حب المال

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المال، وسر اعتبار الصالحين لحبه مثلبا من مثالب النفس الأمارة؛ فلا يصح السلوك إلى الله قبل إخراجه ونزع كل آثاره وثماره.. ثم سألتني عن المعارف والأعمال التي تتمكن بها من فعل ذلك.
وكل أسئلتك في هذا محترمة وجيهة، ويجب علي أن أجيب عليها، ووفق الشروط التي طلبتها مني، بل طلبتها مني الحقيقة نفسها، وهي الاكتفاء بما ورد في المصادر المقدسة، دون غيرها، حتى لا تشوه الحقيقة بأي دخن.
وابتداء أقول لك، ولكل أولئك الذين يقابلون مثل هذه المعاني بالرفض والاشمئزاز، واعتبارها دخيلة على الدين، ثم يوردون لذلك ما ورد في النصوص المقدسة من تكريم المال، واحترامه، واعتباره عصب الحياة، أو قواما لها، أن هناك فرقا بين المال وبين حب المال.
فالمال في حد ذاته خلق من خلق الله، والله ما خلق شيئا إلا لمصلحة ومنفعة ومقصد، ولهذا نسب المال إليه، وأكرمه بتلك النسبة، بل سماه خيرا، فقال في صفات الإنسان: {وَإِنهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]
لكن حب المال شيء مختلف.. فالمال وسيلة لا غاية، وحب الوسيلة قد يصرف عن الغاية، ولذلك يتحول إلى حجاب دونها.
ولذلك لم يكن للتحذيرات الواردة حول حب المال، أي علاقة بضرورة كسب المال، أو إنفاقه، أو الاهتمام بحفظه، أو صرفه في المواضع التي يحتاج أن يصرف فيها.. أو الاهتمام بالجانب الاقتصادي ودراسته والتعمق فيه.. وغير ذلك من المعاني.. فكل ذلك لا علاقة له بحب المال.
ذلك أن تلك الأمور جميعا لا علاقة لها بالقلب، ولا بالمشاعر، وإنما علاقتها بالجد والاجتهاد والضرب في الأرض، وكل ذلك من الأمور المحمودة التي حثت عليها الشريعة، بل إن الله تعالى قرن الضاربين في الأرض بالمجاهدين في سبيل الله، فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} (المزمل: 20)
وهكذا قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين التجار النشطين الذين يجلبون السلع لأسواق المسلمين بالمجاهدين في سبيل الله، فقال: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله) ([1])
ولذلك لا تخف ـ أيها المريد الصادق ـ فما سأورده لك من علاجات لإخراج حب المال من القلب، ليس المراد منها إخراجه من الجيب، أو عدم امتلاكه مطلقا، أو عدم السعي لكسبه؛ فلا يمكن أن تستقيم الحياة بذلك، وإلا أصبح السائرون في طريق الله مجرد كسالى شحاذين لا يملكون هذا المصدر من مصادر قوة المؤمن.
بناء على هذا، وبناء على طلبك المرتبط بذكر العلاج الذي يخرج حب المال من القلب، فسأذكر لك علاجين، كلاهما وردت به النصوص المقدسة، أحدهما يرتبط بالمعارف التي تتسلل إلى عقلك وقلبك، لتصحح تصوراتها الخاطئة، والثاني يرتبط بالسلوكات التي تمارسها في حياتك، نتيجة لتلك المعارف التي اقتنعت بها، وتشكلت منها شخصيتك الجديدة.
العلاج المعرفي:
أول علاج لحب المال ـ أيها المريد الصادق ـ علمك أنه فتنة واختبار إلهي لحقيقتك، وتساميها أو تثاقلها؛ فهو ليس نعمة محضة للتلذذ المجرد، مثلما هو حال الزهرة الجميلة، التي يمكنك أن تحبها لرائحتها الطيبة، أو تتلذذ بقسماتها البهية، من غير أن يؤثر ذلك الحب فيك، وبأي وجه من الوجوه.. فتلك الزهرة جمال محض لا علاقة له بالتكليف، ولا بالفتنة.
لكن حب المال مختلف؛ ذلك أن الاستغراق فيه قد يجعلك كذلك السكران الثمل الذي لا يرضى ولا يسكن إلا إذا شرب من الكأس التي لا تزيده إلا سكرا وثمالة.
وهكذا حب المال؛ فهو إذا تحول إلى شراب مسكر، جعل من صاحبه مجرد خادم له، يفرّط في كل شيء من أجل كسبه، ويضيع كل شيء من أجل حفظه والتقتير به، ثم يجعله بعد ذلك كله أسيرا لهواه، مشغولا به عن حقائق الوجود، حيث يتحول الكون عنده بسعته إلى مجرد دنانير ودراهم وكنوز.. ينشغل بها عن حياته وحقيقته والوظائف التي كلف بها.
وبذلك يصبح عبدا من عبيده، بدل أن يكون سيدا عليه، يستخدمه فيما يحتاجه.. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) ([2])
وبناء على هذه المعاني يذكر القرآن الكريم حقيقة المال، وكونه اختبارا وفتنة إلهية للتفريق بين من يستخدمونه، ومن يستخدمهم، أو بين عبيده وبين عبيد الله.. يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَن الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]
ولهذا كان من ضرورات هذا الابتلاء أن يتعلق باسمي الله تعالى [المعطي المانع]؛ فالله هو الذي يعطي هذا المال، لا تكريما، ويمنعه لا إهانة، وإنما يفعل ذلك كله للاختبار والتمحيص.
ولذلك كان من الأدوية العرفانية المهمة في العلاقة بالمال أن تعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن زيادته أو نقصه لا علاقة لها بحقيقتك، ولا بدرجتك، كما يتوهم الغافلون الذين يتصورون زيادة المال إكراما، ونقصه إهانة، كما قال الله تعالى: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 – 17]
ولهذا ينهى الله تعالى عن النظر إلى الأغنياء باعتبارهم مكرمين، لأن ذلك يؤثر في علاقة الإنسان بربه، ويجعله يشعر بنقص وقصور تجاههم يؤثر في همته وشخصيته تأثيرا بليغا يحول بينها وبين مقتضيات السلوك.
ولذلك اعتبر الله تعالى الموقف من المال والغنى من الفوارق المهمة بين أهل العلم والإيمان وغيرهم، وقد ضرب المثل على ذلك بمن أثرت فيهم رؤيتهم لقارون وكنوزه وزينته، فراحوا يقولون بحسرة وألم: { يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]، بينما قال {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]
فأهل العلم الصالحون نظروا إلى أموال قارون باعتبارها أسئلة واختبارات سئل عنها، وكُلف بالإجابة الصحيحة عليها، ولذلك حزنوا له، ولأخطائه في الإجابة، ولم يؤثر فيهم غناه، ولم يصرفهم عن رضاهم عن ربهم، وفرحهم بما آتاهم من العلم والحكمة.
ولهذا كان لهذه المعرفة آثارها النفسية الجميلة في حماية المؤمن من كثير من مثالب النفس الأمارة التي تجعله يحسد أو يحقد أو يسخط أو ينزعج بسبب تلك الفروق التي تفصل بينه وبين أصحاب الثروات والأموال، بل بعكس ذلك تجعله مشفقا عليهم، حزينا على تقصيرهم وتفريطهم.
وكل هذه المعاني يكتشفها المؤمن عند قراءته للآيات الكثيرة التي تنهى عن الإعجاب بأموال الجاحدين الظالمين الذين سيعذبون بها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55]
ويضرب الأمثلة الكثيرة على أولئك الذين فشلوا في الاختبارات المرتبطة بالمال، كما فشلوا في الاختبارات المرتبطة بغيره، فيقول: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]
ويخبر عن الأموال التي أصبحت حسرة للمحبين لها بعد فشلهم في الاختبارات المرتبطة بها، فيقول:{ن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]
ويخبر عن مصير أولئك الأحبار والرهبان الذين باعوا دينهم بالأموال، فيقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، ثم يذكر بعض مظاهر ذلك العذاب، فيقول: { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]
ويخبر عن مصير الحريصين الذين أداهم حب المال إلى أكل أموال اليتامى، فيقول: {إِن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تعطي صورة أخرى للمال، غير تلك الصورة التي يراه بها المتثاقلون إلى الأرض، فهي تصوره بكونه عبارة عن صفائح محماة تكوى بها الجباه والجنوب والظهور، أو نيران تغلي بها البطون، أو انتكاسة تخسف بصاحبها، فيتحول من الحرية التي وهبها الله له إلى العبودية التي ارتضاها لنفسه.
وفي مقابل هذه الصورة ذلك المال الذي عرف صاحبه كيف يتعامل معه، فلم يكسبه إلا من حله، ولم يصرفه إلا في محله، ولم يملأ به قلبه، ولم يشغل به نفسه؛ فهو يتحول إلى نعمة لصاحبه، ووسيلة إلى رضوان ربه، كما قال تعالى عن المنفقين في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261، 262]
وقال عنهم:{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 274]
وقال عن المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]
العلاج السلوكي:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أول ما عليك القيام به لتحقيق العلاقة الصحيحة بينك وبين المال، هي أن تعتقد أن المال مال الله، وأنك مجرد مستخلف فيه، وأنه ليس لك كامل الحرية في طرق كسبه، أو التصرف في إنفاقه.
ولذلك فإن وظائفك المرتبطة به هي القيام نحوه بما تقتضيه عبوديتك لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِن صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]
فإذا طلبت الشريعة منك، بحكم قدراتك ومواهبك أن تكون صاحب أموال كثيرة؛ فإن عبوديتك حينها أن تجلب ما قدرت عليه من الأرزاق التي يحتاجها إخوانك في الإنسانية، سواء بالاتجار فيها، أو بصناعتها، لأنك بذلك تكون قد تخلقت باسم الله: (الرزاق) ويكون لك من الأجر إذا نويت ذلك ما لا يخطر له على بال.
لكنك إن رحت تكنز ذلك المال، أو تكتفي باستعماله في الترف وشؤونك الخاصة؛ فإنك حينها تخرج من عبوديتك لربك، وتصبح عبدا لمالك، لا عبدا لربك.
ولذلك أجاب الله تعالى من سألوا عن حدود الإنفاق بقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة: 219]، فالعفو في الآية الكريمة يعني كل ما فضل عن الحاجات الخاصة، والتي لا تبلغ مبلغ المترفين.
والإنفاق فيها لا يشمل فقط تلك الصدقات، ولا تلك الزكوات التي نص عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج: 24، 25]؛ فلم يقل أحد من المتقدمين أو المتأخرين بأن كل دينار فضل عن الحاجة يجب التصدق به، ولو كان الأمر كذلك لم يكن لأحكام الزكاة وأنصبتها ومقاديرها أي معنى.. ولكن المراد هو استثمار تلك الأموال في كل الأعمال التي تعود بالمصلحة على البشر.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي يقرض غيره ينال أجرا زائد على المتصدق مع أن مال الصدقات يذهب عن صاحبه ولا يرجع، ومال القرض يرجع، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر) فقلت لجبريل: (ما بال القرض أفضل من الصدقة؟) قال: (لأن السائل يسأل وعنده شيء، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)([3])
ولهذا ورد النهي الشديد عن كنز المال وادخاره، وعدم الاستفادة منه، أو ترك الغير ليستفيد منه، لأن ذلك يجعل من المال مقصودا لذاته، لا وسيلة لغيره، وقد ورد في الحديث أن رجلا من أهل الصفة مات، فوجد في بردته دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كية)، ثم مات آخر فوجد له ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيتان) ([4])
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفعل مثلما فعل ذلك الذي أراد أن يخرج حب المال من قلبه، فراح يرميه في النهر، كما حدث عن ذلك بعضهم، فقال: دخلت على الشبلي، فقال مفتونا يا أحمد، فقلت: ما الخبر؟ قال: كنت جالسا فجرى بخاطري أنك بخيل: فقلت: ما أنا بخيل؛ فعاد منى خاطري، وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني.. فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب المؤنس الخادم، ومعه خمسون دينارا، فقال: اجعلها في مصالحك؛ فقمت فأخذتها وخرجت. وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزين يحلق رأسه، فتقدمت إليه، وناولته الدنانير، فقال: أعطها المزين، فقلت: إن جملتها كذا وكذا، قال: أو ليس قد قلنا لك إنك بخيل؟ قال: فناولتها المزين، فقال المزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجرا.. فرميت بها في دجلة، وقلت ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل([5]).
فرمي المال حرام، وفاعل ذلك مثل من يرمي السلاح من يده في معاركه مع العدو الظالم، أو مثل من يتخلى عن مسؤوليته تجاه من كلف بالإنفاق عليهم.
وقد كان في إمكانه إن شاء أن يرحل إلى المسافات البعيدة ليبحث عن المستحقين لذلك المال؛ فيكون له به الأجر العظيم، ويكون قد أدى ما كلف به من تلك التكاليف الشرعية الكثيرة التي تعتبر الإنفاق على الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات أساسا من أسس الدين، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [الماعون: 1 – 3]
لكن عزل الشريعة، وتحكيم الهوى في الدين، يجعل من صاحبها عرضة لوساوس الشيطان، الذي يزين له ما يفعله من الآثام، موهما إياه أنه يسعى في تزكية نفسه، وهو لا يعلم أن تزكية النفس لا تكون إلا بمقتضى الشرع.
ولهذا فإن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ إن أردت أن تنجح في الاختبارات المرتبطة بالمال أن تجيب على تلك الأسئلة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا قبل الآخرة، فقد ورد في الحديث:
(ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) ([6])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا خضرة حلوة، من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة، يقول الله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الاسراء: 97) ([7])
وقال: (لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من سحت والنار أولى به) ([8])
وقال: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) ([9])
ثم إن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لتنفي عن قلبك كل تعلق بالمال يصرفك عن ربك، أن تجمل في الطلب، ولا تبالغ فيه، ولا في الحرص، فإن الشيطان قد يزين لك السعي في كسب المال لتنفقه في سبيل الله، ثم يشغلك بجمعه عن هدفك الذي قصدته، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَن وَلَنَكُونَن مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [التوبة: 75، 76]
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أيّها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس للعبد إلّا ما كتب له، ولن يذهب عبد من الدّنيا حتّى يأتيه ما كتب له في الدّنيا وهي راغمة)([10])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب)([11]).
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الحرص أخطر الشواغل على القلب، لأنه يجعله منشغلا به انشغالا كليا عن كل مكرمة، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى وراءهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب)([12])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عزّ وجلّ يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا من ذهب لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب)([13])
وإنما يعينك على هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقنع من الدنيا بما يكفيك، ولا تتجاوزه إلى ما يطغيك، كما ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به)([14])، وهذا لا يضاد الغنى كما قد يتوهمه المتوهمون، وإنما يضاد الترف.. فصاحب المال الذي يستثمره فيما ينفع الخلق مجرد وكيل فيه، ولذلك لا يتصرف فيه كمالك، وإنما كصاحب مسؤولية يحاسب نفسه على كل دقيق وجليل تجاهها.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الغنى الحقيقي هو غنى النفس، وليس غنى العرض والمتاع، فذلك غنى قارون، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)([15])
وقال: (كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قانعا تكن أشكر الناس، وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمنا)([16]).
و روي أن موسى عليه السّلام سأل ربّه تعالى فقال: (أيّ عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم لما أعطيته، قال: فأيّهم أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه)
هذه بعض وصاياي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ في شأن المال، فاسمعها سماع
المؤمنين، لا سماع المجادلين، وسترى كيف يملأ الله قلبك بالغنى به، فمن استغنى
بغير الله افتقر، ومن ملأ قلبه بغير محبته انتكست طبيعته، وتسلطت عليه نفسه
الأمارة، واجتمع عليه كل شياطين الإنس والجن.
([1]) رواه ابن ماجه، و الزبير بن بكار في أخبار المدينة والحاكم.
([2]) رواه البخاري.
([3]) رواه الطبراني في الكبير..
([4]) رواه الطبري.
([5]) إحياء علوم الدين (3/ 25)
([6]) رواه الترمذي وصححه.
([7]) رواه البيهقي.
([8]) رواه ابن حبان في صحيحه.
([9]) رواه الترمذي، وفي رواية بسند حسن: (لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام)
([10]) الحاكم في المستدرك ج 2 ص 4. و البيهقي في السنن ج 5 ص 264.
([11]) الحاكم في المستدرك ج 2 ص 4 و ابن أبي الدنيا في القناعة.
([12])البخاري ج 8 ص 115.
([13])أحمد ج 5 ص 219 و ابن ماجه رقم 4235.
([14]) الترمذي ج 9 ص 211 و قال: حسن صحيح.
([15])البخاري ج 8 ص 118.
([16])ابن ماجه رقم 4217.