احتقار المذنبين

بعد أن كتبت إليك ـ أيها المريد الصادق ـ الرسالة السابقة التي حدثتك فيها عن المثالب الخطيرة التي يتعرض لها من يحتقر الذنوب ويستهين بها ويستصغرها، خشيت أن يتسرب إليك بعض التلبيسات حول ما ذكرت؛ فتتوهم أن تلك النصوص المقدسة التي تطالبنا بتعظيم الذنوب، وعدم احتقارها، تطالبنا معها باحتقار المذنبين وازدرائهم، والأمر ليس كذلك.
فاحتقار الذنوب يعطي النفس الأمارة هواها، ويجعلها تُقدم على المعاصي بكل جرأة ووقاحة، فتنتقل من الصغائر إلى الكبائر، ومن اللمم إلى الإدمان، ومن المسارعة بالتوبة إلى تأجيلها أو تعطيها.. بينما احتقار المذنبين وازدراؤهم والتعامل معهم بقسوة، يجعل من النفس الأمارة طاغوتا وجبارا متكبرا، ويجعل العاصي مصرا عنيدا.
ولذلك كان من الذنوب الكبيرة، والمثالب العظيمة التعامل مع المذنبين بالاحتقار والازدراء، لا بالدعوة والرحمة واللطف.
وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، ويؤكده، ويبين عظم خطره، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) ([1])
هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ تأثير تلك المواقف المتشددة في مصير صاحبها.. فلا تستهن بذلك، ولا تتوهم أن ذلك مخالف للعدالة؛ فلا يقول ذلك إلا من لا يعرف العدالة.
فأول الجرائم التي ارتكبها ذلك المتألي على الله، المحتقر لأخيه ادعاؤه أنه الديان، وأنه من يملك المغفرة والرحمة، والجنة والنار، وبذلك يكون قد انتحل منصبا لا يستحقه، وليس أهلا له، بل جعل نفسه شريكا لله تعالى.
وثاني الجرائم هو النظر إلى أخيه بعين الاتهام، لا بعين الرحمة، ولو أنه نظر إليه باعتباره جاهلا يحتاج إلى تعليم، وعاصيا يحتاج إلى دعوة، ومريضا يحتاج إلى طبيب، لما وقف منه ذلك الموقف.
وثالث الجرائم وأخطرها هو أنه أعطى صورة سيئة للدين والتقوى والصلاح، تجعل النفوس تنفر منها.. فالفطرة الإنسانية مجبولة على القبول من أصحاب اللين والرفق، والنفور من التشدد والمتشددين، ولهذا دعا الله تعالى موسى عليه السلام إلى التعامل باللين مع فرعون، فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]
وقد روي في الحديث أن أعرابيا بال في المسجد، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقعوا فيه.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة.. ولذلك عالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم.. وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل..
لذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله، ونهى أصحابه أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)
ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ بكل رِفق، وبكل سهولة، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً) ([2])
وقريب من هذا ما حدث به بعض الصحابة قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ([3])
وقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع إلي لأحدثك عن كيفية علاج هذه الحالة إن طرأت عليك، ولا أحسبها ستطرأ عليك؛ فأنا أعلم تواضعك وورعك ومراعاتك لشريعة ربك.. ولكن مع ذلك لا بد أن تحتاط لنفسك، والعاقل هو الذي يحتاط لكل شيء، حتى لا تتسرب إليه وساوس الشيطان؛ فتخرب كل ما بناه بموقف أو كلمة.
العلاج المعرفي:
أول علاج لهذا المثلب من مثالب النفس الأمارة ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعلم أن الهداية هبة إلهية، وفضل رباني، وأن الذي أعطاها يمكن أن يمنعها، وأن أولى الناس بالحرمان منها أولئك الذين يستكبرون بها، ولا يتواضعون لها.
فلذلك كان أدبك مع ربك، أن تترك عباده له؛ فكما هداك يمكن أن يهديهم، وكما أصلحك يمكن أن يصلحهم؛ فلم تتدخل بين ربك وعباده، وأنت لست سوى عبد من عباده، وليس لك من وظيفة معهم سوى النصيحة والبلاغ والدعوة، ثم تركهم بعد ذلك لله، إن رآهم أهلا للهداية هداهم، وإن رآهم لغير ذلك تركهم مع نفوسهم.
لقد قال الله تعالى ذلك.. لا لي.. ولا لك.. وإنما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك السراج المنير الحريص على هداية الخلق.. لقد قال الله له: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (قّ:45)، وقال: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:22)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الأنعام:107)
وقد حصر القرآن الكريم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه على البلاغ، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة:99).. {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} (الشورى: 48)
ففي هذه الآيات تصريح بأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقصور على التبليغ، وأنه أُرسل مبلغاً، ولم يُرسل حفيظاً عليهم، مسؤولاً عن إيمانهم وطاعتهم، حتى يمنعهم عن الإعراض، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه؛ فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووظيفته، فكيف حالنا نحن؟
ولنفرض ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لم تُكلف بالتبليغ فقط، وإنما كلفت بالهداية أيضا؛ فهل ترى أن ذلك التشدد يمكنه أن يؤدي دوره في إصلاحهم، أم أنه سيتحول إلى حجاب بينهم وبين الهداية؟
وهل ترى أن الدعاء لهم بالهداية والصلاح أولى أم الدعاء عليهم بالويل والثبور، والذي لن يزيدهم إلا بعدا عن ربهم الذي تريد أن تقربهم منه، وقد روي في الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له ـ بعد الأذى الشديد الذي أصابهم من ثقيف ـ: (يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم)، فقال: (اللهم اهد ثقيفا) ([4])
وروي أنهم طلبوا منه أن يدعو على المشركين، ويلعنهم، فقال: (إني إنما بعثت رحمة، ولم أبعث لعانا) ([5])
ومما يروى في ذلك عن بعض الصالحين أنه مر بجانبه زورق فيه شباب يظهر عليهم المجون، وكانوا يغنون ويرقصون، وقد لعبت الخمر برؤوسهم، فقال له أصحابه ـ وكان مستجاب الدعوة ـ: ادع عليهم؛ فرفع الصالح كفه، وقال: (اللهم كما أفرحتهم في الدنيا فأفرحهم في الآخرة)؛ فصاح به أصحابه معترضين، يقولون له: نقول لك ادع عليهم فتدعوا لهم، فقال لهم: (وما يضيركم.. إن أفرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا)
وإن استشكلت ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الحكاية، ورحت تلوم صاحبها، فاقرأ قصة إبراهيم عليه السلام مع قريبه، وكيف كانت معاملته له، ولولا أنه نهي عن الدعاء له والاستغفار لما كف عن ذلك.. ومثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعرف المنافقين ومع ذلك ظل يدعو ويستغفر لهم إلى أن نهاه الله عن ذلك.
واذكر بعد هذا ـ أيها المريد الصادق ـ قصة أولئك السحرة الذين دخلوا على فرعون، وهم يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] لكنهم ما لبثوا حتى صاروا يقولون لفرعون بكل عزة وإيمان: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72، 73]
في نفس الوقت الذي تحول فيه ذلك الصحابي الذي صحب موسى عليه السلام، وكان مقربا منه إلى داعية للضلالة والشرك.. لاشك أنك تعرفه.. إنه السامري.. ذلك الذي استغل غياب موسى عليه السلام ليخلفه شر خلافة، قال تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } [طه: 85 – 89]
بل إن الأمر لم يكن قاصرا على ذلك السامري، ولا على أولئك النفر الذين اتبعوه، بل إن الله تعالى أخبر عن بني إسرائيل أنهم بعد أن اجتازوا البحر {أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]
ولهذا تذكر دائما ـ أيها المريد الصادق ـ ذلك الحديث الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)([6])
واعلم بعد هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن الله يعاملك بما تعامل به غيرك؛ فإن رحمتهم رحمك، وإن عفوت عنهم عفا عنك، وإن أحسنت إليهم أحسن إليك، فلذلك أنت بين أن تعامل المخطئين بالرحمة، فيرحمك، أو تعاملهم بقسوة، فتعامل بمثل ذلك.. لأنك لا تخلو من معصية وخطيئة وذنب.. فاختر لنفسك، فلعل ذنوبك الباطنة أخطر من ذنوبهم الظاهرة، ولعل كبرك في التعامل معهم أخطر من كل ذنوبهم ومعاصيهم.
العلاج السلوكي:
إذا عرفت هذا كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واستقرت معانيه في نفسك، امتلأت بالسلام والرحمة لكل الخلق، وتحققت فيك تلك المعاني النبيلة التي حكاها الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكيف كان يحزن ويتألم لحال المعرضين، ويمتلئ شفقة عليهم، على الرغم من الأذى الشديد الذي كان يناله منهم.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6)، وقال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر:8)، وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النحل:127)، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)
فتعلم هذا الحزن الصادق الممتلئ بالرحمة من نبيك صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو قدوتك وأسوتك.. وليس أولئك الغلاظ الشداد الذين نصبوا أنفسهم دعاة للخلق من غير إذن إلهي، ولا بصيرة إيمانية.. فراحوا يصرفون الناس عن الدين، وهم يظنون أنهم يدعونهم إليه.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لن ترتقي بنفسك إلى المقامات التي أتيحت لهم ما لم تكن فيك هذه الخلة النبوية، فلن يقرب الله أحدا إلا إذا كان يسير على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وعلى منهاجه منهاج النبوة التي هي رحمة للعالمين.. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:107)، بل إن الله تعالى سماه باسمين من أسماء رحمته، فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)
ومما ييسر لك هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجعل بصيرتك ترى العاصين مثل قوم اقتربت النيران من بيوتهم، تريد أن تحرقهم؛ فلذلك تقتضي الرحمة أن تسرع إليهم لتنقذهم، لا أن تنظر إليهم بشماتة وحقد.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا، ونبه إليه عند التعامل مع المنحرفين والمخطئين؛ فقال: (إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب) ([7])
ومما يروى في السنة النبوية من هذا أن أول رجل أقيم عليه الحد في الإسلام أُتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: (يا رسول الله، إن هذا سرق)، فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمادا، فقال بعضهم: مالك يا رسول الله، فقال: (وما يمنعني؟ وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، والله عز وجل عفو يحب العفو، ولا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحد إلا أقامه، ثم قرأ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]) ([8])
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر، قال: اضربوه، فأمر بإقامة الحد عليه، فلما انصرف، قال بعض القوم: (أخزاك الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) ([9])
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستورد لي ما ورد في القرآن الكريم في حق مرتكبي الفاحشة، وكيف أمرنا بالغلظة عليهم، كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]
فاعلم أن هذه الآية الكريمة تدعو إلى حفظ الأعراض والتشدد فيها، وعدم اللين مع مشيعي الفواحش، حتى يحفظ المجتمع من كل مظاهر الانحراف، وهي بذلك ليست قسوة مجردة، وإنما هي قسوة تربوية، وهي التي قصدها الشاعر بقوله:
وقسا ليزدجروا ومن يك راحما… فليقس أحيانا على من يرحم
ومما يدلك على هذا ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بعد إقامة الحد على بعضهم: (بكتوه)، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله، ما خشيت الله، وما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرف قال بعض القوم: (أخزاك الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا الشيطان على أخيكم.. ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) ([10])
وإياك بعد هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقوم بفضحه؛ فإن في ذلك إشاعة للفاحشة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة) ([11])، وقال: (من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موءودة من قبرها) ([12])، وقال: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته) ([13])
ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ بل استعمل كل وسائل الحيلة لأن تدلهم على ربك، وتعرفهم بدينهم، فإنهم لو عرفوه لأقبلوا عليه بكل كيانهم، ولكان لك في ذلك الأجر العظيم، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) ([14])
واسمع لهذه الحكاية التي رويت عن رابعة العدوية، وكيف استطاعت أن تحول لصا إلى طريق الله، على الرغم من أنه جاء ليسرقها، فقد روي أن لصا دخل بيتها بعد منتصف الليل من أجل السرقة، فبحث فلم يجد شيئا إلا إبريقا؛ فلما أراد الخروج نادته قائلة: يا هذا إن كنت من الشطار فلا تخرج بغير شيء، فقال لها: إني لم أجد شيئا، فقالت: يا مسكين خذ هذا الإبريق، وتوضأ، وادخل في هذا المحراب، وصل ركعتين، فإنك ما تخرج إلا بشيء، فأخذ الإبريق، وتوضأ، ثم دخل محرابها، وحينها رفعت رابعة العدوية يدها إلى السماء وقالت: (سيدي ومولاي هذا قد أتى بابي، ولم يجد شيئا عندي، وقد أوقفته ببابك، فلا تحرمه من فضلك وثوابك)، فلما فرغ من صلاته قذف الله تعالى في قلبه الإيمان، فلذت له العبادة، وما برح يصلي إلى أن أذن الفجر، فلما دخلت عليه وجدته باكيا مصليا، فلما أراد الخروج سألته: كيف كانت ليلتك؟ فقال: وقفت بين يدي مولاي بذلي وافتقاري، فقبل عذري وتوبتي، وجبر كسري، وغفر لي الذنوب وبلغني المطلوب، ثم خرج، فرفعت يديها إلى السماء، ودموعها تجري، وقالت: (سيدي ومولاي، هذا وقف ببابك ساعة فقبلته، وأنا منذ عرفتك بين يديك هلا قبلتني)، فنوديت: (يا رابعة من أجلك قبلناه، وبسببك قربناه)
تأمل هذه الحكاية ـ أيها المريد الصادق ـ ولا تسألني عن رابعة وبلدها وعصرها ومواقف الناس منها.. فكل ذلك لا يجديك.. والعاقل هو الذي يأكل اللباب، والأحمق هو الذي يشتغل بالقشور.. فكل المبقلة ولا تسأل عن البقال.
وابحث لك عن اسم في عالم الولاية.. فهو عالم مملوء بالأنوار، ولا يدخل إليه
إلا الصادقون المخلصون الممتلئون بالحكمة.. فاسع لأن تكون منهم.. ولن تكون منهم
حتى تسير على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن تنحرف عن سراطه
المستقيم.
([1]) أبو داود (4/275)
([2]) رواه البخاري وغيره.
([3]) رواه مسلم.
([4]) الترمذي رقم (3937)
([5]) مسلم رقم (2599)
([6]) رواه البخاري 11/ 417، ومسلم رقم (2643)
([7]) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
([8]) مسند أحمد (7/ 84)، الطبراني في الكبير (8572) ، والبيهقي 8/331.
([9]) رواه البخاري، 6777.
([10]) رواه أبو داود: 4478 .
([11]) رواه أحمد.
([12]) رواه البخاري في الأدب، وأبو داود والحاكم.
([13]) رواه ابن ماجة.
([14]) رواه البخاري ومسلم.