السخرية والاستهزاء

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن السخرية والاستهزاء، والمنابع التي ينبعان منها، والثمار التي يثمرانها، وسر تلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تتحدث عنهما، وكيفية علاجهما.
وغيرها من أسئلتك الكثيرة الوجيهة التي لا يمكن لمريد طريق الله أن يزكي نفسه من دون أن يعلم علمها، ليسلك السبل التي تطهر نفسه منها.. فالله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب، وطاهر لا يقبل إلا الطاهر.
وقد أحسنت ـ أيها المريد الصادق ـ بإشارتك للنصوص المقدسة، واهتمامها الكبير بهذا الجانب، وهو ما يدعونا إلى إعطاءه حقه من الاهتمام؛ فهي مقدسة في حروفها وكلماتها، كما أنها مقدسة في كل الجوانب التي تعرضت لها، وفي المدى الذي تعرضت لها فيه.
ولذلك تعامل معها الحكماء والصالحون باعتبارها موجهة لكل الأجيال، وليست خاصة بجيل دون جيل، وهي إن تحدثت عن قوم من الأقوام الهالكين لم تقصدهم فقط، وإنما قصدت التحذير من أفعالهم، وبيان السنن التي جرت عليهم، والقوانين الإلهية التي نفذت أحكامها فيهم، حتى تكون عبرة للمعتبرين.
وقبل أن أحدثك ـ أيها المريد الصادق ـ عنهما، وعن منابعهما، والنصوص المقدسة الواردة فيهما، أنبهك إلى ما كنت نبهتك إليه سابقا، وهو أن تطلب الحقائق من خلال المعاني، لا من خلال الألفاظ، ولذلك لا ينبغي أن تهتم كثيرا بهذه الألفاظ، وهل هي مترادفة أم لكل منها معناه الخاص، وعن ذلك المعنى الخاص([1]).. فقد ورد الخلاف في ذلك جميعا.. لكنهم لم يختلفوا في المعاني، وهي المرادة المقصودة؛ فضع كل اهتمامك فيها، واجعل كل همتك لها.
ولتفهم المعاني المرتبطة بهما، ومن خلالهما يمكنك أن تعرف معناهما، أو معنى كل واحد منهما، فاقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]، فهذه الآية الكريمة تشير إلى المنابع التي ينبع منها الاستهزاء والسخرية والتهكم والتحقير وغيرها من المثالب.. ذلك أنها عقبت بقوله تعالى: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]
فالآيتان الكريمتان تشيران إلى أن ذلك التحقير والاستهزاء، وما ينتج عنهما من سخرية وهجاء وتهكم وغيرها، تنبع من اعتقادهم بأن الإسلام دين السفهاء، لا دين العقلاء.. وبذلك كان لرؤيتهم أثرها في نفوسهم وسلوكهم ومواقفهم.
ولتفهم ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ تخيل أنك أمام مهرج يضحك الناس، فأنت تنظر إلى تصرفاته باعتبارها تصرفات هزلية لا تؤخذ مأخذ الجد، ولذلك لا تعطيها أي قيمة، بل تكتفي بالضحك عليها، وتسلية النفس بها.
وهكذا فعل المستهزئون والساخرون بالرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فقد نظروا إليهم بكل احتقار، وتعاملوا معهم بكل ما يثمره ذلك من تصرفات.
ولذلك قرن الله تعالى المستهزئين باللاعبين والعابثين، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، ثم ذكر بعض مظاهر ذلك، فقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]
فهؤلاء العابثين لم ينظروا إلى الصلاة باعتبارها وسيلة التقرب إلى الله، فيستعينوا بها على أنفسهم وتزكيتها وتطهيرها، وإنما نظروا إليها باعتبارها مجرد تسلية ولعبة مثل سائر اللعب التي يضيعون فيها أوقاتهم.
وقد نعتهم الله لذلك بكونهم [لا يعقلون]، وهي تدل على المنبع الذي صدر منه ذلك الاستهزاء، وهو عدم استعمال العقل.. وهم يشبهون في ذلك التلميذ الكسول الذي يتهكم على الأستاذ حين يشرح دروسه، ويتسلى مع أمثاله من المشاغبين بها، دون أن يعطيها حقها من الفهم والاستيعاب، ولذلك لا يتمكن من فهمها، ولا استيعابها.
فالشرط الأول للفهم والاستيعاب وإدراك الحقائق هو التعامل معها بجدية، فلا يمكن لغير الجاد، أن يفهم شيئا، أو يدرك أي حقيقة.
وهذا هو الفرق بين الحكماء والعلماء وغيرهم؛ فالحكماء والعلماء ينظرون إلى الظواهر بجدية واهتمام، ولذلك يبحثون فيها إلى أن تدلهم على الحقائق المختفية وراءها، بخلاف الذين لا يعملون عقولهم، والذين ينظرون إلى الأشياء نظرة قاصرة محدودة، ولذلك لا يستفيدون منها إلا قليلا.
وإن شئت مثلا على ذلك، فاقرأ قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]
فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن المؤمنين يهتمون بكل ما ورد في النصوص المقدسة من حقائق، حتى لو تعلقت بذبابة أو بعوضة أو عنكبوت أو نملة أو نحلة، لأنهم يعبرون منها إلى غيرها.. أما أصحاب العقول الصغيرة؛ فيتركون العبور، ويكتفون بالحروف يرددونها، ويسخرون منها.
وقد ذكر الله تعالى مثالا لذلك ببني إسرائيل حين أمرهم موسى عليه السلام بذبح البقرة، وبدل أن ينظروا إليه كنبي معصوم يتلقى وحي الله، ويستحيل عليه أن يكذب أو يعبث، راحوا ينظرون إليه نظرة أخرى، تنبع من عقولهم الصغيرة التي تعودت أن ترى كل شيء بصورة اللاعب العابث، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [البقرة: 67]
ولذلك بدل أن يسرعوا لتطبيق الأمر الإلهي، ويختاروا أي بقرة، راحوا يسألون، ويعبثون في أسئلتهم.. وقد شاء الله أن يمدهم في ذلك بما تشتهيه أنفسهم، وبدل أن يكون تكليفهم بسيطا محدودا صار ثقيلا مكلفا.
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ مثالا يقرب لك هذا، ويبسّطه، فاذكر قصة نيوتن مع التفاحة، والتي جلب انتباهه سقوطها إلى الأرض، وعدم سقوطها في جهة أخرى غير جهة الأرض، وقد أوحى له ذلك الاهتمام وعدم التحقير إلى تساؤلات كثيرة جرته الإجابة عليها إلى اكتشاف قوانين الجاذبية، وقوانين أخرى ساهمت في نشأة الفيزياء المرتبطة بنيوتن وتفاحته، وكان لذلك كله أثره في الثورة الصناعية الكبرى، والتي استطاعت بعد ذلك كله أن تخرج أوروبا من عصور التخلف لتزج بها في عصر النهضة الحديثة .. ولا تزال أوروبا والعالم أجمع ينعمان ببركات تفاحة نيوتن إلى يوم الناس هذا.
هذا كله من بركات التعامل بجدية مع تفاحة سقطت إلى الأرض.. فكيف بالتعامل الجاد مع الأنبياء والمرسلين وحقائق الوجود الكبرى.
ولذلك أمر الله تعالى بأخذ الكتاب بقوة، قال تعالى مخاطبا يحي عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]
وقال مخاطبا موسى عليه السلام: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [الأعراف: 145]
وأمر بني إسرائيل بأن يأخذوا الكتاب بقوة، فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]
لكنهم لم يفعلوا، لأنهم كانوا ينظرون إلى الدين باعتباره مجرد تسلية، ولذلك أخبر الله تعالى عن ذلك الدين الجديد الذي ابتدعوه لأنفسهم بعد غياب موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} [الأعراف: 148، 149]
ومثلهم أولئك المشركون الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، بينما لم يكن دينهم سوى ذلك العبث الذي كانوا يمارسونه عند المسجد الحرام، قال تعالى: { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المنبع الأكبر للسخرية والاستهزاء والتحقير وغيرها هي توهم النفس أنها مركز الحقائق والقيم وأنها وحدها من يعطي للأشياء قيمها ومقاديرها.. لذلك تعظم ما تشاء، وتحقر ما تشاء.. وتكرم من تشاء.. وتسخر بمن تشاء .. من دون أي ضابط عقلي صحيح.
ويمكنك أن تفهم هذا المعنى من خلال الآية الكريمة التي نهت عن السخرية، والتي يقول الله تعالى فيها: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
فهذه الآية الكريمة لا تكتفي بتحريم السخرية وتوابعها وثمارها، بل تضم إلى ذلك المنبع النفسي لها، وهو توهم الساخر أنه خير من الذي يسخر منه، وبذلك يتيح لنفسه أن يحتقره ويستهزئ به وباسمه ولقبه، ليجعله مادة للضحك والتسلية.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الاستهزاء والسخرية قد يرتبط بالأشخاص والطوائف، أو بالحقائق والقيم، وقد يمتد إلى أي شيء في الكون، كما قال بعض الحكماء: (لا تحتقر أحدا ولا شيئا من خلق الله، فإن الله ما احتقره حين خلقه)
ولهذا ذكر الله تعالى الكلب عند ذكره لأهل الكهف، وذكر الحمار عند ذكره لعزير.. وذكر حديث النملة والهدهد وغيرها من الحيوانات التي سخر المشركون من ذكر القرآن الكريم لها.. وهو دليل على عدم معرفتهم بالله.. وإلا فإن كل شيء بالنسبة لله تعالى واحد.. فخلق السموات والأرض مثل خلق نملة وبعوضة.. كلها بأمر واحد، كما قال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر: 50]
ولهذا، فإن أولئك الملاحدة الذين يحتقرون الأديان، ويسخرون من المتدينين، ويذكرون لهم أثناء سخريتهم سعة الكون، وكون الأرض لا تساوي بالنسبة له شيئا، وأنها أقل من أن تكون محل عناية إلهية.. لا يعرفون الله، ولا يعرفون أن المبدع العظيم لا يتخلى عن أي جزء في كونه، ولو كان صغيرا.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأورده لك من الأدوية التي تجعلك تنظر إلى الكون والأشياء والخلق والحقائق نظرة أخرى، مملوءة بالتقدير، لتضع كل شيء في محله الصحيح، وحينها لن تقع في هذا المثلب الخطير، ولا المثالب التي تتولد عنه.
العلاج المعرفي:
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ لحماية نفسك من الاستهزاء والسخرية والتحقير وكل ما يتولد عنها من جرائم هو أن تعلم أن مقادير الأشياء وحقائقها ومآلاتها بيد الله، لا بيدك..
وحين تنظر إلى الأشياء بهذا الاعتبار تصبح هينا لينا.. حتى عند سيرك على تراب الأرض، تخفف الوطء، ولا تسير مستكبرا ولا مستعليا عليه، لأن الذين استعلوا عليه صاروا يتمنون أن يكونوا مثله، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]
ولهذا وصف الله تعالى المؤمنين بالهون والتواضع عند سيرهم، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، ونهى عن ذلك المرح الذي يبديه المستكبرون المختالون، فقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]
وهكذا، فإن المؤمن لا يحتقر شيئا من خلق الله، بل يتواضع له، ويتأدب بآداب العبودية بين يديه، وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (البلاء موكّل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا)([2]) ، وقال آخر: (لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الّذي صنع)
وروي عن بعض الصالحين ـ وقد كان من الفقهاء والعلماء ـ أنه بينما كان يمشي في يوم شات كثير الطين، فاستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها، فقال من رآه: رأيت الشيخ قد لصق بالحائط وعمل للكلب طريقا و وقف ينتظره ليجوز، فلما قرب منه الكلب ترك مكانه الذي كان فيه و نزل أسفل و ترك الكلب يمشي فوقه، قال: فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته و عليه كآبة، فقلت له: يا سيدي رأيتك الآن صنعت شيئا استغربته، كيف رميت بنفسك في الطين، و تركت الكلب يمشي في الموضع النقي؟ فقال لي: (بعد أن عملت له طريقا تفكرت، و قلت: ترفعت على الكلب، و جعلت نفسي أرفع منه، بل هو و اللّه أرفع مني و أولى بالكرامة، لأني عصيت اللّه تعالى و أنا كثير الذنوب و الكلب لا ذنب له، فنزلت له عن موضعي و تركته يمشي عليه، و أنا الآن أخاف من اللّه ألا يعفو عني، لأني رفعت نفسي على من هو خير مني) ([3])
وما فعله هذا الصالح يدلك على الطريق الذي تتخلص به من كل تحقير لغيرك.. فهذا الكلب، وإن كان في مرتبة أدنى من الإنسان، لكنه ليس كذلك بالنسبة لكل الناس، فالذي لم يتحقق بإنسانيته، ولم يطع الله تعالى، ولم يلتزم حدوده، سيكون الكلب في مرتبة أعلى منه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]
ولهذا، فإن الصادق مع نفسه، الذي يعلم أنه لا يمكنه أن يعرف مصيره ما دام في هذه الدنيا، يتعرض لاختباراتها، ولا يعرف مرتبته عند الله، وهل هو من المرضي عنهم، أم من المغضوب عليهم، وهل سيصير إلى الجنة أم إلى النار.. يبقى دائما محتاطا خائفا حذرا، ولهذا يتواضع لكل شيء.. لأنه يخاف أن يحتقر شيئا، ثم يكون يوم القيامة فوقه.
ولهذا أخبر الله تعالى عن أولئك الذين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا، أو من بعضهم، ويتوهمون أنهم في النار، لكنهم يفاجؤون أنهم في الجنة، وأن النار التي كانوا يتوعدون بها غيرهم، صارت منزلهم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } [ص: 62، 63]
وقال حاكيا عن أساليب السخرية والاحتقار التي كانوا يمارسونها معهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} [المطففين: 29 – 33]
وفي نفس الوقت ذكر أولئك المؤمنين الذين تعرضوا لكل ألوان السخرية والاستهزاء في الدنيا، وكيف أنهم {مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 34 – 36]
ولهذا خاطب نوح عليه السلام قومه الذين كانوا يسخرون من صنعه للسفينة، ويقول لهم: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [هود: 38، 39]
ولم يكن نوح عليه السلام وحده من سخر به، بل إن الله تعالى أخبر أن المناوئين للأنبياء جميعا اتخذوا السخرية والاستهزاء أسلوبهم في التعامل معهم، وهو ما حرمهم من الاستفادة منهم، أو تقليب النظر فيما يدعونهم إليه، قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس: 30]، وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 10، 11]
وأخبر أن تلك السخرية هي التي طبعت على قلوبهم، وحالت بينهم وبين رؤية الحق، أو اتباعه، قال تعالى:{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [الحجر: 12 – 15]، وقال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 41، 42]
ولهذا كان جزاء الساخر والمستهزئ أن يعامل بمثل معاملته، كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 14، 15]
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ المستهزئين بالنّاس يفتح لأحدهم باب إلى الجنّة، فيقال لهم: هلمّ؛ فيجيء بكربه وغمّه، فإذا جاءه أغلق دونه فلا يزال كذلك حتّى إنّ أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنّة فيقال له: هلمّ فلا يأتيه من الإياس) ([4])
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن هذا النوع من العقوبة قد يتحقق في الدنيا قبل الآخرة، فقال: (لا تظهر الشّماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك)([5])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتّى يعمله) ([6])
وقد قال الشّاعر معبرا عن هذا المعنى:
إذا ما الدّهر جرّ على أناس … كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشّامتين بنا أفيقوا … سيلقى الشّامتون كما لقينا
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فضع نفسك دائما موضع اختبار، وحاسبها قبل أن تحاسب.. واعلم أن الله قد يبتليك في أي لحظة بأضعف مخلوقاته، وأحقرهم في عينك، ليرى حقيقتك، مثلما فعل مع الشيطان حين اختبره بالطين التي كان يتوهم أنه أفضل منها.
وتذكر دائما ما قاله إمامك الإمام علي، فقد قال: (إن الله أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئا من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئا من معصيته، فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئا من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن عبدا من عبيد الله، فربما يكون وليه وأنت لا تعلم) ([7])
تأمل ـ أيها المريد الصادق ـ ففيها كل الأدوية التي تحفظ قلبك من الوقوع في هذا المثلب الخطير.. فهو ينبهك إلى أن الله تعالى أخفى رضاه في شريعته.. ولذلك لا تحقر، ولا تستصغر أي حكم من أحكامها، أو قيمة من قيمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّة تمرة فبكلمة طيّبة) ([8])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثمّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثّرى من العطش فقال الرّجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الّذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفّة ثمّ أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)، قالوا: يا رسول الله، وإنّ لنا في البهائم أجرا؟، فقال: (في كلّ ذات كبد رطبة أجر) ([9])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تلقّت الملائكة روح رجل ممّن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئا؟ قال: لا. قالوا: تذكّر. قال: كنت أداين النّاس فامر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوّزوا عن الموسر. قال: قال الله عزّ وجلّ: تجوّزوا عنه) ([10])
ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن احتقار أي عمل صالح، فقال: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) ([11])، وفي رواية: (ولا تحقرنّ شيئا من المعروف، وأن تكلّم أخاك، وأنت منبسط إليه وجهك إنّ ذلك من المعروف) ([12])
وقال مخاطبا النساء: (يا نساء المسلمات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ([13])
وقال ـ جامعا بين المحتقرات من الأعمال الصالحة، وغيرها ـ: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) ([14])
وأخبر عن الأعمال السيئة، وكيف يدخل الشيطان من خلال احتقارها والاستهانة بها ليخرب كل ما بناه الإنسان، فقال: (ألا وإنّ الشّيطان قد أيس من أن يعبد في بلادكم هذه أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به) ([15])، وهو لا يرضى به إلا لأنه يعلم أنه يمكن أن يؤثر في الإنسان من خلاله.
وتعاملك ـ أيها المريد الصادق ـ مع الطاعات والمعاصي بهذه المعايير النبوية، يدعوك إلى التعامل مع الخلق بها أيضا.. فأنت مطالب معهم بإقامة شريعة ربك، ونصيحتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولست مطالبا بالحكم عليهم، فقد يكون وعي أولئك الذين تعلمهم وتوجههم أفضل من وعيك، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بلغوا عني ولا تكذبوا فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ([16])
وتذكر ـ أيها المريد الصادق ـ قصة السحرة، ولا تغفل عنها أبدا، فالله ما كرر ذكرها في القرآن الكريم إلا لتعتبر بها.. فأولئك السحرة الذين قضوا عمرهم في خدمة فرعون والشرك بالله تحولوا بين عشية وضحاها إلى أولياء صادقين، وماتوا شهداء بين يدي نبيهم، في نفس الوقت الذي تحول فيه بلعم بن باعوراء ذلك العالم الذي انسلخ من آيات الله، فتحول إلى كلب يلهث.
العلاج السلوكي:
إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فالتزم أحكام ربك في التعامل مع الأشياء والأكوان والخلق، ولا تتجاوزها، فإذا عظمت شيئا عظمته باسم الله، وإذا حقرته حقرته باسم الله، لا باسمك.. حتى إذا ذبحت الذبيحة، فاذبحها، وأنت مطأطئ الرأس معتذرا لها، بأنك لم تفعل ذلك إلا باسم الله، وبإذنه.. حتى لا تكون مجرما بذبحك لها، معتقدا أنك أفضل منها، وأن عليها أن تسلم لحمها لك لتأكلها.
وهكذا .. إياك أن تكون من أهل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 1 – 9]
فما ورد في هذه السورة الكريمة من العقاب الشديد ليس مرتبطا بالأخنس بن شريق، أو غيره من المشركين الذين كانوا يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما هو عام لكل من يعيب الخلق، ويتخذهم مادة للتسلية والعبث.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسمي أحدا بغير الاسم الذي اختاره لنفسه، وتسخر منه بذلك، فقد ورد التحذير الشديد من ذلك، كما قال تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11]
واسمع لرسولك صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يحذرك من احتقار المسلم، فيقول: (المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم) ([17])
ونهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن احتقار المسلم لا يعني إباحة احتقار غيره، فالمسلم مطالب بأن يحترم جميع خلق الله، ويؤلف قلوبهم، ويتعامل معهم بما يقتضيه التواضع والعبودية.
وتخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلم بذلك مرتبط بخطابه للمجتمع المسلم، وكأنه يقول لهم: كيف تجيزون لأنفسكم احتقار من لا يشاركهم في الإنسانية فقط، وإنما يشارككم في الإسلام أيضا؟
ولهذا عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسائله إلى الملوك والأمراء غير المسلمين خاطبهم بكل لطف، وقد قال في رسالته إلى ملك الروم،: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ([4]) (1)
انظر كيف خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملك الروم، وبذلك الأدب واللطف، وقد سماه عظيم الروم، ولم يسمه كلبهم، كما فعل أولئك المحرفون المبدلون الذين راحوا يستحلون أعراض غيرهم، بحجة كونهم غير مسلمين.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تحاكي أحدا من خلق الله تسخر منه بذلك، وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة عندما وصفت إحدى النساء بالقصر: (يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته)، وقالت: وحكيت له إنساناً ـ أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك ـ فقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) ([18])
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحفظها،
وتأدب بآداب العبودية، فهي وحدها من يحميك من هذا المثلب الخطير الذي قد تبتلى به
من حيث لا تشعر.. فكن حذرا، والتزم التقوى، واستعن بالله ليحميك منه، وإياك أن
تبادل من سخر منك أو استهزأ بك بمثل معاملته، فتستحلي نفسك ذلك، فيترسخ هذا الخلق
فيك، ويصعب عليك بعدها التخلص منه.
([1]) الخلاف في السّخرية والاستهزاء والفرق بينهما، مثل الخلاف في الإسلام والإيمان والفرق بينهما، ولذلك ذهب الكثير إلى أن السخرية والاستهزاء معناهما واحد [انظر مثلا: الصحاح للجوهري( 1/ 83) حيث فسر الاستهزاء بالسخرية، و غذاء الألباب للسفاريني 1/ 131] وعلى ذلك فسّر كثيرون: السّخرية بالاستهزاء [انظر مثلا، تفسير ابن كثير 4/ 4 حيث فسر يستسخرون ب« يستهزئون»]، لكن هناك من وجود فرق بينهما، ويتمثّل في أنّ الهزء: هو إظهار الجدّ وإخفاء الهزل فيه [التوقيف على مهمات التعاريف ص 343]، أمّا السّخرية فإنّها تكون بالفعل أو بالإشارة، وذكروا أن هناك فرقا بينهما من جهتين: الأولى السّخرية تكون بالفعل وبالقول، والهزء لا يكون إلّا بالقول، الثّانية: أنّ السّخرية يسبقها عمل من أجله يسخر بصاحبه، أما الاستهزاء فلا يسبقه ذلك [انظر الفروق لأبي هلال العسكري ص 249]
([2]) تفسير القرطبي ج 16 ص 325 و انظر الاثر الاخير عن ابن مسعود في نزهة الفضلاء 1/ 85. و تفسير البحر المحيط 8/ 112.
([3]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ص: 470
([4]) رواه البيهقي
([5]) الترمذي (2506) وقال: هذا حديث حسن غريب.
([6]) الترمذي (2505) وقال: حسن غريب.
([7]) وسائل الشيعة: 1 / 87.
([8]) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3595)
([9]) البخاري- الفتح 10 (6009) واللفظ له، ومسلم (2244)
([10]) البخاري- الفتح 4 (7702) . ومسلم (1560)
([11]) مسلم (2626)
([12]) أبو داود (4084)
([13]) البخاري- الفتح 10 (6017) . ومسلم (1030)
([14]) مسلم (553)
([15]) الترمذي (2159) وقال: حسن صحيح. واللفظ له، ابن ماجة (3055) ، أحمد (3/ 499)
([16]) أبو داود (3660) 3/ 322، والترمذي ، (2656) 5/ 33، والدارمي (228) 1/ 86.
([17]) أبو داود (4882)، وابن ماجه (3933)، والترمذي (1927) وقال: «حديث حسن غريب»
([18]) أبو داود والترمذي.