: : (إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون)، قالوا: يا رسول اللّه قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون. فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبّرون)، وقال: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام) ([29])
ثم إن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تراعي في كلامك مشاعر غيرك؛ فلا تجرحها، ولا تحرجهم، ولا تؤذهم، فإن أعظم وسائل الشيطان للإذية والتفريق اللسان، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا. فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيل وقال([30]) وكثرة السّؤال([31]) وإضاعة المال)([32])، وربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه جميعا باللسان دليل على دوره العظيم فيها.
وفي حديث آخر سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (الصّلاة على ميقاتها) قيل: ثمّ ما ذا يا رسول الله؟ قال: (أن يسلم النّاس من لسانك)([33])
وفي حديث آخر سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ما الإسلام؟. قال: (أن يسلم قلبك لله عزّ وجلّ، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك)([34])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلب وصيته: (تملك يدك)، فقال: فما ذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: (تملك لسانك)، قال: فما ذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: (لا تبسط يدك إلّا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلّا معروفا)([35])
وأول ما يعينك على ذلك كله ألا تتكلف ما لا يعنيك، أو تبحث عما لا ينفعك، وقد قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102]
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)([36])
ولهذا ورد في أوصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان (يكثر الذّكر، ويقلّ اللّغو، ويطيل الصّلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة)([37])
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تخوض في الباطل، أو تسعى لإرضاء جلسائك بإسخاط الله، فأنت مكلف بإرضاء الله، لا بإرضاء خلقه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أنّها تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أنّها تبلغ به ما بلغت فكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة)([38])
وتحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أولئك الذين يريدون أن يظهروا للناس بصورة الظرفاء خفيفي الدم، ولو في معصية الله، فقال: (إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى بها أبعد من الثريّا)([39])
ولهذا كان بعض الصالحين يمر بالمجالس، فيسمع خوضهم في الباطل، فيقول لهم: (توضّؤوا فإنّ بعض ما تقولون شرّ من الحدث)
وعليك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن تستفيد من كل ما ذكره الحكماء وتلاميذ النبوة في كيفية حفظ اللسان، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فالحكمة ضالة المؤمن، وأين وجدها، فهو أحق بها.
ومن تلك الحكم ما عبر عنه ابن عبّاس بقوله ـ ملخصا موارد الكلام الطيب ـ: (خمس لهنّ أحبّ إليّ من الدّهم الموقوفة([40]): لا تتكلّم فيما لا يعنيك؛ فإنّه فضل، ولا آمن عليك الوزر.. ولا تتكلّم فيما يعنيك حتّى تجد له موضعا، فإنّه ربّ متكلّم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه فعنت.. ولا تمار حليما ولا سفيها؛ فإنّ الحليم يقليك، والسّفيه يؤذيك.. واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، وأعفه ممّا تحبّ أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحبّ أن يعاملك به.. واعمل عمل رجل يعلم أنّه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام)([41])
وقال آخر: (لا خير في الكلام إلّا في تسع: تهليل، وتكبير، وتسبيح، وتحميد، وسؤالك عن الخير، وتعوّذك من الشّرّ، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن)([42]).
وقال آخر: (المؤمن إذا أراد أن يتكلّم نظر، فإن كان كلامه له تكلّم، وإن كان عليه أمسك عنه، والفاجر إنّما لسانه رسلا رسلا([43]))([44]).
وقال آخر: (إذا كان المرء يحدّث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت، وإن كان ساكتا فأعجبه السّكوت فليتحدّث)([45]).
وقال آخر: (اجتمع أربعة ملوك، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت، ولا أندم على ما لم أقل، وقال آخر: إنّي إذا تكلّمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلّم بها ملكتها ولم تملكني، وقال ثالث: عجبت للمتكلّم إن رجعت عليه كلمته ضرّته، وإن لم ترجع لم تنفعه. وقال الرّابع: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منّي على ردّ ما قلت)([46])
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ في حفظ لسانك، وأنا أعلم أنك ستسألني عن بعض
التفاصيل المرتبطة بما ورد في النصوص المقدسة من الأحكام المرتبطة باللسان؛ فلذلك
اكتفيت في هذه الرسالة بدعوتك لحفظ لسانك في كل محل اشتبه عليك أمره، فأن تخطئ
بالصمت، خير من أن تخطئ بالكلام؛ فالكلام مثل السهام، إذا خرجت من القوس لا يمكن
ردها.
([1]) رواه ابن أبي الدنيا.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه البخاري ومسلم.
([4]) حلية الأولياء، لأبي نعيم، 10/63.
([5]) رواه أبو داود: 4604.
([6]) ابن ماجه، 3972.
([7]) الترمذي ج 9 ص 247 وقال: هذا حديث حسن.
([8]) الترمذي (2616) والنسائي (3/ 13)، وابن ماجة (3973)
([9]) ابن ماجه، 4246.
([10]) الترمذي ج 9 ص 249 والدارمي ج 2 ص 299.
([11]) البخاري والترمذي ج 9 ص 248.
([12]) القبقب البطن، والذبذب الفرج، واللّقلق اللّسان.
([13]) البيهقي في الشعب.
([14]) أبو داود (4/275)
([15]) رواه أحمد وابن أبي الدنيا في الصمت، الترغيب والترهيب ج 3 ص 528.
([16]) الصمت لابن أبي الدنيا (249)
([17]) ربض الجنة: ما حول الجنة خارجا عنها تشبيها بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع، (وهو ما يعرف الآن بضواحي المدن)
([18]) أبو داود 4(4800) والترمذي(1993) وقال: حديث حسن.
([19]) البخاري [فتح الباري]، 10(6018)، ومسلم (47)
([20]) وسائل الشيعة: 12 / 187.
([21]) ابن أبي الدنيا في الصمت.
([22]) الترمذي ج 9 ص 247 ..
([23]) ابن أبي الدنيا في الصمت والبيهقي في الشعب، الترغيب ج 3 ص 534.
([24]) الترمذي(2503)
([25]) ابن أبي الدنيا في الصمت وأبو الشيخ في فضائل الاعمال وغيرهما، الترغيب ج 3 ص 536.
([26]) رواه الترمذي(2412) وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجة(3974)
([27]) الترمذي(2411) وقال: هذا حديث حسن غريب.
([28]) رواه ابن شعبة في التحف ص 30 والبيهقي، الدر المنثور ج 2 ص 221.
([29]) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب.
([30]) قيل وقال: هو الخوض في أخبار الناس.
([31]) كثرة السؤال: المراد به التنطع في المسائل والإكثار من السؤال عما لا يقع ولا تدعو إليه الحاجة.
([32]) مسلم(1715) وبعضه عند البخاري 9(5975)
([33]) رواه الطبراني وصدره في الصحيحين، الترغيب والترهيب(3/ 523)
([34]) رواه أحمد(4/ 114)
([35]) رواه ابن أبي الدنيا. والطبراني والبيهقي، الترغيب والترهيب(3/ 530)
([36]) مالك في الموطأ (2/ 903) والترمذي(2317) وقال: هذا حديث غريب.
([37]) النسائي(3/ 109)
([38]) ابن ماجه في حديث، 3969 ، وأحمد ج 3 ص 469.
([39]) البغوي في المصابيح ج 2 ص 153 ، وابن أبي الدنيا.
([40]) الدهم الموقفة: أي من الخيل الدهم التي أوقفت وأعدّت للركوب..
([41]) إحياء علوم الدين للغزالي(3/ 122)
([42]) الصمت لابن أبي الدنيا(246)
([43]) رسلا: ليّنا مسترخيا لا تؤدة فيه.
([44]) الصمت لابن أبي الدنيا(247)
([45]) المرجع السابق(252)
([46]) إحياء علوم الدين(3/ 133)