احتقار الذنوب

احتقار الذنوب

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن قولهم: (لا صغيرة مع الإصرار)، وهل يمكن اعتبارها قاعدة شرعية يمكن الركون إليها، أم أنها مجرد اجتهاد ورأي؟.. وكيف يكون الإصرار؟.. وكيف تُهذب النفس بالتخلص منه؟.. وهل في الذنوب صغائر وكبائر؟.. وكيف يُميز بينهما؟

وغيرها من الأسئلة الكثيرة الوجيهة التي لا يمكن لمن يريد السير إلى الله وتهذيب نفسه الأمارة أن يجهلها.. فالعلم بالطريق، وعقباته، وكيفية تجاوزها علم ضروري، لا يصلح السير من دونه.. فكيف إذا كان السير إلى الله، وكانت العقبات عقبات النفس الأمارة؟

وهل يمكن لشخص أن يقيم صلاته، أو يؤدي زكاته، أو يقوم بمناسك حجه من دون معرفة الأحكام الفقهية المرتبطة بها؟.. فكذلك العلم بالسلوك إلى الله واجب كوجوبها، ضروري كضرورتها، وتهاون الخلق في شأنه، أو رغبته عن تعلمه، لا يلغيه، فالعبرة بالحقائق لا بمواقف الخلق منها.

وبخصوص ما ذكرت من تلك المقولة؛ فهي مقولة صحيحة، وهي محل اتفاق من الأمة جميعا، وقد اتفق على روايتها والاهتمام بها كل علماء السلوك والتربية..

وقد رويت بتلك الصيغة عن الإمام الصادق، وقد تكون من روايته عن أجداده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عنه قوله: (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار) ([1])

بل إن الواقع يدل عليها.. فالذي يتساهل في المخالفات الصغيرة يتجاوزها إلى الكبيرة، والذي يسرق البيضة يوشك أن يسرق جملا، والذي يشرب كأسا من الحرام يوشك أن يصبح مدمنا..

والعقل يدل عليها.. ذلك أن كل المعاصي مبنية على الهوى والشهوة، وهما لا قرار لهما، فمن بدأ بالصغير يوشك أن تطالبه نفسه بالمزيد إلى أن يصل إلى الكبير.

ومما يروى في الحكايات أن بعض الصالحين كان يمشي في الوحل جامعا ثيابه محترزا، لكن رجله زلقت، وسقط، واتسخت ثيابه، فقام يمشي وسط الوحل، ويبكي، ويقول: (هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب أو ذنبين، فعندها يخوض في الذنوب جميعا)

وقد صاغ ذلك بعضهم شعرا، فقال:

خلّ الذنوب صغيرها… وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماشٍ فوق…أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة…إن الجبال من الحصى

بل روي في الحديث ما يشير إلى هذا المعنى، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء، ما بها من حطب! قال: فليأتِ كلّ إنسان بما قدر عليه؛ فجاؤوا به حتَّى رموا بين يديه بعضه على بعضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هكذا تجتمع الذّنوب)، ثم قال: (إيّاكم والمحقّرات من الذّنوب؛ فإنّ لكل شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب {مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12])([2])

ولهذا لم يصف الله تعالى الصالحين من العباد بالعصمة المطلقة من الذنوب، وإنما وصفهم بعدم الإصرار عليها، والمسارعة إلى التوبة منها، قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، ثم عقب على ذلك بقوله: { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لهذا المثلب من مثالب النفس الأمارة طرقا من العلاج تجتمع في أمرين: العرفان الذي تغذي به عقلك، والسلوك الذي تحرك به نفسك.

العلاج العرفاني:

أما الأول، وهو العلاج العرفاني؛ فينطلق من تعظيمك لربك؛ فكل الذنوب سببها الجرأة على الله، وهي بسبب عدم توقيره وتعظيمه، كما يروى عن الإمام علي قوله: (من أصرّ على ذنبه؛ اجترأ على ربه) ([3])

وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 74]، وقال عن خطاب نوح عليه السلام لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14]، ثم عقب بعدها بذكر بعض مظاهر عظمة الله تعالى، فقال: { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا } [نوح: 15 – 20]

فهذه الآيات الكريمة، وغيرها كثير من القرآن الكريم يدلك على الطريق الذي تتعرف به على عظمة الله، هو النظر في آياته، وخلقه، وعندما تمتلئ نفسك بمعاني عظمته، تمتلئ بتوقيره، وعند امتلائك بذلك تحذر من معصيته، وتستعمل كل السبل للتقرب إليه.

وإن شئت أن تعرف سر هذا، فاعلم أن الفطرة الإنسانية مجبولة على تعظيم من يملكون القدرات بمختلف أنواعها سواء ارتبطت بالعلم أو بغيره، ولهذا ذكر القرآن الكريم موقف ملكة سبأ حين رأت القصر الممرد من القوارير، ورأت قبل ذلك عرشها، فلم تملك إلا أن تقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]

وهكذا أخبر الله تعالى عن أولي الألباب أنهم يقولون بعد التأمل في السموات والأرض: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]

وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تستدل لهذا من الواقع، فانظر إلى مواقف الناس من الأثرياء أو الحكام؛ فهم يتعاملون معهم بحسب مراتبهم، وغناهم، وما يملكون..

ولهذا تجدهم يحذرون من أصحاب المراتب الرفيعة، ويحسبون لهم كل حساب، خشية أن يقعوا في أي سوء أدب معهم قد ينزل عليهم الويلات..

ولهذا، فإن المؤمن العارف بالله وعظمته، يعظم الذنب في عينه حتى لو كان صغيرا، بل إنه يعتقد أن كل الذنوب كبائر.. وهل يمكن أن تسمى معصية الله صغيرة؟

وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا ـ أي بيده ـ فذبه عنه)([4])

وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر قوله: (يا أبا ذر المتّقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذباب مرّ على أنفه، يا أبا ذر إنّ اللَّه تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل الذنوب بين عينيه ممثلة، الإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبد شراً أنساه ذنوبه، يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت، يا أبا ذر إنّ نفس المؤمن أشدّ ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يقذف به في شركه) ([5])

ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت في كلام العلماء في الكبائر والصغائر، وخلافهم الشديد في أصنافهما([6])، لامتلأت بالمخافة، وأخذت بالاحتياط؛ فليس هناك ذنب من الذنوب إلا وهناك من يعتبره كبيرة من الكبائر، وقد يكون الحق مع ذلك القائل، ولذلك كان العاقل الممتلئ بالورع هو الذي يحذر منها جميعا.

لا تحسب ـ أيها المريد الصادق ـ أني أريد بهذا أن أقول لك بأن الذنوب كلها كبائر، وأنه لا توجد هناك صغائر؛ فمعاذ الله أن أخالف برأيي القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء: 31]، ويقول: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، ويقول: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [النجم: 32]

ولكني أدلك على الاحتياط والورع، حتى لا تستهين بما تسميه صغائر، فتتحول إلى كبائر، ذلك أنه مع الخلاف الشديد في مصاديق الكبائر، اتفق العلماء جميعا على أن الصغائر يمكن أن تتحول إلى كبائر، وأول ما يحولها استهانة صاحبها بها، واحتقاره لها.

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك، فقد حدث بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّكم لتعملون أعمالا هي أدقّ في أعينكم من الشعر، كنّا نعدّها في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر)([7])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة عندما وصفت إحدى النساء بالقصر: (يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته)، وقالت: وحكيت له إنساناً ـ أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك ـ فقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) ([8])

ومثله ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من الكبائر السبّتان بالسبّة، ومن الكبائر استطالة الرّجل في عرض أخيه المسلم)([9])

فاعتبر السب الزائد كبيرة من الكبائر مع أنك ـ أيها المريد الصادق ـ لو رجعت إلى دواوين الفقهاء، لوجدتهم يعتبرونها من الصغائر، وقد يهونون من شأنها تهوينا كبيرا.

ولو أنك لو تأملت في الدافع الذي دفع إلى تلك الكلمات لوجدته مرضا نفسيا خطيرا، فقد تكون تلك السبة ثمرة للحسد والحقد والكبر وغيرها من الكبائر المتفق عليها.

العلاج السلوكي:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فعليك أن تشمر على ساعد الجد، وابتعد عن كل من يهون لك شأن المعاصي، أو يدعوك إلى الرجاء الكاذب، فهو داعية ضلالة، والعاقل هو الذي يحذر، ويحتاط إلى أن ينال الفوز والنجاة، وقد قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران: 185]

وإن أردت مثالا مقربا لهذا، فانظر إلى تعاملك مع الأطباء الذين يعالجون جسدك، فإن نصحك بعضهم بترك طعام معين، لتأمن على صحتك، وذكر لك آخر عدم أهمية ذلك.. فلأيهما تميل، أليس لذلك الذي دعاك إلى الاحتياط؟.. خاصة وأنه لا ضرر عليك فيه.. ذلك أن تركك لطعام واحد، للحفاظ على صحتك خير من العبث بهذا لأجل شيء غير متيقن.

وهكذا افعل مع المعاصي.. فاحذر منها جميعا.. فبعضها يؤدي إلى بعض.. وهي جميعا تؤدي إلى الكفر.. فقد قالوا: (المعاصي بريد الكفر)

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا، فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) ([10])

وأشار إلى سره، وسببه، فقال: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ})([11])

وإن رأيت اختلاف العلماء في مسألة، بين التحريم والإباحة، أو بين الفريضة والنافلة، ولم يكن لديك القدرة على الاجتهاد والتحقيق، ولم يكن لك إمام أو مرجع ترجع إليه، فإياك أن تتبع الهوى، وتسرع إلى الرخصة، بل خذ بالأحوط لدينك.

ولا تغفل أن تتأمل كل حين في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 17]، فأسرع بالتوبة، قبل أن تتجذر في نفسك، وتتمكن منها، فيصعب عليك بعدها قلعها، مثل أولئك الذين أشارت إليهم الآية التالية، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]

ولا تلتفت ـ أيها المريد الصادق ـ لمن يزين لك المعصية، بحجة التوبة بعدها، فما أدراك أنك يمكن أن توفق للتوبة، فهي فضل إلهي، ولا يمكن أن تقدم عليه ما لم يكن هناك إذن إلهي مسبق قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة: 118]

وأول من يصرف على التوبة أولئك المصرين المعاندين المستهينين بالمعصية المحتقرين لها.. ذلك أنهم لم يراعوا جناب الحق، ولم يستحيوا منه.. ومن رفع عنه الحياء عند ممارسة المعصية، صعبت عليهم التوبة.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن التوبة ليست لقلقة اللسان بالاستغفار، فهو وحده لا يجدي، بل إنه قد يحتاج هو نفسه إلى استغفار.

واعلم أن الله تعالى قد يضعك بين قوم مسرفين على أنفسهم، فتتوهم أنك من المحسنين، فلا تفعل هذا، فهو من الغرور الكاذب، وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (ربّما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك)

ولذلك احرص على صحبة الصالحين، والأخذ من هديهم لتهذب نفسك وترقيها، وحتى لا تكون من أولئك الذين قالوا ندما: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [الفرقان: 27 – 29]

وليس عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لذلك أن ترحل إليهم، أو تسكن بينهم، بل يمكنك بمحبتهم والتعرف على هديهم، والتواصل معهم أن تكون من الصالحين، فما كلفك الله بأن ترحل بجسدك من بلدك الذي نشأت فيه، ولكنه أمرك بأن ترحل بقلبك وعقلك لتبحث عمن يتناسب مع الرحلة العظيمة التي تريد أن ترحلها.


([1])  أصول الكافي، ج2، ص288. 

([2])  أصول الكافي، ج2، ص288. 

([3])  وسائل الشيعة، ج11، ص368.  

([4])  البخاري 11 / 88 و 89 و 90 ، ومسلم رقم (2744)

([5])  بحار الأنوار، ج 74، ص 77.

([6])  من الأمثلة على الخلاف الوارد في عد الكبائر، ما نقله الغزالي عن أبي طالب المكّي، قال: الكبائر سبع عشرة جمعتها من جملة الأخبار، وجملة ما اجتمع من أقوال الصحابة أربع في القلب: وهو الشرك باللّه تعالى، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره. وأربع في اللّسان: وهي شهادة الزّور، وقذف المحصن، واليمين الغموس- وهي الّتي يحقّ بها باطلا أو يبطل بها حقّا، وقيل: هي الّتي يقتطع بها مال امرئ مسلم باطلا ولو سواك من أراك، وسمّيت غموسا لأنّها تغمس صاحبها في النار-، والسحر وهو كلّ كلام يغيّر الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة. وثلاث في البطن وهي شرب الخمر والمسكر من كلّ شراب، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الرّبا وهو يعلم. واثنتان في الفرج وهما الزنى واللّواط. واثنتان في اليدين وهو القتل والسرقة. وواحدة في الرّجلين وهو الفرار من الزّحف، وواحدة في جميع الجسد وهي عقوق الوالدين، قال: وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حقّ فلا يبرّ قسمهما، وأن يسألاه حاجة فلا يعطيهما، وأن يسبّاه فيضربهما، ويجوعان فلا يطعمهما)

وقد علق الغزالي على هذا بقوله: (هذا ما قاله وهو قريب، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء، إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه؛ فإنّه جعل أكل الرّبا ومال اليتيم من الكبائر وهي جناية على الأموال، ولم يذكر في كبائر النفوس إلّا القتل، فأمّا فق‏ء العينين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرّض له، وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شكّ في أنّه أكبر من أكل ماله) [انظر: إحياء علوم الدين (4/ 17)]

أما ما روي عن الإمام الصادق، من حصر الكبائر فيما ورد في القرآن الكريم من ذكر العذاب المرتبط بأصحابه، فهو يشير إلى أصول الكبائر، أو ما يمكن أن يطلق عليه [أكبر الكبائر]، لأن هناك روايات أخرى كثيرة تدل على غير ما ذكر في الحديث.

ونص الحديث هو أن عمرو بن عبيد دخل على الإمام الصادق، فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ والْفَواحِشَ}، ثمّ أمسك فقال له الإمام: ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك باللّه يقول اللّه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}، وبعده الإياس من روح اللّه لأنّ اللّه يقول: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}، ثمّ الأمن لمكر اللّه إنّ اللّه يقول: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}، ومنها عقوق الوالدين لأنّ اللّه جعل العاقّ جبّارا شقيّا، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحق لأنّ اللّه يقول: {فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها}، وقذف المحصنة لأنّ اللّه يقول: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}، وأكل مال اليتيم لأنّ اللّه يقول: {إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}، والفرار من الزّحف لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وأكل الرّبا لأنّ اللّه يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ}، والسحر لأنّ اللّه يقول:{وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، والزّنى، لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً}، واليمين الغموس الفاجرة، لأنّ اللّه يقول: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} والغلول لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ}، ومنع الزكاة المفروضة لأنّ اللّه يقول: {فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ} وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}وشرب الخمر لأنّ اللّه نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان. وترك الصلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض اللّه لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ترك الصلاة متعمّدا فقد برئ من ذمّة اللّه وذمّة رسوله)، ونقض العهد وقطيعة الرّحم لأنّ اللّه يقول: {أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: (هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم) [الكافي، 2/285]

([7])  رواه البزار في مسنده، وأحمد، مجمع الزوائد ج 1 ص 106 و ج 10 ص 190.

([8])  أبو داود والترمذي.

([9])  قال العراقي: عزاه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبي داود

([10])  أحمد (23/ 71)، والطبراني في  الكبير (13304)

([11])  رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *