حب المدح

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن تلك النشوة التي اعترتك، والفرحة التي غمرتك عند سماعك لتلك الكلمات التي قيلت في الثناء عليك ومدحك، وذكرت لي أنك صرت بعدها أكثر نشاطا، وأنها جعلتك تبذل جهودا مضاعفة فوق التي كنت تبذلها.
لكنك عدت فذكرت لي بأسف كيف أثرت فيك كلمات من سميتهم أعداءك والحاقدين عليك، فجعلتك متوانيا كسولا غير قادر على القيام بأي عمل.
وأظن أنك لو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ في كلا الحالتين اللتين مرتا بك، علمت جواب سؤالك، فجوابه ليس في مطالبة الموالين بالثناء والمدح، أو مطالبة المعادين بالكف عن الهجو والقدح، وإنما مطالبة النفس بعدم الاستماع أو الاهتمام لكلا الطرفين.. المادح والقادح، والمثني والذام.. فعبوديتك لله، وحريتك، تستدعي التحرر منهما جميعا.
ذلك أنك مع كليهما لن تذوق طعم الراحة، ولن تسكن بك الحياة.. فقلوب الذين أثنيت على وفائهم وصدقهم من الذين مدحوك قد تتقلب، وترتد عليك، وتعود لتهجوك مثل الذين تعتبرهم أعداءك.
ولعلك ـ أيها المريد الصادق ـ سمعت قصة المتنبي مع صديقه القديم سيف الدولة والذي كتب القصائد الكثيرة في مدحه، لكنه لم يلبث إلا قليلا، حتى عاد لهجائه، ووصفه بالغَّدار، وهو أبشع الأوصاف وأشنعها، فقد قال فيه مخاطبا كافور في فترة صداقته له:
حببتك قلبي قبل حبك مــن نأى= وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
فإن دمــوع العين غــــــدر بربها=إذا كـــــن إثر الغادرين جواريا
ولكن بالفسطاط بحـــر أزرته=حياتي ونصحى والهوى والقوافيا
وهكذا راح يصف كافورا بكونه أبا المسك، وأنه شمس منيرة سوداء، وأنه الأكثر تجربة بين الملوك، وأنه الأستاذ الكريم الشجاع.. وأن على الملوك تبديل بياض وجهها بلون كافور الأسود، ويقول له:
كـــرم في شجـــــاعة وذكاء=في بهـــاء وقدرة في وفــــــــاء
من لبيض الملوك أن تبدل اللـون=بلــــــون الأستاذ والسحنــــاء
ويقول في قصيدة أخرى:
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت=وكان قليلا من يقول لها أقدمي
شديد ثبات الطرف والنقع واصـــل= إلى لهــوات الفـــــارس المتلثم
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها= بقلب المشــــوق المستهام المتيم
رضيت بما ترضى لي محبة=وقدت إليك النفس قود المـسلم
ومثلك من كــان الوسيط فؤاده=فكلمة عنى ولــــم أتكلم
لكنه ما لبث أن راح يهجوه بأبشع هجاء وأقذعه، حتى نسي الناس كل أشعار مدحه له، ولم يعودوا يذكرون إلا قوله له:
العبد ليس لحــــــر صالـــــح بأخ =لو أنـه في ثياب الحـــــــر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معــــــه=إن العبيــــد لأنجاس مناكيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبهـــــا=فقد بشمن وما تفنى العناقيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمـن =يسيء بي فيه عبد وهو محمود
بل إنه لم يكتف بهجاء كافور حاكم مصر وحده، وإنما راح يهجو المصريين جميعا بسبب عدم ثورتهم عليه، ويقول لهم:
ومــاذا بمصــــر من المضحكـــــات=ولكنــه ضحــــــك كالبكا
بها نبطي من أهــــــل الســــواد=يـدرس أنســـاب أهـــل الفـــلا
وأســــود مشفــــــرة نصفـــــــه=يقـال لـــه أنت بــــدر الدجى
فمـــا كــــان ذلك مـدحا لــــــه=ولكنـــــه هجـــــو الـــــورى
ومـن جهلت نفســــه قـــــــــدره=رأى غيــره منـــه مالا يـــــرى
هذا مجرد مثال ـ أيها المريد الصادق ـ عن تقلب القلوب بالمدح والهجاء، ولعلك قرأت ما ورد في السيرة النبوية المطهرة عن عبد الله بن سلام، فقد روي أنه بعد إسلامه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك)، فأدخله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال: (أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟) قالوا: (خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا)، فقال: (أرأيتم إن أسلم)، قالوا: (أعاذه الله من ذلك)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا ابن سلام اخرج إليهم)، فخرج عبد الله فقال: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه)، قالوا: (كذبت أنت شرنا وابن شرنا)، وانتقصوه، فقال عبد الله: (هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟)([1])
وقد عبر الشاعر عن هذا الواقع المؤلم للبشر، ودعا إلى عدم الركون إلى مدحهم وذمهم، فقال:
وما أحد من ألسن الناس سالما… ولو أنه ذاك النبي المطهر
فإن كان مقداما يقولون أهوج… وإن كان مفضالا يقولون مبذر
وإن كان سكيتا يقولون أبكم… وإن كان منطقيا يقولون مهذر
وإن كان صواما وبالليل قائما… يقولون زراف يرائي ويمكر
فلا تحتفل بالناس في الذم والثنا… ولا تخش غير الله فالله أكبر
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تطهر أرض قلبك من أشواك كل المادحين أو القادحين.. حتى يصبح قلبك لله وحده.. فحب المدح مثلب من مثالب النفس الأمارة التي لا يمكنك أن تسير في طريق الله قبل أن تتخلص منها.
وسأضع بين يديك علاجين يمكنك استعمالهما، لتطهير أرض نفسك من كل تلك المؤثرات التي تبعدك عن ربك وعن حقيقتك وعن سعادتك.
العلاج المعرفي:
أما الأول، فيبدأ بمعرفتك لخطر المدح، وأثره فيك، وكونه شبكة قد يصطادك بها الشيطان ليبعدك عن حقيقتك وقيمك ووظيفتك في هذه الحياة.
ذلك أن الذين مدحوك، لم يفعلوا ذلك إلا لكونك أرضيتهم، ووافقت أهواءهم، ولو أنك خالفتها لانقلبوا عليك.. ولذلك، فإن مدحهم لك غل في رقبتك يجعلك تحتاط من أن تتسبب فيما يجعلهم ينقلبون عليك.
وذلك ما يجعلك عبدا لهم، ولمدحهم؛ فلا ترى رأيا، ولا تذهب مذهبا إلا إذا علمت رضاهم عنك فيه، وهذا ما يحول بينك وبين حقيقتك ودينك وقيمك..
وهكذا التفاتك لمن ذمك أو هجاك، فهو قد يدعوك إلى ظلمهم وممارسة كل أنواع الجور عليهم، انتقاما لنفسك، وشماتة فيهم، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
بل إنه يدعونا إلى الوقوف مع الحق، ولو في مواجهة أنفسنا وأقرب المقربين إلينا، فيقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]
ولذلك كان التفاتك للمدح والذم أثره البالغ فيك وفي مواقفك التي قد تحاسب عليها عند ربك.. ذلك أنك لم تتعامل مع الحقائق بصدق وموضوعية، وإنما أدخلت فيها ذاتك، وجعلتها المعيار الذي تحدد به الصواب من الخطأ، والحق من الباطل.
ولذلك؛ فإن الصدق والعدل يدعوك ـ أيها المريد الصادق ـ إلى عدم الالتفات لما يقوله المادحون أو الذامون، فهم مهما عرفوك لن تبلغ معرفتهم بك معرفتك بنفسك..
فإن مدحوك بالكرم، وأنت بخيل، أو بالصدق وأنت كاذب، أو بالوفاء وأنت غادر.. لم يجدك ذلك عند ربك، فربك لا يسمع لما قالوا، وإنما ينظر إلى نفسك التي هي بين يديه مثل الصفحة التي كتب عليها كل شيء.. فلذلك لا تغرنك تلك الكلمات التي قيلت فيك.
وهكذا، إن ذموك بشيء ليس فيك.. فالله أكرم من أن يسمع لدعاواهم، فلذلك لا تشغل نفسك كثيرا بالرد عليهم، لأن الكذب والبهتان لن يقلب الحق باطلا، ولا الخير شرا.
لذلك كان انشغالك بنفسك، وبما تعرفه منها، أجدى لك من الاستماع لغيرك.. فكلمات غيرك ومواقفهم لن تفيدك سلبا، ولا إيجابا.. ما دمت تريد الحق والحقيقة، لا الوهم والسراب، وقد قال بعض الصالحين في ذلك: (علامة الزهد في الدنيا وفي الناس، أن لا تحب ثناء الناس عليك، ولا تبالي بمذمتهم، وإن قدرت ألا تعرف فافعل، ولا عليك ألا تعرف، وما عليك ألا يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إن كنت محموداً عند الله) ([2])
ووعظ آخر بعض الخلفاء، فقال: (يا أمير المؤمنين إن أقواماً غرَّهم سترُ الله عز وجل، وفتنَهم حسنُ الثناء، فلا يغلبنَّ جهلُ غيرِك بك علمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعن ما افترض الله متخلفين مقصّرين، وإلى الأهواء مائلين) ([3])
وقيل لبعض العقلاء: (ما أحسن ثناء الناس عليك؟)، فقال: (بلاء الله عندي أحسن من مدح المادحين وإن أحسنوا، وذنوبي أكثر من ذم الذامين وإن أكثروا، فيا أسفي فيما فرطت ويا سوأتا فيما قدمت) ([4])
وقال بعض الصالحين: (إذا قيل لك: نعم الرّجل أنت، فكان أحبّ إليك من أن يقال لك: بئس الرّجل أنت، فأنت والله بئس الرّجل) ([5])
ولهذا كله اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حب المدح وتأثيره في الممدوح مهلكا من المهلكات، فقال ـ عند سماعه لرجل يثني على آخر، ويبالغ في الثناء عليه: (أهلكتم ـ أو قطعتم ـ ظهر الرجل) ([6])
وفي حديث آخر روي أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك! قطعت عنق صاحبك.. إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله، ولا يزكى على الله أحد) ([7])
ولهذا ورد في السنة المطهرة ذكر عقوبة المتملقين الذين يكثرون المدح ويبالغون فيه، وخاصة إن كان عن طمع، وذلك بأن يحثى على وجوههم التراب، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب) ([8])
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه المعاني في دعائه الذي علمنا إياه عند سماعنا للمدح، حيث علمنا أن نقول: (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي مالا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون) ([9])
ففي هذا الدعاء دعوة لثلاث معارف مرتبطة بعلاج حب المدح:
أولها: الدعوة إلى عدم اعتبار ما يقولون في حال عدم صدقه، وذلك أخطر ما ينتجه المديح من ثمار، ذلك أن الممدوح قد يتوهم أنه حقيق بتلك الصفات مع خلوه عنها، كما قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 188]
ثانيها: تذكر الذنوب التي لم يلتفت لها المادحون، وفي ذلك نفي للعجب الذي يسببه المدح.
ثالثها: السعي لأن يتصف بما هو أعظم من الأوصاف التي وصف بها، وفي ذلك نفي للغرور والكسل الذي يسببه المدح.
العلاج السلوكي:
إذا علمت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ورددته بينك وبين نفسك، وتأملت فيه حق التأمل؛ فإن أول نتيجة لذلك هي سعيك للتخلص من كل تلك القيود التي تجعل اجتهادك مرتبطا بثناء الخلق وذمهم؛ فأنت عبد الله، لا عبد من مدحك وذمك.
ولذلك اسع لأن تجعل كل أعمالك خالصة لوجه ربك، فيكفيك ثناؤه ومدحه، فلو اجتمع الخلق كلهم على ذمك، وأثنى عليك ربك لكان ذلك كافيا مغنيا لك عن غيره.. ولو اجتمعوا جميعا على مدحك، لم يغن ذلك عنك شيئا.. وكيف يغني عنك، وهو لا يستطيع أن يدفع عنك سيئة واحدة، ولا أن يجلب لك حسنة واحدة؟
ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ بل اجعل من مديح غيرك أو ذمهم لك وسيلة لتهذيب نفسك وتزكيتها..
فإن سمعت من ثناء مادحيك ما لا تراه متوفرا لديك، فاسع لأن تجعل كذبهم صدقا؛ فتجتهد في تحقيق ما أثنوا به عليك؛ فلعل الله أنطقهم بذلك من باب النصيحة لك، لا من باب الثناء عليك.. فاسمع ثناءهم بهذا الاعتبار لتتهذب، ولا تسمعه ثناء لتغتر.
وهكذا.. اسمع لمن يذمك، فلعل فيك ما يذكره، فاعتبره من باب النصيحة.. ولا يعنيك سوء أدبه في نصحه لك، فالله تعالى هو الذي يتولى تأديبه على سوء أدبه.. وهل يمكنك أن تلوم شخصا إن نبهك إلى حريق يشب في بيتك، فتترك إطفاء الحريق، لتلومه على طريقة إخباره لك؟
فإذا رأيت أنه ذمك بما ليس فيك، فلا تحزن، بل امتلأ فرحا وسرورا، لأن الله تعالى خلصك من تلك الصفة التي ذمك بها، وأضاف إليك أجرا عظيما بذلك الإفك الذي قذفك به.. وهل يمكن لشخص من الناس أن يحزن على مكافأة جزيلة صرفت له بكلمات قليلة كاذبة قيلت فيه؟
واسمع ـ أيها المريد الصادق ـ لما قاله بعض المشايخ ناصحا بعض مريديه فيما عليه أن يواجه به من يذمونه بما هو بريء منه.. فهو لم يدعه إلى أن يوكل محاميا ليدافع عنه، ويصرف أوقاتا وأموالا كثيرة لأجل ذلك، وإنما دعاه إلى ثلاثة أمور([10]):
أولها: أن يتفكر في ستر الله عليه، لأن ذلك الذي ذمه لم يلتفت لعيوبه الحقيقية، وإنما التفت لغيرها، وربما تكون التي لم يلتفت لها أخطر من التي ذكرها.. ولذلك كان في التي ذكرها ـ ولو كانت كاذبة ـ عوضا عن التي لم يذكرها.
ثانيها: أنّ ذلك كفّارات لبقيّة الذنوب، و(كأنّه رماك بعيب أنت بريء منه، وطهّرك من ذنوب أنت ملوّث بها، وكلّ من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكلّ من مدحك فقد قطع ظهرك، فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات الّتي تقرّبك إلى الله، وأنت تزعم أنّك تحبّ القرب من الله)
ثالثها: أنّ المسكين الذي ذمك قد جنى على دينه حتّى سقط من عين الله جلّ وعزّ وأهلك نفسه بافترائه وتعرّض لعقابه الأليم؛ فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: (اللهمّ أهلكه)، بل ينبغي أن تقول: (اللهمّ أصلحه، اللهمّ تب عليه، اللهمّ ارحمه) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون) لمّا ضربوه([11]).
ومما يروى في ذلك عن بعض الصالحين أنه شجّ رأسه بالمغفرة، فلم يدع على من فعل به ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: (علمت أنّي مأجور بسببه وما نالني منه إلّا خير، فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي)
إذا علمت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تخلي قلبك من ذلك القيد الوهمي الذي قيدك به المادحون والذامون، فأنت لم تنزل لهذه الدنيا ليكتب عنك الخلق قصائد المديح والثناء، وإنما نزلت لتكتب عنك الملائكة ذلك.. فهي التي كلفت بكتابة حسناتك وسيئاتك.. فكل حسنة يكتبها الملك الذي على يمينك هي قصيدة في مدحك.. وكل سيئة يكتبها الملك الذي على يسارك هي قصيدة في هجائك..
فاسع لأن تمحو قصائد الهجاء، وتكثر من قصائد المدح، فإن تلك القصائد لن يسمعها أهل عصرك فقط، وإنما سيسمعها في أرض الموقف الخلائق جميعا..
ويا فضيحة من اهتم بقصيدة كتبها عنه في الدنيا صعلوك خطاء ممتلئ بالذنوب.. وانشغل عما تكتبه الملائكة البررة الطيبون الطاهرون المعصومون المبرؤون من الكذب والحقد والتملق وكل الأمراض التي تملي على المادحين أو الذامين قصائدهم.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الله تعالى قد يبتليك بمن مدحك أو ذمك، فيضعه بين يديك، ليرى ما تصنع فيه.. فإياك أن تتجاوز حدك، وحد عبوديتك، فتعطي المادح ما لا يستحق، وتحرم الذام ما يستحق.. فأنت عبد الله لا عبد نفسك، وأنت مطالب بأن تؤدي حق الله، ولا يضرك أن يخطئ الخلق في حقك، وقد قال الله تعالى آمرا بالإحسان للذامين: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]
وهكذا احذر ـ أيها المريد الصادق ـ مما ذكرته لي
في رسالتك من تأثير المدح والذم فيك وفي نشاطك، فإن ذلك قد يقدح في إخلاصك لربك..
فاجتهد لأن تتخلص منه، وتكتفي بنظر الله إليك، فما يغنيك أن يرى غيرك عملك، وهو لا
يضرك، ولا ينفعك، ولا يملك أن يكافئك، ولا يملك أن يعاقبك.
([1]) رواه البيهقي.
([2]) حلية الأولياء (8/90)
([3]) حلية الأولياء (8/18)
([4]) شعب الإيمان (4/228)
([5]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج6، ص: 133.
([6]) البخاري 3/ 231 (2663)، ومسلم 8/ 228 (3001) (67)
([7]) البخاري 8/ 22 (6061)، ومسلم 8/ 227 (3000) (65)
([8]) مسلم 8/ 228 (3002) (69)
([9]) البخاري في الأدب المفرد برقم 761 ، والبيهقي في شعب الإيمان 4/ 228.
([10]) انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج6، ص: 135.
([11]) رواه البيهقي في شعب الإيمان.