الرّياء والسمعة

الرّياء والسمعة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرياء وعلاماته، وطرق علاجه، وعن السر في تلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تبين سوء عاقبة أصحابه، مع أنهم في ظاهر حالهم لم يتسببوا بأي أذى لغيرهم، وإنما كل ذنبهم تلك النشوة التي وجدوها في نفوسهم عندما رأوا اطلاع الخلق على أعمالهم؛ فسرتهم، بل زادت في نشاطهم وهمتهم.

وكل أسئلتك ـ كما تعودت ذلك منك ـ وجيهة، وتحتاج إلى إجابة عليها، لأنه لا يمكن تهذيب النفس، ولا إصلاحها من دونها.

وحتى سؤالك الأخير الذي استشكلت فيه مدى عدالة تلك التشديدات المرتبطة بالرياء وجيهة أيضا، وخاصة في هذا العصر الذي تصور فيه بعضهم أن الدين مجرد قيم أخلاقية، وسلوكات اجتماعية، وأن الصالح من الناس هو ذلك المهذب الطيب في سلوكه وعلاقاته، ولا يهم بعد ذلك إن كان صادقا مخلصا، أو منافقا مرائيا.

وهؤلاء لا يعلمون أن الدين له جانبان، كلاهما ركنان فيه، والعبث بأحدهما عبث بالآخر، والاهتمام بأحدهما لا يؤثر في الآخر فقط، وإنما يؤثر في كل اللطائف التي حُبي بها الإنسان، والتي تشكل حقيقته التي لا يكون إنسانا من دونها.

أما أولهما؛ فذلك الذي حصروا الدين فيه، وهو القيم الأخلاقية الرفيعة، التي تدعو إلى السلام والتعايش والبر والأدب والتحضر والإيجابية مع كل أصناف الناس، وكل المجتمعات، وفي كل الأحوال.

وأما الثاني؛ فهو العلاقة مع الله، ذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام، لم يرسلوا لأجل تهذيب العلاقات الاجتماعية، ونشر القيم الأخلاقية المرتبطة بها فقط، وإنما أرسلوا لتعريف الخلق بالله، وتعليمهم كيفية التواصل معه.

ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت ما ورد في النصوص المقدسة حول أهداف دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ([1]) لرأيت أن الثاني هو الهدف الأساسي، والأول تبع ونتيجة له، ذلك أن المعرفة بالله هي الأساس الذي تنبع منه كل الفضائل، فمن عرف الله ووحده، وامتلأ قلبه بالإخلاص له، ارتقى في كل معارج الكمال، وتنزلت على نفسه كل ألوان الفضائل.

أما من حُجب عن الله، وراح يمارس حياته بعيدا عنه؛ فإنه وإن بدا متخلقا في ظاهره إلا أنه ـ بسبب خراب باطنه ببعده عن الله ـ يمكن أن ينقلب في أي لحظة إلى وحش كاسر، أو حية رقطاء، كما ذكر الله تعالى ذلك عن المنافقين الذين زينوا ظواهرهم، وخربوا بواطنهم، قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]

وأنت ترى ـ أيها المريد الصادق ـ ذلك في الواقع في تلك الدول التي يتصور الكثير من أصحاب التدين المادي أنها دول متخلقة مهذبة مع غفلتها عن الله.. لكنهم لا يلاحظون تلك الشذوذات التي يقعون فيها، والتي لا تختلف أبدا عن تلك الشذوذات التي وقع فيها أقوام الأنبياء عليهم السلام.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المرائي يشبه ذلك الذي دخل الامتحان، وأجاب عن كل الأسئلة إجابة صحيحة، لكنه بدل أن يعطي ورقة الإجابة لأستاذه الذي سأله راح يأخذها معه، ويريها لأصدقائه، ويبين لهم مدى قدرته على الإجابة.. فهذا وإن فرح في تلك اللحظات بثناء أصدقائه عليه إلا أنه عند ظهور النتائج لن يجد له أي علامة..

والعتاب هنا لا يتوجه للأستاذ السائل، وإنما يتوجه لذلك الغبي الذي راح يضع الأمور في غير محالها طلبا للذة العاجلة..

ولو أنه تمهل إلى أن تخرج النتائج، ليسمع أصدقاؤه وغيرهم بعمله بعد أن يزنه الأستاذ بموازين الحكمة التي يملكها، لكان ذلك أجدى وأنفع له.

وهذا المثال ينطبق تماما على المرائي الذي يطلب اللذة العاجلة، ويخرب لأجلها كل ما بناه، ذلك أنه بدل أن يتوجه بأعماله لربه الذي وضعه موضع الاختبار، راح يتوجه بها لغيره، ولذلك كان من عزة الله تعالى أن يتركه لمن توجه بعمله إليه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([2])

ولذلك، فإن الجزاء الوفاق المتناسب مع العدالة هو أن لا ينال أي شخص أجره إلا لمن وجه إليه عمله، كما ورد في الحديث القدسي قوله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله لملائكته: اقبلوا هذا وألقوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول: نعم لكن كان لغيري ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي)([3])

وفي رواية أخرى:(إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اقبلوا هذا وردوا هذا، فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل، فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي)

وإذا أضفت ـ أيها المريد الصادق ـ إلى هذا ذلك الخداع الذي يتصف به المرائي، حين يتظاهر بأنه يعبد ربه، بينما هو في الحقيقة يعبد من ينظرون إليه، فإن الجزاء العدل الوفاق لهذا هو ذلك العذاب المتناسب مع المخادعين، والذي يتجسد له يوم القيامة في تلك الصور التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولهذا فإن القرآن الكريم يصف المرائين بالشرك والخداع، أما الشرك، فلأنهم توجهوا بأعمالهم لغير الله، اعتقادا منهم أن المتوجه لهم بتلك الأعمال أولى من الله، وأما الخداع، فلأن ظواهرهم تخالف بواطنهم، وذلك هو الخداع بعينه.

ولهذا وصف الله تعالى المنافقين بالرياء والخديعة، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143]

واعتبرهم قرناء الشيطان، وإن كان ظاهرهم يدل على الصلاح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } [النساء: 38]، ثم بين سوء تدبيرهم حين تركوا التوجه بأعمالهم إلى الله صاحب الجزاء العظيم، ووجهوها إلى الخلق، فقال: { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 39، 40]

وهؤلاء ـ أيها المريد الصادق ـ وإن بدوا بتلك الصورة الجميلة في ظاهرهم إلا أن باطنهم يأبى إلا أن يظهر، فيحول عملهم إلى صورة قبيحة تشبه قبح بواطنهم، ولذلك تجد المنفق المخلص، لا تدري شماله ما أنفقت يمينه، بينما المنفق المرائي يملأ الدنيا صراخا بإنفاقه، ويسيء إلى كل من أنفق عليهم، ولهذا ورد النهي الشديد عن تلك الثمار السيئة التي ينبتها الرياء في أعمال المنفقين، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]

وفي مقابلهم ذكر المؤمنين المخلصين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 262]

ثم أعطى القاعدة المرتبطة بذلك، فقال: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]

وهي تبين أن المنفق المرائي، وإن كان قد أحسن إلى المحتاجين بسد بعض حاجاتهم المادية إلا أنه ملأ قلوبهم وبواطنهم ألما قد يفوق بكثير ذلك الألم الذي كانوا يعانون منه قبل إنفاقه عليهم.

وفوق ذلك كله، فإن المرائي الذي يهتم بنظر الناس أكثر من اهتمامه بالله، سيجعل كل همه العمل وفق ما يحقق له ذلك الرضى الذي يبتغيه منهم، ولو في سخط الله، وهو ما يجعله سلبيا إمعة ليس له أي دور إيجابي في التغيير والتأثير والتطوير.

وقد أشار الإمام علي إلى ذلك بقوله: (ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يحمد في جميع أموره)([4])

وفوق ذلك كله؛ فإن تأثير الرياء ليس في إحباط جزاء الأعمال فقط، وإنما له تأثيره الكبير في الأعمال التي يقوم بها المرائي نفسها، ذلك أنها تصير ـ بسبب ذلك الرياء ـ خالية، ممحوقة من البركة، سرعان ما يظهر عوارها وعيوبها.

ولو أن الخلق وضعوا هذا الاعتبار في تقييمهم لأعمالهم، ووزنهم لها، لعرفوا أن أكثر تلك الجهود التي تضيع هباء منثورا من غير أن تنتج أي نتيجة ليس لها من سبب سوى ذلك الفيروس الخطير الذي هو الرياء.

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين هذه الحقيقة لأصحابه في الوقت الذي كان يحتاج فيه إلى تكثير سواد المسلمين.. بل كان يقولها، وهو مقدم على مواجهة أعدائه الذين يريدون استئصال الإسلام، لأنه يعلم أنه لا ينتصر الدين إلا بالصادقين المخلصين، لا المنافقين المرائين.

وقد ورد في الحديث أنّ أعرابيّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، الرّجل يقاتل للمغنم، والرّجل يقاتل ليذكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله) ([5])

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبه إلى أن الرياء سيكون من الأسباب الكبرى لانحراف هذه الأمة، مثلما كان السبب الأكبر لانحرافات الأمم السابقة، فقال: (أخوف من أخاف عليكم الرّياء والشّهوة الخفيّة)([6]

وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم رئي باكيا، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: (إنّي تخوّفت على امّتي الشّرك، أما إنّهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قمرا ولا حجرا، ولكنّهم يراءون بأعمالهم)([7])

وفي نبوءة من نبوءات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم طمعا في الدّنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمّهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم)([8])

وقد أشار الإمام الصادق إلى هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110] حيث قال: (الرّجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه اللّه إنّما يطلب تزكية الناس، يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه)، ثمّ قال: (ما من عبد أسرّ خيرا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر اللّه له خيرا، وما من عبد يسرّ شرّا فذهبت الأيّام حتّى يظهر اللّه له شرّا)([9])

وقال: (ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيّئا؟ أ ليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك واللّه تعالى يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة: 14]، إنّ السريرة إذا صحّت قويت العلانية)([10])

وقال: (من أراد اللّه بالقليل من عمله أظهره اللّه له أكثر ممّا أراد ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى اللّه إلّا أن يقلّله في عين من سمعه)([11])

وإلى هذا المعنى يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من راءى راءى اللّه به ومن سمع سمّع اللّه به)([12])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكل برجل مسلم أكلة فإنّ الله يطعمه مثلها من جهنّم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)([13])

هذه مجرد نماذج لآثار الرياء النفسية والاجتماعية، أردت من خلالها أن أجيبك ـ أيها المريد الصادق ـ عن ذلك الإشكال الذي طرحته، والذي أثاره أولئك الذين عزلوا الله عن الدين، وعزلوا معه كل تلك القيم الروحانية الرفيعة التي لا يقوم الدين من دونها.. بل لا تقوم الأخلاق من دونها.. فالأخلاق الخالية من الروحانية ليست سوى طلاء سرعان ما تزيله الأيام.

لا تيأس ـ أيها المريد الصادق ـ فما من داء إلا وله دواء، وما من علة إلا ولها طبيب.. فأبشر؛ فقد ورد في المصادر المقدسة، ما يدلك على كيفية التخلص من هذا المثلب من مثالب النفس الأمارة، فشمر عن ساعد الجد، وخذ كتابك بقوة.

العلاج المعرفي:

أول علاج للرياء ـ أيها المريد الصادق ـ هو اقتناعك بتلك المعاني التي ذكرتها لك، ذلك أن الهمة والحزم يحتاجان إلى القناعة التامة بجدوى العمل وفائدته وضرورته، ولذلك كان الاستماع للمرجئة والتأثر بدعواتهم وأمانيهم ليس سوى تلبية لكسل النفس الأمارة، وقعودها عن تهذيب نفسها.

فلذلك احذر من كل من يدعوك إلى الاهتمام ببنائك الخارجي، وترك بنائك الداخلي؛ فبناؤك الداخلي هو الذي سيرحل معك، وهو الذي سينعم أو يعذب..

فما جدوى أن تتطوع ببناء المساجد والمستشفيات، وتقدم الخدمات الكثيرة للفقراء والمساكين، ثم تجد كل ما قمت به بعد ذلك سرابا لا قيمة له، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]

فالآية الكريمة لا تدعونا إلى التوقف عن عمل الخير، ولكنها تدعونا إلى التأسيس الصحيح له، حتى يكون نافعا لنا، ولمن قدمنا لهم ذلك الخير، وحتى لا تتسبب تلك الأمراض النفسية في تشويه ذلك الخير، وتحويله إلى شر.

ولذلك كان تفعيلك لتلك النصوص المقدسة التي تحذر من الرياء، وتبين عواقبه، وعدم تعطيلك لها هو الأساس الأول الذي ينطلق منه العلاج..

ذلك أن تلك الخشية والرهبة تجعلك حذرا ممتلئا بالمخافة مثلما يحذر صاحب الأموال الكثيرة أن يشعلها بعود ثقاب واحد يضعه عليها..

وهكذا هو نفسه حال المرائي الذي يجمع الجبال من الحسنات، ثم يرمى عليها أعواد ثقاب الرياء، لتشتعل جميعا، وفي طرفة عين.

بل إن الأمر أخطر من ذلك، فالمرائي لا يحبط عمله فقط، وإنما تمتد تلك النار إليه لتحرقه أيضا.. ذلك أن تقديمه لرؤية الخلق على رؤية ربه ليست سوى صورة من صور الشرك، وقد أخبر الله تعالى أنه{ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]

وقد ورد في الحديث ما يدل على ذلك صراحة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلّى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك)([14])

ولذلك يطالب المراؤون يوم القيامة بأن يذهبوا إلى شركائهم ليأخذوا منهم أجورهم، مثلما يخاطب المشركون تماما، كما قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } [القصص: 64]

وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: (أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئا فإن حشده عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه به، وأنا عنه غني) ([15])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر)، قالوا: يا رسول الله، وما الشّرك الأصغر؟ قال: (الرّياء، إنّ الله تبارك وتعالى يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الّذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدّنيا فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟)([16])

وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجهاد والغزو، فقال: (إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكابرا بعثك‏ الله مرائيا مكابرا، على أيّ حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تيك الحال)([17])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الغزو غزوان، فأمّا من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة، وياسر الشّريك، واجتنب الفساد. فإنّ نومه ونبهه أجر كلّه، وأمّا من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنّه لم يرجع بالكفاف)([18])

وقال الإمام الرضا: (اعملوا لغير رياء ولا سمعة فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل، ويحك ما عمل أحد عملا إلّا ردّاه اللّه به، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ)([19])

ردد ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الأحاديث بينك وبين نفسك، وحاول أن تتخيل معانيها، وكيف تأتي يوم القيامة بجبال من الحسنات، وعندما تطلب أجورها، يقال لك: اذهب إلى من كنت تعمل عندهم.. وعندما تذهب إليهم يتبرؤون منك، فتعود بالخيبة التي لا مثلها خيبة.

ليس ذلك فقط ـ أيها المريد الصادق ـ ولو أن الأمر اقتصر عليه مع خطره لكان هينا.. فالنصوص المقدسة لا تكتفي بذكر تلك البراءة من الأعمال، ولا بعدم نيل أصحابها أجورهم، وإنما تضيف إليهم العذاب العظيم الذي ينالونه.

وهو تجسيد لذلك النفاق والشرك الذي كان يغمر نفوسهم عندما يمارسون تلك الأعمال الصالحة في ظاهرها، الخبيثة في باطنها.

وقد أشار إلى هذا العذاب قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون: 4 – 7]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السّفهاء، ولا تخيّروا به المجالس. فمن فعل ذلك فالنّار النّار)([20])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعوّذوا بالله من جبّ‏ الحزن)، قالوا: يا رسول الله، وما جبّ الحزن؟ قال: (واد في جهنّم تتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم أربعمائة مرّة)، قالوا: يا رسول الله، ومن يدخله؟ قال: (أعدّ للقرّاء المرائين بأعمالهم، وإنّ من أبغض القرّاء إلى الله تعالى الّذين يزورون الأمراء)([21])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول اللّه تعالى: اجعلوها في سجّين إنّه ليس إيّاي أراد بها) ([22])

وفي حديث آخر ورد تحذير أشد من ذلك كله، فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه، رجلّ استشهد، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يقال جري‏ء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قاري‏ء، فقد قيل: ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، ثمّ ألقي في النّار)([23])

العلاج السلوكي:

إذا عرفت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وكررته بينك وبين نفسك، فإن همتك لا محالة ستنبعث للبحث عن الطرق التي تجعلك تتخلص من الرياء وآثاره وثماره، وأول ما عليك فعله لذلك هو التضرع إلى الله في أن ينجيك منه، ويطهر قلبك من طلب الخلق، ويجعله متمحضا خالصا للحق.

وإذا فعلت ذلك صادقا، فإن الله الكريم لن يرد من قصده، ولن يبعد من التجأ إليه، خاصة إذا لم يكن ذلك اللجوء مرتبطا بالدنيا وأهوائها، وإنما هو مرتبط بالله والدار الآخرة.

ولهذا نرى دعاء المؤمنين في القرآن الكريم مرتبطا بالهداية، كما في قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، وحكى لنا دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقال: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها) ([24])

وكان يقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت) ([25]

ومن تلك الأدعية العظيمة المرتبطة بهذا ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه: (والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره ؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) ([26])

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب ذات يوم، فقال: (أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل)، فقيل له: وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ فقال: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم)

ومن أدعيته المرتبطة بهذا هذا الدعاء العظيم الشامل لخير الدنيا والآخرة: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق، والسمعة، والرياء) ([27])

ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فالدعاء يحتاج إلى العمل، والصادق هو الذي يجمع بينهما لينجح في الابتلاء..

ولا يمكنني في هذا المقام أن أذكر لك كل ما يفيدك في ذلك، فهو كثير جدا، لا يمكن حصره، فلله طرائق بعدد الخلائق..

ولعل الجامع لها جميعا هو مقاومة العلة بما يضادها؛ مثلما نفعل مع الأمراض التي تعترينا، وقد روي عن المسيح عليه السلام في هذا قوله: (إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلاّ يرى الناس أنّه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلّى فليرخ ستر بابه فإنّ اللّه يقسم الثناء كما يقسم الرّزق) ([28])

وروي في أخبار الأمم السابقة أن رجلا من السوّاح قال لأصحابه: إنّا إنّما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر ممّا دخل على أهل الأموال في أموالهم، إنّ أحدنا إذا لقي أحبّ أن يعظّم لمكان دينه، وإن اشترى شيئا أحبّ أن يرخّص عليه لمكان دينه، وإن سأل حاجة أحبّ أن تقضى له لمكان دينه. فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكبه من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس، فقال السائح: ما هذا قيل: هذا الملك قد أظلّك، فقال للغلام: ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلا عنيفا، فقال الملك: أين صاحبكم، قالوا: هذا قال: كيف أنت؟ قال: كالناس، فقال الملك: ما عند هذا من خير، فانصرف عنه. وقال السّائح: الحمد للَّه الّذي صرفك عنّي وأنت لي ذامّ([29]).

ولهذا فإن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في إخفاء طاعاتك ما أطقت إلى ذلك سبيلا، ولذلك ورد في الحديث الإخبار بأفضلية صلاة النافلة في البيت، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) ([30])

وفي حديث آخر روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم، فقال: (قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ([31])

وسئلت عائشة عن تطوعه صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر وكان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين) ([32])

وغيرها من الأحاديث التي تبين أفضلية كون النوافل بعيدا عن الناس، حتى لا يتسرب الرياء إلى أصحابها.. ذلك أن الرياء عادة لا يتطرق إلا للتطوعات، بخلاف الفرائض التي يشترك فيها الناس جميعا.

وقد قال بعضهم مبينا تأثير ذلك في دفع الرياء: (دفع الرّياء يستلزم من المرء أن يعوّد نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتّى يقنع قلبه بعلم الله ولا تنازعه نفسه بطلب علم غير الله به، وهذا وإن كان يشقّ في البداية إلّا أنّه يهون بالصّبر عليه وبتواصل ألطاف الله عزّ وجلّ وما يمدّ به عباده من التأييد والتّسديد)

واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ من أن يستفزك الشيطان عن نفسك، ويدعوك إلى إظهار المعاصي وتعمد ارتكابها بين الناس ولو من غير قصد لها، حتى تبعد عنك الرياء والسمعة، فما جعل الله دواء عباده فيما حرم عليهم، ومن فعله من أولئك الذين يدعون أنفسهم ملامتية، فقد ابتعدوا عن شريعة ربهم بذلك، وحكموا أهواءهم، وما كان الله ليهدي من ابتعد عن سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، وراح يحكم هواه.

بل إن الواجب عليك ـ أيها المريد الصادق ـ في حال وقوعك في أي مخالفة شرعية أن تسترها وتكتمها، لا حفظا لسمعتك؛ فتكون مرائيا بذلك، وإنما حفظا لدين ربك، وخشية من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وحذرا من أن تكون من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) ([33])

وهذا الحديث يرشدك إلى أنه ـ في سبيل نشرك للخير ودعوتك إليه ـ يمكنك أن تظهره وتعلنه، لا لأجلك، وإنما لأجل أن يقتدى بك، كما ورد الإذن بذلك في قوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة: 271]

وورد الثناء عليهم بذلك في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وقوله: { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22]

وذلك لأن تلك الصدقات التي تعطى علانية، مع البعد عن قصد الرياء والسمعة، قد تكون سببا في أن تصبح سنة حسنة لمن يريد أن يقتدي بصاحبها، وقد ورد في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كنّا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه قوم عُراة مجتابي النِّمار أو العَبَاءِ متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا رأى بهم من تلك الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام ثم صلى ثم خطب، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ… ﴾ [النساء: ١] والآية الأخرى التي في آخر الحشر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: ٨١]. تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشقِّ تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. ثم تتابع الناس حتى رأيت كَوْمَيْنِ من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلَّل كأنه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ) ([34])

ولهذا احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتهم غيرك بالرياء لكونه أظهر عمله؛ فما أدراك بنيته، فاكتف بنفسك وحسابها ودعك من الخلق، فالله ما أذن لك في أن تكشف علانيتهم، فكيف تأذن لنفسك بكشف سرائرهم؟

بل حتى لو وجدتهم ـ أيها المريد الصادق ـ يتحدثون عن أعمالهم الصالحة، ويذيعونها، فلا تقتد بهم في ذلك، فعمل السر أفضل من عمل العلانية، ولكن مع ذلك التمس لهم الأعذار، فلعلهم يقصدون من ذلك توجيه غيرهم أو تربيته، أو لعلهم يرون ذلك من التحدث بالنعمة، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن تتوقف عن العمل خشية الرياء؛ فذلك ما يريده الشيطان منك.. فأقدم على أعمالك التي هممت بها، واسأل ربك أن يرزقك الإخلاص فيها، واعتذر له من أي شوب أو شرك أو رياء دخل إليها.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الرياء قد يتخفى في صور دقيقة.. فاحذر منها جميعا، فكلها شرك.. فليس الرياء أن تقصد بأعمالك الخلق وحدهم، وتعطيهم كل همتك.. فذلك وإن كان أغلظ أنواع الرياء وأخطرها إلا أنه ليس متوقفا عليه.

فمن الرياء أن تقصد ثواب الله تعالى، وتقصد معه ثواب الخلق.. فتحب أن يروك، ويثنوا عليك، وإن قصروا في ذلك تألمت.. أو رحت تذيع عليهم ما عملته سرا مما لم يروه، فتحبط عملك بذلك، أو تخرجه من عمل السر إلى عمل العلانية، فتضيع لك أجور عظيمة بسبب ذلك.

وقد روي عن الإمام الكاظم في هذا قوله: (الإبقاء على العمل أشدّ من العمل)، فقيل له: (وما الإبقاء على العمل؟) قال: (يصل الرّجل بصلة، وينفق نفقة للَّه وحده لا شريك له فكتبت له سرّا، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له‏ رياء)([35])

فاجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ في أن تعمل بهذه الوصية العظيمة، ففيها خير الدنيا والآخرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ في ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه رجلا تصدّق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله)([36])، وورد في الآثار: (فضل عمل السرّ على عمل الجهر بسبعين ضعفا)([37])

إذا علمت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وملأت به قلبك وعقلك.. وراقبت حركاتك وسكناتك.. ثم سمعت بعد ذلك من يثني عليك ثناء صالحا، ففرحت بذلك؛ فلا تحزن، فإن ذلك بشارة من الله تعالى لصدقك وإخلاصك، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن) ([38])

بل روي في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، فقد روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول اللّه أسرّ العمل لا أحبّ أن يطّلع عليه أحد فيطّلع عليه، فيسرّني؟)، قال: (لك أجران أجر السرّ وأجر العلانية)([39])

وسر ذلك هو أنه فطرة إلهية في الإنسان، لا يمكنه الانفكاك عنها، وما جعل الله في دينه ما يناقض الفطرة، وقد روي عن الإمام الكاظم أنه سئل عن‏ الرّجل يعمل الشّي‏ء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك؟ فقال: (لا بأس ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر اللّه له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك)([40])

ولكن مع ذلك إياك أن تسكن لذلك الثناء، أو تركن إليه، أو تغتر به، لأن ذلك قد يكون وسيلة للشيطان إلى قلبك، ليحبب لك ذلك، ثم يصرفك عن ربك به.. فكن دائما على حذر.. فالإخلاص سر دقيق لا يظفر به إلا المتقون.


([1])  من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

([2])  رواه البخاري ومسلم.

([3])  رواه مسلم وابن ماجه.

([4]) الكافي، ج 2 ص 295 رقم 8.

([5]) البخاري- الفتح( 2810)، و مسلم( 1904)

([6]) ابن ماجه.

([7]) الحاكم ج 4 ص 330 باختلاف، و ابن ماجه رقم 4205 بنحوه.

([8])  الكافي، ج 2 ص 296 رقم 14.

([9]) الكافي ج 2 ص 293 رقم 4.

([10]) الكافي، ج 2 ص 295 رقم 11.

([11])  الكافي، ج 2 ص 296 رقم 13.

([12]) البخاري ج 8 ص 130 .

([13]) أبو داود( 4881). و أحمد ( 4/ 229)

([14]) أحمد، 4/ 126.

([15])  الحاكم 4/329، وأبو نعيم في الحلية 1/268-269 .

([16]) أحمد، 5/ 429، البيهقي في الشعب( 5/ 332)/ 6831.

([17]) أبو داود( 2519)، و الحاكم( 2/ 85- 86)، و قال: حديث صحيح الإسناد، و وافقه الذهبي.

([18]) أبو داود( 2515) و اللفظ له، و الحاكم في المستدرك( 2/ 85)، و قال: حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه.

([19]) الكافي ج 2 ص 294 رقم 5.

([20]) ابن ماجة( مقدمة: 254)، و الحاكم في المستدرك( 1/ 86)

([21]) سنن ابن ماجه( 256) و اللفظ له، و الترمذي( 2383)، و قال الترمذي: حسن غريب.

([22]) الكافي، ج 2 ص 295.

([23]) مسلم( 1905)

([24])  مسلم (2722) ، وابن أبي عاصم في السنة (320)

([25])  رواه مسلم (1290)

([26])  البخاري في الأدب المفرد (716) 

([27])  رواه الحاكم (1944)

([28])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 141 .

([29])  المرجع السابق، ج‏6، ص: 164 .

([30])  رواه البخاري ( 422 ) ومسلم ( 777 )

([31])  رواه البخاري ( 698 ) ومسلم ( 781 )

([32])  رواه مسلم ( 730 )

([33])  رواه مسلم وغيره.

([34])  مسلم (1017) (69) [4/2060]

([35]) الكافي ج 2 ص 296 رقم 16.

([36]) مسلم ج 3 ص 93.

([37]) البيهقي في الشعب.

([38])  مسلم (2642)

([39])  الترمذي ج 9 ص 231.

([40])  الكافي، ج 2 ص 297  رقم 18.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *