التثاقل إلى الدنيا

التثاقل إلى الدنيا
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الدنيا، وحقيقتها، والموقف منها، وهل هي محترمة لكونها دار أولياء الله.. أم هي مذمومة لكونها دار أعدائه؟.. وهل لذلك أثر في تقويم النفس وتعديلها وتربيتها؟.. أم أن ذلك من الفروع التي لا يحتاج إليها السالك لتزكية نفسه وترقيتها لتصبح أهلا لمنازل المقربين والصديقين؟
وكل أسئلتك التي سألتها محترمة وجيهة، والإجابة عليها واجبة، لأنها من الأسس التي يقوم عليها السلوك التحققي والتخلقي؛ فلا يمكن لمن يجهل الدنيا، وكيفية التعامل معها أن يسير السير الصحيح.
ولا تخف ـ أيها المريد الصادق ـ ولا تفزع، فلن أحدثك بأحاديث الأحبار والرهبان، ولن أجلب لك ما ذكره الزهاد والمنقطعون عن الدنيا، فأنا أعلم أنك لا ترغب في أن تخلط دين الله بدين البشر، ولا أن تجعل لك قدوة غير رسولك، وأئمة الهدى وورثة النبوة من بعده، أولئك الذين تمسكوا بالكتاب، ولم ينحرفوا عنه.
الدنيا والقرآن الكريم:
وأول من يجيبك على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ القرآن الكريم؛ فهو الكتاب الذي حوى حقائق الوجود بكل دقة، ولذلك كان أول مصدر تنكشف به الحقائق، وتُميز به عن الأهواء.. ومن أعرض عنه لن يصل إلى الحقيقة، ولو جمع جميع عقول أهل العالم.
وعند عودتنا للقرآن الكريم نجد الله تعالى يهون من شأن الدنيا، ويعتبرها دار غرور، وأن من انشغل بها انشغل عن الخير كله.. وليس ذلك ـ كما يتوهم المقصرون في فهم لغة القرآن الكريم وحقائقه ـ ذما للدنيا، أو احتقارا لها، فما خلق الله شيئا إلا لحكمة وغرض، ويستحيل عليه العبث.
وإنما هو مثل ذلك الأستاذ الذي يقول لتلاميذه في المرحلة الابتدائية، وفي حصة الحساب: أتقنوا جيدا ما تدرسونه من هذه المسائل والمعالات.. لأنكم ستحتاجون إليها في مستقبل دراستكم.. وكل ما درستموه الآن سيكون حقيرا وبسيطا وهزيلا جدا أمام ما لم تدرسوه.
وهكذا الأمر بل هو أعظم منه، في ذكر القرآن الكريم للدنيا، فهو يقول للمنشغلين بها، إما بعلومها، وما يغذي عقولهم منها.. أو ما يغذي بطونهم وأهواءهم: إن ما ترونه لا يساوي شيئا أمام ما لم تروه.. فلذلك جهزوا أنفسكم لتصبح صالحة لتلك العوالم التي لا تساوي الدنيا أمامها شيئا.
وهو يبادر قبل ذلك، فيقرر في نفوس المؤمنين أن الله تعالى رب الدنيا والآخرة، وأنه الخالق لهما جميعا، وأنه العالم بهما، وبصفات كل منهما، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء: 134]
وانطلاقا من ذلك يبين الله تعالى ـ باعتباره مالك الدنيا والآخرة والخبير بهما جميعا ـ أن الدنيا لا تساوي شيئا أمام الآخرة، ومثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل رجل يريد أن يري قوما بعض قصوره وضياعه؛ فإذا رأوا بعضها، وبهتوا لها، قال لهم: هذا شيء هين وقليل وحقير جدا بجانب ما لم تروه..
وقد ورد ذلك التهوين من شأن الدنيا مقارنة بالآخرة بصيغ كثيرة، منها قوله تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [القصص: 60] ، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن كل ما في الدنيا من متاع وزينة يوجد ما هو خير منه وأدوم في الآخرة.. ولذلك فإن الزاهد في الدنيا، لن يضيع زهده، بل سيكسب أضعاف ما يتوهم المتثاقلون أنه خسره، بإضافة عنصر الزمان وامتداده، والذي حرم منه المتثاقلون إلى في الدنيا.
وقد عقب الله تلك الآية الكريمة بقوله: { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [القصص: 61]، وهي تدل على أنه لا وجه للمقارنة بين المؤمن الذي وثق في وعد الله الذي سيلقاه لا محالة، وبين ذلك الذي اكتفى بالنصيب المحدود الذي يعيش به في الدنيا، ثم يلاقي في الآخرة الأهوال بسبب تثاقله.
وهكذا يخاطب القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن ما أعد الله تعالى لهم في الآخرة، لا يمكن مقارنته بما يرونه من النعيم الذي يعيشه المتثاقلون إلى الدينا، ذلك النعيم الممتلئ بكل أصناف المنغصات، قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
ويخاطب الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسليا له وللمؤمنين على ما فاتهم أو يفوتهم من الدنيا، فيقول: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، ويقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنعام: 32]
ويبين مدى غفلة المتثاقلين إلى الدنيا وغبائهم عندما يسخرون من الزاهدين في الدنيا، فيقول: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]
ويذكر بعض مجامع نعيم الدنيا، ويبين مدى انحطاطها مقارنة بنعيم الآخرة، فيقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14]
ثم يبين بعض مظاهر ذلك النعيم المعد للمؤمنين في الآخرة، والذي لا يمكن مقارنة أي نعيم في الدنيا به، فيقول: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15]
والغرض من تقرير هذه المعاني جميعا، ليس مجرد اتخاذ موقف من الدنيا، وإنما لتأثير ذلك في السلوك التحققي والتخلقي؛ فالمقبل بكل همته على الدنيا المتثاقل لها، يستحيل عليه أن يطهر نفسه أو يزكيها، أو يرقى بها إلى مراتب الكمال التي تستدعي المجاهدات الطويلة، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
ولهذا يقرن الله تعالى التكاليف المشددة بالنهي عن التثاقل إلى الدينا، ومن أمثلتها قوله تعالى في الحث على الجهاد والتضحية في سبيل نصرة المستضعفين المظلومين: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]
ويذكّر المتثاقلين إلى الدنيا بأن الموت قادم لا محالة، ولذلك لا داعي إلى الحرص الشديد على الحياة، خصوصا إذا ما تنافت التكاليف الشرعية مع ذلك الحرص، قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]
ويذكرهم بأن الدنيا تشبه تلك الأيام المعدودة التي تخرج الأرض فيها بعض خيراتها، ثم سرعان ما يصيب القحط كل شيء، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]
ويذكرهم بأن السبب الأكبر في كل الانحرافات التي وقع فيها البشر تثاقلهم إلى أهواء الدنيا، قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يونس: 7، 8]، وقال: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]
ويذكرهم بأن ذلك لا يعني الانصراف التام عن الدنيا، بحيث ينصرف المؤمنون عنها انصرافا تاما يحول بينهم وبين أي عمل إيجابي فيها؛ فذلك ليس هو المراد، وإنما النهي قاصر على التثاقل إليها والحرص عليها والتكاثر فيها، لا الأخذ منها بقدر الحاجة، قال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 32]
وقال حاكيا عن المؤمنين من قوم قارون، ونصيحتهم له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]
بل إن الله تعالى يخبر أنه ـ بفضله ورحمته ـ يعطي عباده الصالحين المترفعين عن الدنيا، ما يحتاجونه منها، من غير أن يؤثر ذلك في طهارة نفوسهم، وصفاء قلوبهم، أو يحول بينهم وبين السير إلى ربهم، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 – 64]، وقال: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30]
ويضرب المثل على ذلك بأولئك المجاهدين مع أنبيائهم، والذين آثروا أن يضحوا بأنفسهم في سبيل القيم التي جاءوهم بها، بأن الله آتاهم كلا الثوابين: ثواب الدنيا، وثواب الآخرة، قال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 – 148]
هذه بعض الآيات القرآنية التي وردت في شأن الدنيا، ويمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ بالتدبر فيها أن تعرف حقيقتها، وأنها مجرد مرحلة ابتدائية قصيرة من حياة الإنسان والكون، وأن الله تعالى لم يخلقها باعتبارها دارا للجزاء، وإنما باعتبارها دارا للابتلاء والتكليف والامتحان، لذلك اختلط النعيم فيها بالعذاب، والصالحين بالمفسدين..
ولذلك كانت النجاة فيها مثل النجاة في أي امتحان، وهو الانشغال به عن غيره.. فمن انشغل يوم الامتحان باللهو واللعب والنوم، فلن يجني إلا الخيبة والخسارة، ومن جد في امتحانه واجتهد وأخذ من الراحة بقدر الحاجة نجح ورقى في مراتب الفائزين.
وكل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يعني احتقارا للدنيا بذاتها، وإنما الاحتقار موجه لأصحاب الهمم الدنية الذين آثروا القليل على الكثير، والفاني على الدائم، والنعيم المنغص على النعيم الخالص.
الدنيا والنبوة:
بعد أن عرفت ـ أيها المريد الصادق ـ حقيقة الدنيا، ومنزلتها من خلال كلمات ربك المقدسة، سأذكر لك بعض البيان النبوي بشأنها.. وهو بيان يؤكد ما ذكره الله، ويبين مناهج تنفيذه، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]
ولهذا استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتقرير تلك الحقائق القرآنية الكثير من المناهج، ومنها ذلك المثل الذي ضربه لأصحابه وأمته عندما مر على شاة ميتة، فقال: (أترون هذه الشاة الميتة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم من هوانها ألقوها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (والّذي نفسي بيده، الدّنيا أهون على اللّه عزّ وجلّ من هذه على صاحبها، ولو كانت الدّنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)([1])
وهذا الحديث لا يحتقر الدنيا بذاتها ـ كما قد يُتوهم ـ وإنما يبين ضآلة ما فيها من متاع مقارنة بالمتاع المعد في الآخرة.. فمتاع الدنيا جميعا يشبه تلك الشاة الميتة، ولذلك كان التثاقل إليها، أو الصراع من أجلها يشبه الصراع على من يملك تلك الشاة.
وبهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع صورة للدنيا في نفوس المؤمنين تبعدهم عن التثاقل إليها، وهي صورة الشاة الميتة صاحبة الرائحة الكريهة، أو صورة البعوضة أو جناحها، ليقول لهم: كيف لكم أن تضحوا بسعادة الأبد من أجل هذه القاذورات التي يتهافت الخلق عليها؟
وفي حديث آخر يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا بالمزبلة التي تتراكم فيها القاذورات، فقد روي أنه وقف على مزبلة، فقال: (هلمّوا إلى الدّنيا، وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت فقال: هذه الدّنيا) ([2])
وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الحقيقة بعينها، وليست مجرد مثال، ذلك أن مآل كل زينة في الدنيا يتهالك عليها الناس إلى تلك الصورة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلا للدنيا، فكل الثياب ستبلى، وكل الجمال سيذبل، وكل الطعام سيتحول إلى المزابل.
ولهذا يعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا لضآلتها وقلتها سجنا بالنسبة للمؤمن الذي تنتظره الجنات التي وسعت السموات والأرض، قال صلى الله عليه وآله وسلم: و قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر)([3])
ويضرب المثل على ذلك بتلك الآلام التي يجدها المستغرقون في حب الدنيا، فيقول: (من أصبح والدّنيا أكبر همّه فليس من اللّه في شيء، وألزم اللّه قلبه أربع خصال: همّا لا ينقطع عنه أبدا، وشغلا لا يتفرّغ منه أبدا، وفقرا لا ينال غناه أبدا، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا)([4])
ويعتبر أن كل شيء في الدنيا يحول بين المؤمن وتلك السعادة ملعون، فيقول: (الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ما كان للَّه منها)([5])
ويعتبر الدنيا والآخرة مثل الضرتين إذا أحب أحدهما أبغض الأخرى، فيقول: (من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)([6])
ويبين المصير الذي يصير إليه المتثاقلون إلى الدينا، فيقول: (ليجيئنّ أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النّار، فقيل: يا رسول اللّه أ مصلّين؟ قال: نعم كانوا يصومون ويصلّون ويأخذون هنة من اللّيل فإذا عرض لهم من الدّنيا شيء وثبوا عليه)([7])
ويقول في بعض خطبه: (المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما اللّه قاض فيه فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، فإنّ الدّنيا قد خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة، والّذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدّنيا من دار إلّا الجنّة أو النار)([8])
ولهذا يعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة)([9])، ويتعجب من الذي يقضي كل عمره في اللهث خلفها، فيقول: (يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور)([10])
ويبين أن الغرض من الدنيا ـ مثلما ذكر القرآن الكريم ـ هو الاختبار والابتلاء، وليس التثاقل إليها، أو الاطمئنان لما فيها والصراع من أجله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الدّنيا حلوة خضرة، وإنّ اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، إنّ بني إسرائيل لمّا بسطت لهم الدّنيا ومهّدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب)([11])
ويضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه أروع المثل في الموقف من الدنيا، والزهد فيها، فيقول: (ما لي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها)([12])
وهكذا ورد في الآثار الكثيرة عن موقف الأنبياء عليهم السلام من الدنيا([13]).. ومن أمثلتها قول المسيح عليه السلام: (لا تتّخذوا الدّنيا ربّا فتتّخذكم الدّنيا عبيدا، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيّعه لكم؛ فإنّ صاحب كنز الدّنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز اللّه لا يخاف عليه الآفة)
و قال: (يا معشر الحواريّين إنّي قد كببت لكم الدّنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي؛ فإنّ من خبث الدّنيا أن عصي اللّه فيها، وإنّ من خبث الدّنيا أنّ الآخرة لا تدرك إلّا بتركها، ألا فاعبروا الدّنيا ولا تعمروها، واعلموا أنّ أصل كلّ خطيئة حبّ الدّنيا، وربّ شهوة ساعة أورثت أهلها حزنا طويلا)
و قال: (الدّنيا طالبة ومطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدّنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدّنيا تطلبه الآخرة حتّى يجيء الموت فيأخذ بعنقه)
و قال: (لا يستقيم حبّ الدّنيا والآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد)
و قال: (يا معشر الحواريّين ارضوا بدنيّ الدّنيا مع سلامة الدّين كما رضي أهل الدّنيا بدنيّ الدّين مع سلامة الدّنيا)
ويروى أنه مر بقرية، فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق فقال لهم: يا معشر الحواريّين إنّ هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح اللّه وددنا أنّا علمنا خبرهم، فسأل ربّه فأوحى اللّه إليه إذا كان اللّيل فنادهم يجيبوك، فلمّا كان اللّيل أشرف على نشز من الأرض، ثمّ نادى: يا أهل القرية؟ فأجابه مجيب: لبّيك يا روح اللّه، فقال: ما حالكم وما قصّتكم؟ قالوا: بتنا في عافية وأصبحنا في هاوية، قال: وكيف ذلك؟ قال: لحبّنا الدّنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبّكم للدّنيا؟ قال: حبّ الصبيّ لامّه إذا أقبلت فرحنا وإذا أدبرت حزنّا وبكينا، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: لأنّهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال: كيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: لأنّي كنت فيهم ولم أكن منهم، فلمّا نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلّق على شفير جهنّم لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها، فقال المسيح عليه السّلام للحواريّين: لأكل خبز الجريش بالملح الشعير ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدّنيا والآخرة)([14])
ومثله ما روي أنّ جبريل عليه السّلام قال لنوح عليه السّلام: يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدّنيا؟ قال: (كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من آخر)
وروي أن سليمان عليه السّلام مر في موكبه والطير تظلّه والجنّ والإنس عن يمينه وعن يساره، فمرّ بعابد من عبّاد بني إسرائيل فقال: واللّه يا ابن داود لقد آتاك اللّه ملكا عظيما، فسمعه سليمان عليه السّلام، فقال: (لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير ممّا أعطي ابن داود، فإنّ ما أعطي ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى)
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام: (يا موسى مالك ولدار الظالمين إنّها ليست لك بدار أخرج منها همّك وفارقها بعقلك، فبئست الدّار هي إلّا لعامل يعمل فيها فنعمت الدّار هي، يا موسى إنّي مرصد للظالم حتّى آخذ منه للمظلوم)
وروي أنه أوحي إليه: (يا موسى لا تركننّ إلى حبّ الدّنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشدّ عليك منها).
وروي أنه مرّ برجل وهو يبكي، ورجع وهو يبكي، فقال موسى عليه السلام: يا ربّ عبدك يبكي من مخافتك؛ فقال: (يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموع عينيه، ورفع يديه حتّى تسقطا لم أغفر له وهو يحبّ الدنيا)
فاعتبر ـ أيها المريد الصادق ـ بهذه المواعظ، واملأ بها قلبك، ولا تسمع لأولئك المتثاقلين إلى الدينا الذين يوهمونك أن الله خلقك لها لا له، أو خلقك لتستقر فيها لا لتعبر منها.. فأعظم الناصحين هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما عداهم إن كان على طريقهم، فهو وارث من ورثتهم، وإن لم يكن على طريقهم، فهو حجاب دونهم، فإياك أن تضيع طريق الأنبياء وتسير في طرق أصحاب الأهواء.
الدنيا وأئمة الهدى:
ومما يؤكد لك كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ اتفاق جميع أئمة الهدى، وورثة النبوة على ذلك؛ فأحاديثهم مملوءة بالوصايا التي تحذر من التثاقل إلى الدنيا، والانشغال بأهوائها.
ولا يمكنني في هذه الرسالة أن أذكر لك كل ما ذكروه، ولذلك أكتفي لك بنموذجهم الأرفع، ومثلهم الأسمى، إما المتقين الأكبر، وتلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعظم، يعسوب الدين.. ذلك الإمام الذي مثل التلمذة للنبوة أحسن تمثيل، فكان معجزتها الكبرى، وآيتها العظمى؛ فقد وردت عنه الكثير من المواعظ والخطب والكلمات النيرة، وكانت حياته كلها مصداقا للتسامي عن الدنيا.
فمن مواعظه البليغة قوله ـ مخاطبا الدنيا ـ: (إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك، أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟ فها هم رهائن القبور، ومضامين اللّحود! واللّه لو كنت شخصا مرئيّا، وقالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأمانيّ، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر.. هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه)([15])
وكان يقول: (اعزبي عنّي، فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم اللّه ـ يمينا أستثني فيها بمشيئة اللّه ـ لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص، إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها، أ تمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك؟ وتشبع الرّبيضة من عشبها فتربض؟ ويأكل عليّ من زاده فيهجع، قرّت إذا عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسّائمة المرعيّة!) ([16])
وكان يقول في بعض خطبه: (و أحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة، وليست بدار نجعة، قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزينتها. دارها هانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرّها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرّها. لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه، ولم يضنّ بها على أعدائه. خيرها زهيد، وشرّها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دار تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فيها فناء الزّاد، ومدّة تنقطع انقطاع السّير. اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقّه ما سألكم، وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم) ([17])
وكان مع ذلك كله يفرق بين دنيا الصالحين المترفعين، ودنيا العابثين المتثاقلين.. فقد روي أنه رأى قوما يذمون الدنيا ذما مطلقا، فراح يقول لهم: (ما بال أقوام يذمّون الدنيا وقد انتحلوا الزهد فيها؟!، الدنيا منزل صدق لمن صدّقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، مسجد أنبياء اللّه، ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته، ومسكن أحبّائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا منها الجنّة.فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت ببينها؟! ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال، ومثّلت ببلائها البلاء، وشوّقت بسرورها إلى السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بنعمة وعافية، ترهيبا وترغيبا، فذمّها قوم غداة الندامة، وحمدها آخرون، خدمتهم جميعا فصدقتهم، وذكّرتهم فاذّكّروا، ووعظتهم فاتّعظوا، وخوّفتهم فخافوا، وشوقتهم فاشتاقوا) ([18])
وسمع آخر يذم الدنيا ذما مطلقا، فراح يصحح له، ويقول: (فأيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها! متى استذمّت إليك؟ بل متى غرّتك بنفسها؟ أ بمصارع آبائك من البلى؟! أم بمضاجع أمّهاتك من الثرى؟ كم مرّضت بيديك، وعلّلت بكفّيك؟ تستوصف لهم الدواء، وتطلب لهم الأطباء، لم تدرك فيه طلبتك، ولم تسعف فيه بحاجتك. بل مثّلت الدنيا به نفسك، وبحاله حالك، غداة لا ينفعك أحباؤك، ولا يغني عنك نداؤك، يشتد من الموت أعالين المرضى، وأليم لوعات المضض، حين لا ينفع الأليل، ولا يدفع العويل، حين يحفز بها الحيزوم، ويغصّ بها الحلقوم، حين لا يسمعه النداء، ولا يروعه الدعاء، فيا طول الحزن عند انقطاع الأجل. ثمّ يراح به على شرجع تقلّه أكفّ أربع، فيضجع في قبره في لبث، وضيق جدث، فذهبت الجدّة، وانقطعت المدة، ورفضته العطفة، وقطعته اللطفة، لا تقاربه الإخلاء، ولا تلمّ به الزوّار، ولا اتّسقت به الدار. انقطع دونه الأثر، واستعجم دونه الخبر، وبكّرت ورثته، فأقسمت تركته، ولحقه الحوب، وأحاطت به الذنوب، فإن يكن قدّم خيرا طاب مكسبه، وإن يكن قدّم شرّا تبّ منقلبه، وكيف ينفع نفسا قرارها، والموت قصارها، والقبر مزارها؟ فكفى بهذا واعظا كفى) ([19])
وطلب منه بعضهم أن يصف الدنيا، فقال: (ما أصف لك من دار من صحّ فيها ما آمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العذاب)
وسئل عن ذلك مرّة أخرى، فقال: (أطوّل أو أقصّر؟) فقال السائل: قصّر، فقال: (حلالها حساب وحرامها عذاب)([20])
ولم يكن ذلك منه مجرد كلمات، وإنما كانت حقائق عاشها، ورآها أصحابها، الذين قال بعضهم في وصفه: (كان والله! بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن ـ والله! ـ مع تقرّبه لنا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وإنّي أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول: (يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه! من قلّة الزّاد، وبعد السّفر، ووحشة الطّريق) ([21])
وقد ورث سائر أئمة الهدى عن النبوة والإمام علي كل هذه المعاني السامية، فقد روي عن الإمام السجاد قوله: (إنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرة وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلّ واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدّنيا، ألا وكونوا من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة، ألا إنّ الزّاهدين في الدّنيا اتّخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرّضوا من الدّنيا تقريضا، ألا ومن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النّار رجع عن المحرّمات، ومن زهد في الدّنيا هانت عليه المصائب، ألا إنّ للَّه عبادا كمن رأى أهل الجنّة في الجنّة مخلّدين وكمن رأى أهل النار في النار معذّبين شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة صبروا أيّاما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة، أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم وهم يجارون إلى ربّهم يسعون في فكاك رقابهم، وأمّا النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنّهم القداح قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض، أم خولطوا، فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار وما فيها)([22])
وروي أنه سئل: أيّ الأعمال أفضل عند اللّه تعالى؟ فقال: (ما من عمل بعد معرفة اللّه تعالى ومعرفة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدّنيا، وإنّ لذلك لشعبا كثيرة، وللمعاصي شعبا فأوّل ما عصى اللّه به الكبر وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحوّاء حين قال اللّه تعالى لهما: { فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19]، فأخذا ما لا حاجة بهما إليه؛ فدخل ذلك على ذريّتهما إلى يوم القيامة، وذلك أنّ أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثمّ الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعّب من ذلك حبّ النساء وحبّ الدّنيا وحبّ الرّئاسة وحبّ الرّاحة وحبّ الكلام وحبّ العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهنّ في حبّ الدّنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة والدنيا دنيا آن دنيا بلاغ ودنيا ملعونة)([23])
وقال الإمام الكاظم مخاطبا جابر بن عبد الله: (إنّ المؤمنين لم يطمئنّوا إلى الدّنيا ببقائهم فيها، ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدّنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدّنيا أهل غفلة، وكأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمهم عن ذكر اللّه تعالى ما سمعوا بآذانهم ولم يعمهم عن ذكر اللّه تعالى ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم، واعلم يا جابر أنّ أهل التقوى أيسر أهل الدّنيا مئونة وأكثرهم لك معونة تذكر فيعينونك، وإن نسيت ذكروك، قوّالون بأمر اللّه قوّامون على أمر اللّه، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم ووحشوا الدّنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى اللّه تعالى وإلى محبّته بقلوبهم وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه لعظيم شأنه، فأنزل الدّنيا كمنزل نزلته ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، إنّي إنّما ضربت لك هذا مثلا لأنّها عند أهل اللّبّ والعلم باللّه كفيء الظلال، يا جابر فاحفظ ما استرعاك اللّه من دينه وحكمته ولا تسألنّ عمّالك عنده إلّا ما له عند نفسك، فإن تكن الدّنيا على ما وصفت لك فتحوّل إلى دار المستعتب، فلعمري لربّ حريص على أمر قد شقي به حين أتاه ولربّ كاره لأمر قد سعد به حين أتاه وذلك قول اللّه تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]
وضرب مثلا للدنيا، فقال: (مثل الحريص على الدّنيا كمثل دودة القزّ كلّما ازدادت على نفسها لفّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّا)([24])
وقال الإمام الصادق: (إذا تخلّى المؤمن من الدّنيا سما ووجد حلاوة حبّ اللّه وكان عند أهل الدّنيا كأنّه قد خولط وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ اللّه فلم يشتغلوا بغيره)([25])
وقال: (جعل الخير كلّه في بيت وجعل مفتاحه الزّهد في الدّنيا، ولا يجد الرّجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدّنيا)([26])
وقال: (من زهد في الدّنيا أثبت اللّه الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدّنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدّنيا سالما إلى دار السّلام)([27]).
وقال: (مثل الدّنيا كمثل ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتّى يقتله)([28])
وهكذا اتفق جميع أئمة الهدى على وصف الدنيا بما سمعت.. فردد هذه العبارات ـ
أيها المريد الصادق ـ وتأمل فيها، وعش معانيها، لتخرج حب الدنيا من قلبك؛ فلا
يمكنك أن تسير إلى الله، أو تسلك سبيل الصديقين، وأنت موثوق في قيودها، مقيد بأغلالها.
([1]) الحاكم ج 4 ص 306 ، وابن ماجه رقم 4110.
([2]) رواه ابن أبي الدنيا في الزهد و البيهقي في الشعب.
([3]) الترمذي ج 9 ص 199.
([4]) الطبراني في الأوسط وابن أبي الدنيا والحاكم.
([5]) ابن ماجه رقم 4112 ، و الترمذي ج 9 ص 198.
([6]) الحاكم ج 4 ص 319.
([7]) أبو نعيم في الحلية وأبو منصور الديلمي.
([8]) الكافي ج 2 ص 70.
([9]) البيهقي في شعب الايمان.
([10]) ابن أبي الدنيا في الزهد.
([11]) ابن ماجه رقم 4000.
([12]) الترمذي (2377) وسنن ابن ماجة (4109)
([13]) انظر هذه الآثار وغيرها في: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج5، ص: 355، فما بعدها، وقد انتقينا ما رأيناه متناسبا مع الحقائق القرآنية، وأعرضنا عما رأيناه متنافيا معها، ومن أمثلتها ما روي عن المسيح عليه السلام ـ وهو غير صحيح ـ أنه قال: (بطحت لكم الدّنيا، وجلستم على ظهرها؛ فلا ينازعنّكم فيها الملوك والنساء، فأمّا الملوك فلا تنازعوهم في الدّنيا فإنّهم لن يتعرّضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم، وأمّا النساء فاتّقوهنّ بالصوم والصلاة)، فقد رأينا أن الشق المرتبط بالملوك لا يتناسب مع ما ورد في النصوص المقدسة من الحاكمية الإلهية والدعوة الإلهية، ولو بمواجهة السلاطين الظلمة.
([14]) الكافي ج 2 ص 318.
([15]) نهج البلاغة: الكتاب 45 ص 417.
([16]) نهج البلاغة: الكتاب 45 ص 417.
([17]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(113)
([18]) مستدرك نهج البلاغة: ج 1 ص 352- 357 .
([19]) مستدرك نهج البلاغة: ج 1 ص 352- 357 .
([20]) نهج البلاغة، رقم 82.
([21]) لاستيعاب 3: 107، حلية الأولياء 1: 84.
([22]) الكافي ج 2 ص 131
([23]) الكافي ج 2 ص 130
([24]) الكافي، ج2 ص 134.
([25]) الكافي ج 2 ص 130
([26]) الكافي، ج2 ص 128.
([27]) الكافي، ج2 ص 128.
([28]) الكافي، ج2 ص 134.