حب الجاه

حب الجاه

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الفرح الذي ملأ قلبك بسبب ذلك الاستقبال الذي لقيته في تلك المدينة التي زرتها، وكيف أنهم أكرموك، وكرّموك، وقدموا لك كل أصناف الهدايا.. وأنك طيلة مكوثك معهم كنت كالملك عليهم، يأتمرون بما تأمر، وينتهون عما تنتهي..

وأخبرتني أنهم ذكروا لك ـ في معرض ثنائهم عليك ـ أن الملوك وإن كانوا يملكون أرضهم؛ فأنت تملك قلوبهم ومشاعرهم، وأنك لذلك أغنى من الملوك.. لأن مالهم جميعا لك ومن حقك.. ذلك أنهم وإن كانوا يعطونه للملوك كراهية، فهم يعطونه لك طوعا، وليس عليك سوى الإشارة بطلب ذلك، ولست بحاجة مثل الملوك لسطوة ولا لشرطة ولا لأي عنف.

وأرسلت لي مع كل تلك الأخبار السارة، تلك القصائد التي مدحوك بها، ومثلها تلك التي هجوا بها أعداءك.

وأنا لا ألومهم على ذلك التكريم الذي كرموك به؛ فهو دليل على طيبتهم وأخلاقهم، واحترامهم لأهل العلم، وتطبيقهم وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فاحترام العلماء دليل على صفاء النفس ورقة الطبع؛ وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن كل شيء يحترم أهل العلم حتى الحوت في البحر؛ ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ([1])

ولا ألومك ـ كذلك ـ على ذلك الفرح الذي قابلت به استقبالهم، والبشر الذي أبديته لهم؛ فما كان لك أن تعبس في وجوههم، ولا أن تقابل إكرامهم بالجفاء والغلظة والقسوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ([2])

لكن الذي ألومك عليه، أو أحذرك منه أن يتحول ذلك التكريم الذي حظيت به إلى مثلب من مثالب النفس الأمارة، يجعلك تشعر بأنك حقيق بذلك الاحترام والتقدير، وأن عليهم أن يفعلوا ذلك بك، وإن قصروا لمتهم، لأنك حينذاك تقع فيما حذرت منه النصوص المقدسة من حب الجاه والسمعة، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (بحسب المرء من الشرّ إلّا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ([3])

وذكر صلى الله عليه وآله وسلم خطورة ذلك على القلب، ودوره في تنمية بذور النفاق فيه، فقال: (حبّ الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)([4]).. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ذلك أن مثل ذلك التكريم الذي يحظى به صاحب الجاه قد يجعله يتوانى في النصيحة، أو يقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرضاء لمن يكرمونه ويثنون عليه، وذلك ما قد يجعله يحسن لهم سيئاتهم، وهو النفاق بعينه، وقد أشار بعض الصالحين إلى ذلك، فقال: (إذا رأيت الرجل يحب أن يحبه الناس كلهم ويكره أن يذكره أحد بسوء فاعلم أنه منافق، فهذا داخل في وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 91]، ثم قال بعدها: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91])

ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خطور حب الجاه على الدين، فقال: (ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا من حبّ الجاه والمال والشرف في دين الرّجل المسلم)([5]).

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر بين أن الهلاك وفساد الأديان لم يرتبط بحب المال فقط، وإنما ارتبط معه بحب الجاه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما هلك الناس باتّباع الهوى وحبّ الثناء)، وفي رواية: (حب الثناء من الناس يعمي ويصم)([6])

وهكذا ورد عن أئمة الهدى التحذير من أولئك الذين قد تحولهم الشهرة والرئاسة والجاه إلى عبيد عند الخلق، يداهنونهم، ويرضونهم، ولو بسخط الله، فقد قال الإمام الصادق: (إيّاكم وهؤلاء الرّؤساء الّذين يترأسون فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلّا هلّك وأهلك)([7]).

وفي حديث آخر ذكر ما هو أخطر من ذلك، فقال: (ملعون من ترأّس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه)([8])، وقال: (من أراد الرّئاسة هلك)([9])

وأوصى الإمام الكاظم بعض مريديه وتلاميذه، فقال: (ويحك يا أبا الرّبيع لا تطلبن الرّئاسة، ولا تكن ذئبا، ولا تأكل بنا الناس، فيفقرك الله، ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك موقوف ومسئول لا محالة، فإن كنت صادقا صدّقناك وإن كنت كاذبا كذّبناك)([10])

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ودب إلى نفسك الحنين إلى التخلص من هذا المثلب وكل ثماره السامة التي ينتجها، فاعلم أنك تحتاج إلى علاجين: معرفي تقنع به عقلك، وسلوكي تسير به في حياتك.

العلاج المعرفي:

أما الأول، فيبدأ بمعرفتك لخطر حب الجاه على قلبك، ودوره في إنبات شجرة النفاق التي هي أسوأ الأشجار، وأكثرها سمية، وكيف لا تكون كذلك، وهي التي توعد الله أهلها بالدرك الأسفل من النار، فقال: {إِن الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145]

وفي مقابلهم ورد الثناء العظيم على من لم يستعبد حب الجاه قلبه؛ فلذلك صار لا يبالي بالظهور، ولا بالخفاء، لأنه عبد الله، لا عبد القلوب التي يتوهم أنه امتلكها؛ فقد أخبر الله تعالى عن الجزاء العظيم المعد لهم، فقال: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83]

وانظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف جمع الله تعالى بين إرادة العلو والفساد، لتعلم أن كل من يريد أن يعلي ذاته لا الحق الذي يمثله سيقع في الفساد لا محالة، وكيف لا يقع فيه، وهو لم يرد ربه، وإنما أراد نفسه.

ولهذا أثنى الله تعالى على أولئك الذين جهل الناس قدرهم، بكونهم لا يريدون إلا الله، قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]

ومثله تلك الأحاديث الكثيرة التي تثني عليهم أعظم الثناء، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك) ([11])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلّكم على أهل الجنة؟: كلّ ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبرّه، وأهل النار كلّ متكبّر جوّاظ)([12])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من امّتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه إيّاه، ولو سأله درهما لم يعطه إيّاه، ولو سأله فلسا لم يعطه إيّاه، ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها إيّاه، ولو سأله الدّنيا لم يعطه إيّاها، وما منعها إيّاه إلّا لهوانها عليه، ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه)([13]).

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اليسير من الرّياء شرك، وإن الله يحبّ الأتقياء الأخفياء الّذين إن غابوا لم يفقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كلّ غبراء مظلمة)([14]).

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذّ ذو حظّ من صلاة أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السرّ والعلانية وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وصبر على ذلك)، ثمّ نقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: (عجّلت منيّته وقلّ تراثه وقلّت بواكيه)([15])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السّاقة كان في السّاقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفّع) ([16])

فردد ـ أيها المريد الصادق ـ بينك وبين نفسك هذه الأحاديث العظيمة، واستشعر ذلك الجزاء العظيم الذي يناله من ضحى بجاه الدنيا، في سبيل ربه، ذلك الذي يكرمه الله بكل أنواع الكرامة، فيتقبل أعماله ويقربه إليه، ويحبه.

فأيهما أفضل لك، هل ذلك الجاه الذي تملك به بعض قلوب البشر، ولوقت محدود، أم ذلك الجاه الذي تناله عند ربك، ملائكته وعباده الصالحين، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن من سنن الله تعالى في الجزاء والعقوبة أنه يعاقب كل شخص أعرض عنه إلى غيره، بذلك الغير.. فمن آثر المال على الله عاقبه بماله، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]

ومن آثر أهله وأولاده على مرضاة ربه، عوقب بنفورهم منه أحوج ما يكون إليهم، كما قال تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 – 37]

وهكذا، فإن من أرضى الناس بسخط الله ابتغاء للجاه عندهم، يعاقَب بأن تحول القلوب عنه، فيتحول حبها له بغضا، وقربها منه بعدا، وصداقتها له عداوة، كما قال تعالى: أنه قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس) ([17])، وفي رواية: (من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)

العلاج السلوكي:

إذا علمت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ورددته بينك وبين نفسك، وتأملت فيه حق التأمل؛ فإن أول نتيجة لذلك هو أن تحن نفسك للخروج عن أسر كل شيء، حتى تصبح عبدا لربك وحده.

وذلك ما يستدعي منك الكثير من الأعمال التي تثبت بها صدق ذلك الحنين، وأولها ألا تبحث عما يبحث عنه طلاب الجاه من وسائل امتلاك القلوب، وهي كثيرة جدا، منها ما عبر عنه الإمام عليّ بقوله: (تبذّل ولا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر وتعلم، واكتم واصمت تسلم تسرّ الأبرار وتغيظ الفجّار) ([18])

ومنها ما عبر عنه بعض الصالحين بقوله: (والله ما صدّق الله عبد إلّا سرّه أن لا يشعر بمكانه)

وقال آخر: (إن خفق النعال حول الرّجال قلّما تلبث عليه قلوب الحمقى)

وأوصى بعض الصالحين مريدا له، فقال: (إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشي إليك، وتسأل ولا تسأل فافعل)

و خرج بعض الصالحين في سفر فتبعه ناس كثير، فقال: (لو لا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله)

وعوتب بعضهم في طول قميصه، فقال: (إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره)

وقال آخر: (كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجيّدة والثياب الرديّة إذ الأبصار تمتدّ إليهما جميعا)

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن يتطرق إلى قلبك سوء الظن بالأنبياء والصالحين الذين ملأ ذكرهم الآفاق، وامتلأت القلوب بمحبتهم، وكان لهم من الجاه ما لم يظفر به أحد في الدنيا، ولا في الآخرة؛ فالذي تولى ذلك عنهم هو الله، ولم يكن بجهدهم، ولا برغبتهم، وإنما هو جزاء إلهي على عبوديتهم لله، وإرضائهم له ولو بسخط الناس..

وفرق كبير بين أن تسعى لنيل الجاه، وتضحي بدينك من أجله، وبين أن يأتيك الجاه من غير أن تقصده، أو تطلبه، أو تحن إليه.

ولذلك كان الكامل من السالكين ليس من هرب من الجاه، أو الظهور، وإنما من ترك الأمر لربه، فهو عبد ربه إن شاء أظهره أو شاء أخفاه.. وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، أما من أراد الله وهو عبدٌ له، فهو الذي إذا شاء أظهره وإذا شاء أخفاه، لا يختار لنفسه ظهورا ولا خفاءً)

بل إن من الصالحين من يسأل لنفسه الظهور، لا لذاته، وإنما لكونه ممثلا للحق، ولا يمكن أن ينتشر الحق ويظهر من دون أن يظهر ذلك الذي مثله، كما قال الله تعالى حاكيا دعاء إبراهيم عليه السلام بأن يكسبه الله جاها وسمعة، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]

وهكذا منّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم برفعة الذكر، وهي دليل على رفعة الدين، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممثل للدين، ورفعته رفعة له، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، وهكذا قال عن الأنبياء والصالحين: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50]

لكني مع ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وحرصا عليك أنصحك ـ ما دمت في بداية سلوكك ـ أن تبتعد عن كل ما يمكن أن يأسر قلبك، أو يصرفك عن الطريق الذي تريد السير فيه؛ ذلك أن الشيطان قد يزين لك ذلك الظهور الذي أتاك من حيث لا تحتسب، فيقصم به ظهرك، ويصرفك به عن ربك.

وقد قال بعض الحكماء في ذلك محذرا: (ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لن يتم نتاجه)

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقع فيما وقع فيه بعضهم عندما راح يتخلص من الجاه بمعصيته لربه، كما روي عنه أنه قال: (نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح؛ فتشتت علي قلبي، فدخلت الحمام، وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها، ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت وجعلت أمشي قليلا قليلا؛ فلحقوني، فنزعوا مرقعتي، وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضربا؛ فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام؛ فسكنت نفسي) ([19])

فإن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مخالف للشريعة، ونحن لم نطالب بتهذيب نفوسنا بما نبتدعه من بدع لأنفسنا، وإنما طولبنا بأن نهذبها ونزكيها بما علمنا ربنا.

ثم إننا ـ أيها المريد الصادق ـ لم نطالب بالتخلص من الجاه كلية، ففرق بين أن يستعبدنا الجاه، وبين أن يكون لنا بعض الجاه الذي نوفر به الأمان والاستقرار لأنفسنا.. فالجاه مثل المال، لا يمكن التخلص كلية منه.

ولذلك، فإنك إذا أحببت أن يكون لك بعض الجاه عند أستاذك حتى تستفيد من علومه، أو يكون لك بعض الجاه عند جيرانك حتى يحترموك وتحترمهم.. فإن ذلك لا حرج فيه، لأنك لم تقصد استعباد قلوبهم، وإنما طلبت أن تكون لك العلاقة الطيبة بهم، تلك التي لا يمكن أن تؤدي أوامر ربك من دونها.

ولهذا ورد في الحديث عن أبي ذر، أنه قال: (يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن)([20])

وفي حديث آخر أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن دور ثناء المؤمنين الصادقين، فقال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة)، فقيل: وثلاثة؟ قال: وثلاثة.. قيل: واثنان، قال: واثنان ([21]).

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن يلبس عليك الشيطان؛ فيدعوك إلى إظهار سيئاتك وعيوبك، ويغرك في ذلك عن نفسك، ويوسوس لك بأن من النفاق أن تظهر حسناتك وتكتم سيئاتك.. فإن ذلك ليس من النفاق، بل هو من الإيمان.

والشيطان لا يريد منك بذلك أن تهذب نفسك، وإنما يريد أن يجعلك وسيلة لنشر الرذيلة والانحراف، وتهوين شأنهما بين الخلق، ولذلك كان إظهار المعاصي كبيرة من الكبائر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه فيصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه) ([22])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يكون في آخر هذه الأمّة خسف ومسخ وقذف). قيل: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: (نعم إذا ظهر الخبث) ([23]

هذه وصيتي ـ أيها المريد الصادق ـ إليك، فاحفظها، وحاول أن تستعمل كل ما أوتيت من حيلة لتخلص نفسك من أي تسلل لهذا المرض الخبيث إلى قلبك، فإنه إن تسلل إليه أفسده، وقد يصل الفساد إلى مرحلة يصعب معها العلاج.. فتدارك الأمر من أوله، وتأمل قلبك، فهو رأسمالك، لا تدعه إلا لربك.. فلا خير في أن يقربك الخلق ويحبوك، ويبعدك الله ويبغضك.


([1])  أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.

([2])  البخاري في الأدب والترمذي وابن حبان.

([3])  رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب .

([4])  قال العراقي في تخريج أحاديث [إحياء علوم الدين (3/ 159)]: رواه  أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف إلا أنه قال حب الغناء وقال العشب مكان البقل.

([5]) الكافي ج 2 ص 297.

([6])  أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس.

([7]) الكافي ج 2 ص 297.

([8]) الكافي ج 2 ص 298.

([9]) الكافي ج 2 ص 298.

([10])  الكافي ج 2 ص 298.

([11])  مسلم ج 8 ص 36 و154.

([12])مسلم ج 8 ص 154.

([13]) الطبراني في الأوسط، كما في مجمع الزوائد ج 10 ص 264.

([14]) الحاكم وقال: صحيح الاسناد،  و ابن ماجه رقم 3989.

([15])ابن ماجه رقم 4117. ورواه الكليني في الكافي ج 2 ص 141.

([16])  رواه البخاري.

([17])  رواه الترمذي (2414)

([18])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 109

([19])  إحياء علوم الدين (4/ 358)

([20])  مسلم (2642)

([21])  البخاري (2643) ، والترمذي (1059) ، والبزار (312)

([22])  البخاري ومسلم.

([23])  رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *