اتباع الشهوات

اتباع الشهوات

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وسر جمع الله تعالى بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، وهل هناك علاقة بينهما؟

ومثل ذلك سألتني عن قوله تعالى: {وَالله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، وعن علاقة الانحراف باتباع الشهوات.

ثم عقبت كل أسئلتك بما ورد في النصوص المقدسة من أن حب الشهوات فطرة فُطر عليها الإنسان، وأنه لا يمكن استئصاله مطلقا، كما ورد في قوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]؛ فليس هناك في الدنيا من ينفر قلبه عن حب ما ورد في الآية الكريمة من المشتهيات، المزينة في فطرة الإنسان، والتي لا يمكن خلعها أبدا.

وقد ختمت أسئلتك بطلب حل التعارض المرتبط بين الشهوات المزينة في النفس، والتي لا يمكن التخلص منها أبدا، وبين ما ورد في النصوص المقدسة من النهي عن اتباع الشهوات، واعتبارها مثلبا من مثالب النفس الأمارة.

وجوابا على سؤالك أذكر لك ـ ابتداء ـ بأن كل ما ذكرته من الإشكالات وجيه وصحيح، ولا يمكنني، ولا لأحد من العقلاء، أن يذكر لك بأن المجاهدة في استئصال الشهوات استئصالا مطلقا مجاهدة شرعية، إلا إذا كان من الرهبان الذين قال الله تعالى فيهم: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]

أو كان من أولئك الذين خلطوا دين الله بدين الرهبان؛ فتأثروا بهم، وسلكوا سلوكهم، وتركوا الدين الإلهي الأصيل الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصار دينهم مزيجا بين شريعة الله وشريعة الأهواء.

وقد ورد في الحديث أن مثل هذا النوع من الفهم ظهر في عهد النبوة؛ فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشدة، وبين غرابته على الدين، فقد روي أن ثلاثة من الناس جاءوا إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته؛ فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: (أين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، ثم قال أحدهم: (أما أنا فأصلي الليل أبدا)، وقال الآخر: (وأنا أصوم الدهر أبدا، ولا أفطر)، وقال الآخر: (وأنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوج أبدا)، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبرهم قال لهم: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ([1])

هل سمعت ـ أيها المريد الصادق ـ كلمة أشد من هذه الكلمة، وتحذيرا أعظم من هذا التحذير، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبر ذلك التصرف مشينا أو تشددا فقط، وإنما اعتبره مخالفا لهديه، وأن الذي يفعل ذلك لا علاقة له برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا بالحنيفية السمحة التي جاء بها.

ومثل ذلك ما روي أنه بينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: (أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروه، فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) ([2])

ومثل ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل، وهو يهادى بين ابنيه، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني)، ثم أمره أن يركب([3]).

ومثل ذلك ما روي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكا له حاله، فقال: (يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، لكن ساعة وساعة) ([4])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تبين أن تهذيب النفس وتطهيرها لا علاقة له بتلك النعم التي أنعم الله بها علينا، وجعلنا نلتذ بها، ونفرح بما أهداه إلينا منها.

وكيف يكون ذلك، وقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]

ثم عقب عليها ببيان المحرمات الحقيقية، فقال: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الآيتين اللتين ذكرتهما، واللتين تعتبران اتباع الشهوات مثلبا من مثالب النفس الأمارة، لا تفهمان إلا في ضوء ما سبق من الآيات الكريمة، فالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، ولا تلغي آية منه أخرى، وكيف يكون ذلك، وهو الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 42]

وقبل أن أذكر لك تأويلهما، ووجه الجمع بينهما وبين تلك الآيات التي ذكرت أذكر لك مثالا يقرب لك ذلك.. وهو ما يفعله الطبيب عندما يصرف دواء معينا لمريض، وبدل أن يتقيد المريض بمقادير الوصفة التي وصفت له، يتجاوز المقادير المحددة، ويسرف في شرب الدواء لحلاوته ولذته.. فهل يمكن لهذا المريض أن ينجو بفعلته هذه.. أم أن الهلاك مصيره؟

وهكذا الأمر بالنسبة للشهوات التي أتيحت وأبيحت للإنسان في الدنيا؛ فهو إن تناولها برفق، وفي الحدود التي وصفت له، كان فيها نفعه وراحته وسعادته، لكنه إن أسرف فيها، وأدمن عليها، صار داؤه في دوائه، وصار حتفه في تلك اللذة الوهمية التي امتلكته، كما عبر الحكيم عن ذلك بقوله:

داؤك منك وما تبصر… دواؤك فيك وما تشعر

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريب من ذلك المثال، فقال: (إنّ ممّا أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدّنيا وزينتها)؛ فقيل له: يا رسول الله، أو يأتي الخير بالشّرّ؟ فسكت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هنيهة، ثم قال: (إنّه لا يأتي الخير بالشّرّ، وإنّ ممّا ينبت الرّبيع يقتل أو يلمّ، إلّا آكلة الخضراء، أكلت حتّى إذا امتدّت خاصرتاها استقبلت عين الشّمس فثلطت ورتعت، وإنّ هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السّبيل، وإنّ من يأخذه بغير حقّه كالّذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة) ([5])

لهذا، فإن هناك فرقا كبيرا بين ذلك الحب الفطري للشهوات المباحة، وبين اتباعها، والاستغراق في الميل إليها، لأنها ستجعل صاحبها أسيرا لها، خاضعا لمتطلباتها، ويترك كل شيء من أجلها، حتى الصلاة نفسها التي هي أساس علاقته بربه.. وذلك ما يجعله منحرفا عن حقيقته وحياته وطبيعته وأهدافه التي خلق من أجلها.

ويصبح حاله حينها حال ذلك الطفل الكسول الذي دخل الامتحان، وبدل أن يهتم بالإجابة على أسئلته راح يستغرق في الأحلام الجميلة، والألعاب الملهية إلى أن خرج من الامتحان من غير أن يجيب عن الأسئلة التي طرحت عليه، والتي كان عليها مدار نجاحه ورسوبه.. وهكذا حال من اتبعوا الشهوات، وغفلوا عن حقيقتهم، وعن الدور العظيم الذي أنيط بهم في هذه الحياة الدنيا.

لا تيأس ـ أيها المريد الصادق ـ فليس هناك داء إلا وله دواء.. فلذلك أنصحك ـ إن خفت على نفسك من أن تكون من أتباع الشهوات ـ بهذين العلاجين.

العلاج المعرفي:

أما أولهما؛ فأن تعلم أن الله تعالى ما وفر لك الشهوات في الدنيا، لتنعم بها، أو تنشغل باتباعها، وإنما خلقها لتعبر منها إليه؛ فتعلم أن لك ربا رحيما كريما لطيفا، يراعي حاجاتك بدقيقها وجليلها، ويوفرها لك كما تحتاجها بالضبط، ومن غير أن تسأله.

وحين تعلم ذلك، تخرج عن تلك القسوة التي يمارس بها أتباع الشهوات شهواتهم، حين يتعاملون معها بكل حدة، وكأنها ملك لهم، لا ملك لله تعالى.. بخلاف المؤمن الذي يمتلئ قلبه ذكرا لله، فيذكر اسمه، ويحمده، ويثني عليه عند تناولها.. ويشعر بأن الله تعالى هو الذي من عليه بها.. وبذلك تصبح دليله إلى ربه، لا حجابا بينه وبينه، كما روي عن بعض الشيوخ أنه قال لمريد له رآه يشرب الماء الساخن في الصيف الحار: (برّد الماء؛ فإن النفس إذا شربت الماد البارد؛ حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن؛ حمدت الله بكزازة)

ولذلك ذكر الله تعالى البراهين الدالة عليه في الطعام، فقال: { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 – 32]

ومثلها البراهين الدالة عليه في أصناف الثمار، فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]

وهذه المعرفة ـ أيها المريد الصادق ـ تجعل من صاحبها متعلقا بربه بعد إيمانه به، فهو يعلم أن الذي خلق هذه الشهوات في الدنيا، قادر على خلق غيرها في الآخرة، ولذلك كانت السعادة الأبدية مرتبطة بالتواصل معه، وطاعته، لا الميل عنه، أو ترك عبادته من أجل شهوات فانية..

ولذلك فإن المحب للشهوات غير الأسير لها، لن يعرض عن الصلاة، ولن يقصر فيها، وكيف يقصر فيها، وهو يعلم أنها وسيلته لاقتناص لذات الأبد، والتي لا يمكن قياس أو تشبيه أي لذة بها في جميع الدنيا.

وكيف يكون ذلك، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أدنى أهل الجنة منزلة، فقال: (أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثل له شجرة ذات ظل فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها، فقال الله تعالى: هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ قال: لا وعزتك! فقدمه الله إليها، ومثل له شجرة ذات ظل وثمر، فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها وآكل من ثمرها، فقال الله تعالى له: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك! فيقدمه الله إليها.. فيبرز له باب الجنة فيقول: أي رب! قدمني إلى باب الجنة فأكون تحت نجاف الجنة فأرى أهلها، فيقدمه الله إليها فيرى الجنة وما فيها فيقول: أي رب أدخلني الجنة! فيدخله الجنة، فإذا دخل الجنة قال: هذا لي؟ فيقول الله تعالى له: تمن! فيتمنى، ويذكره الله عز وجل: سل من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: هو لك وعشرة أمثاله) ([6])

فإذا علم محب الشهوات ذلك، لم يكتف بتلك الصلاة التي يؤديها، ولا العبادات التي يدمن عليها، وإنما يذهب إلى كل ما حرمته الشريعة عليه، ليحرمه على نفسه، حتى لا يبيع سعادة الأبد بلذات مشبوهة مملوءة بالغصص.

فإذا فعل ذلك، لم تستعبده الشهوات، وإنما تصير أسيرة بين يديه، يتناول منها ما ينفعه، ويبتعد عما يضره، ذلك أن عقله صار هو المسيطر على هواه.. وصار حاله مثل المريض صاحب الحمية، حين يكتشف أن طعاما معينا قد يؤثر في صحته، فيسرع، ويحرم نفسه منه، ويلتذ بذلك الحرمان، لأنه يعلم أن نهايته الصحة والسعادة.

وبذلك لن يكون مصداقا لتلك الآية الكريمة التي ذكرت الميل العظيم الذي يحصل لأتباع الشهوات.. ذلك أن سبب ذلك الميل العظيم هو إبعاد العقل والفطرة السليمة، وهو ما يجر إلى الانتكاسة العظيمة التي يخرج بها الإنسان عن إنسانيته، حين يذعن للشهوات ومطالبها التي لا تنتهي.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن الله تعالى ما خلق الشهوات لنتنعم بها، أو لنستدل بها عليه فقط، وإنما خلقها ليميز بين من يريدونه، ومن يريدونها، ومن يعبدونه ومن يعبدونها.. وقد ورد في الأثر الإلهي عن الله تعالى أنه قال: (خلقت الخلق فكلهم ادعوا محبتي، فخلقت الدنيا فذهب مني تسعة أعشارهم وبقي العشر، فخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين: لا الدنيا أردتم، ولا الجنة أخذتم، ولا من النار هربتم، فماذا تريدون؟! قالوا: إنك لتعلم ما نريد. فقلت لهم: فإني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي، أتصبرون؟! قالوا: إذا كنت أنت المبتلى لنا فافعل ما شئت. فهؤلاء عبادي حقاً!) ([7])

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الله تعالى وضع للشهوات حدودا ومقادير، من تجاوزها، وأدمن على ذلك التجاوز، قد يتحول عن فطرته السليمة المرتبطة بالمحبة الطبيعية للشهوات إلى الفطرة المنتكسة التي لا شغل لها سوى اللهث وراءها.

وقد أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ([8])

ولذلك كانت الحمية في أن تدع بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأثنى على فاعله، فقال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس) ([9])

وقد قال بعض الصالحين: (كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام)، وقال آخر: (إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حتى يكون حجابا بينه وبين النار) ([10])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك قد تحتاج أحيانا إلى بعض الرياضة التي تهذب بها نفسك، حتى لا تدمن على الشهوات، وتصبح أسيرة لها، كما وردت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } [البقرة: 249]

فهذه الآية الكريمة تشير إلى قوة أولئك الذين أذعنوا لقول طالوت، واستجابوا له، فلم يشربوا الماء مع حاجتهم إليه، أو اكتفوا منه بما سمح لهم به.. وقد رأى طالوت أن هؤلاء هم الذين يمكنهم الثبات في المعركة.. ذلك أن الذي لا يملك نفسه عند الماء، لا يمكنه أن يملكها عند مواجهة العدو.

ومن هذا الباب ـ أيها المريد الصادق ـ شرع لنا ربنا الصوم الذي نترك به بعض الشهوات، وندرب أنفسنا على الصبر عليها، حتى تحصل لنا التقوى الحقيقية بسبب ذلك، وقد قال تعالى مبينا مقاصد الصوم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]

ولهذا كان تأديب الله تعالى للذين تعمدوا الإفطار في رمضان رعاية لشهواتهم، بأن يصوموا شهرين متتابعين تأديبا لأنفسهم، وتهذيبا لها حتى لا تبقى أسيرة لشهواتها.

ومثل ذلك مثل صاحب الحمية الذي لا تكفيه المدد القليلة، بل يحتاج إلى الفترات الطويلة، حتى تؤتي الحمية أكلها.

ولهذا أوصيك ـ أيها المريد الصادق ـ بالدخول إلى مدرسة الصوم، فهي مدرسة وضعها الله تعالى لكل من يريد تهذيب نفسه حتى لا يصبح عبدا لشهواته.

وقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها سننا كثيرة، وذكر لنا فيها فضائل عظيمة، فاحرص عليها، والتزمها بقدر طاقتك، مع مراعاة ظروفك وأحوالك حتى لا يقعدك الصوم عن سائر الطاعات، أو يمنعك عما كلفت به من واجبات.


([1])  البخاري 7/ 2 (5063)، ومسلم 4/ 129 (1401)

([2])  البخاري 8/ 178 (6704)

([3])  أحمد (21/ 129)، وشرح معاني الآثار 3/129.

([4])  مسلم 8/ 94 (2750) (12)

([5])  البخاري- الفتح 3 (1465)، 6 (2842)

([6])  رواه أحمد.

([7])  صفة الصفوة (1/ 501)

([8])  رواه البخاري ومسلم.

([9])  رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

([10])  إحياء علوم الدين (2/ 95)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *