اتباع الشيطان

اتباع الشيطان

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الشيطان ومنافذه إلى نفس الإنسان، وكيف يستطيع فعل ذلك؟.. ولماذا مُكّن من ذلك؟.. وهل يمكن للإنسان أن يفلت منه ما دام في الدنيا، أم أن عليه أن يبقى حذرا منه ما دام فيها؟

وغيرها من الأسئلة التي قد لا أجيبك عنها جميعا الآن.. فأنت في هذه المرحلة تحتاج إلى تهذيب النفس وتعريفها بمثالبها، وكيفية النجاة منها، وبعض أسئلتك يدخل في أبواب المعرفة بحقائق الوجود، وسأشرحها لك في محالها المناسبة لها.. وربما تصل إليها من غير أن تحتاج لشرحها مني؛ فمن تطهرت نفسه، وأخلص إلى ربه، لُقن من معاني الحكمة ما قد يغنيه عن الأستاذ، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]

ولهذا، فإن ما يهمك في هذه المرحلة بالدرجة الأولى هو تنفيذ أمر الله تعالى لك ولنا جميعا بعدم اتباع خطوات الشيطان، والذي ورد التصريح به في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [النور: 21]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة: 208]

فهذه الآيات الكريمة تنبهنا إلى أن استعاذتنا من الشيطان بألسنتنا وحدها لا تكفي، ما لم يصحبها ذلك الحذر، وتلك الحيطة التي تجعلنا نبحث عن المحال التي يسير فيها الشيطان، لا لنتبعها، وإنما لنجتنبها، ونحذر منها.

فالشيطان لا يهمه أن يبغضه الإنسان، ولا أن يستعيذ منه، وإنما يهمه أن يغويه ويضله.. لأنه إن فعل ذلك، فسيصبح من حزبه شاء أو أبى، كما قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]

وحتى لا أطيل عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أو أشغلك بما لست في حاجة إليه في هذه المرحلة؛ فإني سأكتفي في هذه الرسالة بذكر أربع خطوات شيطانية كبرى ورد التحذير منها في القرآن الكريم، وهي تكفيك في التعرف على كيفية تأثيره، وفي توفير القدرة لنفسك على النفور منه، وتحقيق الاستعاذة العملية من كيده.

التزيين والتسويل:

وأول تلك الخطوات ـ أيها المريد الصادق ـ تزيين السيئات والفواحش بوضع بعض المساحيق عليها، حتى تصبح جميلة مألوفة مع أن باطنها مملوء بالخبث والقذارة، وفي مقابل ذلك تشويه الأعمال الحسنة، بحيث تبدو قبيحة منفرة.

وقد ضرب الله تعالى مثالا لذلك بتزيين الشيطان للكبرياء التي منعت أقوام الأنبياء من التضرع إلى الله واللجوء إليه بعد تلك العقوبات التي تعرضوا لها، والتي كان الهدف منها ردعهم وتأديبهم وإعادتهم إلى ربهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 42، 43]

وهذا يشبه كثيرا ذلك التلميذ الكسول الذي قد يتعرض لبعض أنواع التأديب من أستاذه، وبدل أن يكون ذلك وسيلة لإصلاحه، يصبح وسيلة لتبجحه وكبريائه وتظاهره بأنه لن يستسلم للتأديب.

وهكذا يذكر القرآن الكريم تزيين الشيطان لعاد وثمود أعمالهم، حتى صاروا يعشقونها، ويتشبثون بها إلى الدرجة التي آثروها على أنبيائهم، كما قال تعالى: { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]

وهكذا يذكر القرآن الكريم تزيين الشيطان لأهل سبأ عبادة الشمس مع كونها مجرد خلق من خلق الله، وآية من آياته، قال تعالى على لسان الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]

وفي ذكر الله تعالى ذلك على لسان الهدهد دليل على أنه ليست الطباع السليمة فقط من ينفر مما فعله أهل سبأ من عبادة الشمس، بل حتى الحيوانات تنفر منها.

وهذه الآيات جميعا تشير إلى أن الشيطان ـ بأداة التزيين ـ يشغل عقل الإنسان عن البحث في حقائق الأشياء، ليكتفي منها بذلك الظاهر البسيط الذي يلمحه وينجذب إليه من غير تفكير في مصادره، ولا عواقبه.

ولذلك لو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ أكثر ما تراه من أنواع الإغواء الشيطاني تجد سببه مرتبطا بذلك التزيين الشيطاني؛ فهو يقوم بدور السحر للعقول، حتى يتحول الحق عندها باطلا، والباطل حقا.

وقريب منه [تسويل الباطل]، والذي ورد في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } [محمد: 25]

والمراد منه ذلك التيسير والتسهيل الذي يقوم به الشيطان حول المعصية([1])، واعتبارها أمرا هينا، وذلك باستعمال المسوغات المختلفة، بحسب الذين يريد أن يغويهم.

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض ذلك، فقال: (إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أ تسلم وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أ تهاجر وتدع أرضك ونساءك؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أ تجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة)([2])

إنساء الذكر:

ومن الخطوات التي يستعملها الشيطان لإغواء الإنسان ما عبر عنه قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة: 19]

ذلك أنه يعلم أن ذكر الله تعالى هو الذي يحمي اللطائف الإنسانية من كل ما يؤذيها أو يشوهها أو ينتكس بإنسانيتها، وبذلك كان هو الحصن الحصين للحقيقة الإنسانية؛ ولهذا كان هم الشيطان الأكبر هو اختراق ذلك الحصن، بأي طريقة، وأي شاغل، كما قال الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]

فالفرق بين التزيين والتسويل والإنساء هو أن الأولَين مرتبطين بالمعصية نفسها بتجميلها وتسهيلها.. أما الإنساء فليس مرتبطا بها، وإنما يرتبط بكل ما يشغل الإنسان عن ذكر الله حتى لو كان مباحا، لأنه بعد الغفلة يحصل الاختراق، ثم الاستحواذ.

وقد ورد في القرآن الكريم ذكر محل آخر لإنساء الشيطان، وهو مرتبط بأحكام الشريعة، كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، فالآية تقول: (وإن أنساك الشيطان نَهْيَنا إياك عن الجلوس معهم ، والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا، ثم ذكرت ذلك ، فقم عنهم، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوض فيه)

 وورد فيه محل آخر لإنساء الشيطان، وهو مرتبط بالواجبات الشرعية المؤقتة بمواقيت محددة، حيث يشغل الشيطان عنها بأي شاغل حتى يفوت وقتها، وقد ضرب الله تعالى المثل له بما ورد في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، ونسيان فتاه للآية التي جعلها الله تعالى علامة على الالتقاء بالخضر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 62، 63]

وقد قال بعض المفسرين في تفسيرها: (مع كون المنسي أعجوبة شأنها ألا تُنسى ، يتعيَّن أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب ، وعلِم يوشع أن الشيطان يسوؤه الْتقاءُ هذين العبدين الصالحين ، وما له من الأثر في بثِّ العلوم الصالحة ، فهو يصرف عنها، ولو بتأخر وقوعها طمعاً في حدوث العوائق) ([3])

وورد فيه محل آخر لإنساء الشيطان، وهو ما نص عليه قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]، وهو يدل على أن الشيطان يسعى إلى الإضرار بأولياء الله، من خلال اختراق أولئك الذين تربطهم بهم أي علاقة كما فعل مع صاحب يوسف عليه السلام في السجن([4])، الذي نسي أن يؤدي الرسالة البسيطة التي طلبت منه.

الإملاء والتمنية:

ومن الخطوات التي يستعملها الشيطان لإغواء الإنسان تلك الأماني الكاذبة، والآمال الطويلة اللذيذة التي يملأ بها عقولهم وقلوبهم، من غير أن يكون لها أي حقيقة، كما عبر عن ذلك قوله تعالى:  { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، فالآية الكريمة تشير إلى دور الشيطان في جعلهم يتولون عن الزحف، وذلك باستخدام أمرين:

أولهما: تيسير التولي، والتهوين منه وإخراجه من كونه معصية.

والثاني: الإملاء، أي مَدّهم بالأماني والآمال التي تحسن ذلك العمل في عيونهم، بدل أن ينفروا منه، ولذلك ذكر الله تعالى بعدها عاقبة ذلك العمل، ونتيجة ذلك الأمل الذي أمدهم به الشيطان، فقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27، 28]

وقد ورد في الآثار ما يدل على أن الشيطان لا يمل من استعمال هذه الوسيلة إلى آخر لحظة من حياة الإنسان، طمعا في إضلاله، روي أن (إبليس لا يكون في حال أشدٌ منه على ابن آدم عند الموت ، يقول لأعوانه : دونكموه، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه)([5])

التخويف والتحزين:

ومن الخطوات التي يستعملها الشيطان لإغواء الإنسان تخويفه من كل ما يراه مؤثرا فيه، ليشغله الخوف عن ذكر الله، كما قال تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 268]

ولذلك كان ذكر الله جالبا للطمأنينة والأمل والسعادة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، بخلاف الغفلة عنه، والتي لا تجلب إلا الهم والحزن والتشاؤم..

ذلك أن العبد في حال ذكره لله، يكون متواصلا معه ومع فضله ووعده وكرمه؛ فإذا ما غفل عنه تواصل مع الشيطان ووعيده وتخويفه وتحزينه.

وقد ذكر الله تعلى مدى اهتمام الشيطان بالتخويف من الموت، قال تعالى:{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقد وردت في سياق الحديث عن الجهاد في سبيل الله، لتبين أن الذين جبنوا عن خوض المعارك، لم يكن جبنهم إلا بسبب ذلك التخويف الذي مارسه الشيطان معهم، بسبب نسيانهم لذكر الله.

ولهذا، فإن مواجهة هذه الثغرة الشيطانية تكون باليقين في الله وفضله، فالله هو الذي قدر الآجال والأرزاق، وقدر كل شيء، ولذلك يعيش المؤمن بهذه المعاني في سلام حقيقي، كما قال تعالى:﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:82)، والظلم المراد في الآية هو تلك الأوهام التي تحول بين الإيمان وأداء دوره النفسي في إحلال الطمأنينة والسلام.

وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك الإيمان المختلط بالأوهام الشيطانية بالشرك، الذي هو أخفى من دبيب النمل، ولذلك كلما اشتد وعظم عظمت المخاوف، وكلما نقص أو تلاشى نقصت المخاوف أو تلاشت، فمعرفة الله والتوجه إليه هي بر الأمان، وهي سفينة نوح التي من ركبها لم تغرقه الأمواج، وهي ظل الله الذي يحتمي به من أحرقته شموس الرعب.

ولذلك أخبر الله تعالى أن الشرك هو مصدر الرعب، وأنه عقوبة إلهية تقتضيها طبيعة الكفر، فقال: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران:151)، فقد أخبر تعالى أن مصدر خوفهم هو شركهم بالله.

وفي مقابل ذلك ذكر الله تعالى مواقف المؤمنين الصادقين الذين ملأوا قلوبهم بالله، فرزقهم الأمن التام، والسكينة المطلقة، فهذا إبراهيم عليه السلام وحده في الأرض يوحد الله، ووحده في الأرض يعبد الله، وتدعوه رأفته على الجاهلين بالله، فيتحدى قومه، ويتحدى الأرض معهم، فيحطم الأصنام من غير خوف ولا وجل، وهو يدرك المصير الذي يتعرض له من يحطم تلك الأوثان المقدسة.

ولكن إبراهيم عليه السلام انشغل بالله، وبجوار الله عن كل المخاوف التي يتذرع بها الخلق، وعندما خوفه قومه من آلهتهم التي دعا إلى نبذها، قال متعجبا: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام:81)

فإبراهيم عليه السلام في ذلك الموقف كان يقارن بين القوة الوهمية التي يستند إليها قومه، والقوة الوهمية التي كانوا يتصورون أنهم يملكونها، وبين قوة الله تعالى فأخبر أن قومه أولى بالخوف منه.

وقد عقب الله تعالى على قول إبراهيم عليه السلام مقررا هذه الحقيقة المطلقة، ومقننا هذه السنة الإلهية التي لا تتخلف، فقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:82)

وعلى خطى إبراهيم عليه السلام سار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران:173)

ولذلك فإن مصدر المخاوف التي تعتري النفوس فتملأها هما وحزنا، هو حصاد نبات الغفلة والشرك، وهما مرتع من مراتع الشيطان، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:175)

وبخلاف هذا نجد الغافلين والجاحدين أكثر الناس مخاوف، فهم يخافون كل شيء، وقد يدركون ما يخافون، وقد لا يدركون، كما عبر بعضهم عن نفسه بقوله عن مخاوفه التي لا تنتهي، والتي لا يعلم لها سببا:(إنني أعيش في خوف دائم، في رعب من الناس والأشياء، ورعب من نفسي، لا الثروة أعطتني الطمأنينة، ولا المركز الممتاز أعطانيها ولا الصحة، ولا الرجولة، ولا المرأة، ولا الحب، ولا السهرات الحمراء… ضقت بكل شيء، بعد أن جربت كل شيء)

فالمعرفة الصحيحة بالله والتي تتولد عنها جميع المعارف، وتصحح بها جميع الفهوم، وتنشق عنها جميع المشاعر هي التي تقي المؤمن من الخوف الذي يستعبد الناس.

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ بعض مسالك الشيطان إلى نفس الإنسان، فتعلم علمها، واحذر منها، ولا تيأس من التفلت منها، فالشيطان مع كيده ومكره وخداعه أضعف خلق الله.. ومن عرف نقاط ضعفه، يمكنه أن ينتصر عليه بسهولة.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، وبينه أحسن بيان وأوجزه، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف: 200] ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]

فالآيتان الكريمتان تدلان على الأسلحة التي تقاوم بها كيد الشيطان، وهما شيئان: الذكر والمذاكرة.. ذكرك لربك، ومذاكرتك للحقائق..

فإذا ذكرت ربك، وعرفت أنه سميع عليم، وأنه معك، وأنه يعيذ كل من التجأ إليه واحتمى به، ابتعد عنك الشيطان، لأنك صرت في جوار الله، ويستحيل على الشيطان أن يقترب ممن أجاره الله.. ولذلك روي أن بعض المشايخ قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا ؟ قال: أجاهده.. قال: فإن عاد ؟ قال: أجاهده.. قال: فإن عاد ؟ قال: أجاهده.. قال: (هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع؟) قال: أكابده وأرده جهدي.. قال: (هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك)

وهكذا، فإن الاستغاثة بالله، والاستجارة به تكفيك كل ما يخيفك ويحزنك ويؤلمك، كما فعل أيوب عليه السلام حين قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وما إن قال ذلك حتى جاءه المدد الإلهي بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]

ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الاستعاذات التي تجيرنا من الشيطان، وتجعلنا في مأمن من كيده ومكره.

وأما السلاح الثاني الذي دلنا عليه ربنا، فهو مذاكرة الحقائق، والبحث فيها، إلى أن ننال البصيرة التي تجعلنا نرى كيد الشيطان بأعيننا، فنحذر منه..

وذلك لا يكون إلا بالعلم النافع، فأكثر الناس عبودية للشيطان الجهلة الذين يكتفون بظواهر العبادات، دون الاهتمام بالعلم، ولذلك ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه) ([6])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس محمد بيده لَعالم واحد أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد لنفسه، والعالم لغيره) ([7])

وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [الحشر: 16] قصة قد يفيدك تأملها في التعرف على قيمة العلم، ودوره في الوقاية من الشيطان، فقد رووا عن ابن مسعود أنه قال: (كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب؛ فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يسمع قولك. فقتلها ثم دفتها.. فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا. فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا: لا بل قصها علينا. قال: فقصها، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك. فقالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء. قال: فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه. قال: فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه، وأخذ فقتل)([8])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الشيطان لن يتمكن منك إلا إذا مكنته من نفسك؛ ولهذا يدرس الشيطان المزاج والطبع الإنساني ليستحوذ عليه من خلاله، وقد روي عن بعض الصالحين أنه سأل إبليس: بأي شي‏ء تغلب ابن آدم؟ قال: (آخذه عند الغضب وعند الهوى)

وروي أنه ظهر لراهب فقال له: أي أخلاق بني آدم أعون لك؟ قال: (الحدة إن العبد إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة)

وروي أنه ظهر ليحيى عليه السلام فرأى عليه مغاليق من كل شي‏ء، فقال له يحيى عليه السلام: يا إبليس ما هذه المغاليق؟ قال: (هذه الشهوات التي أصبت بها بني آدم)، قال: فهل لي فيها شي‏ء؟ قال: (ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر)، قال: هل غير ذلك قال: لا، قال يحيى: لله علي أن لا املأ بطني من طعام أبدا، فقال إبليس: ولله علي أن لا أنصح مسلما أبدا([9]).

ويروى أن الشيطان يقول: (كيف يغلبني ابن آدم؟ وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه)

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد إيراد هذه الأحاديث والحكايات عليك أن تتساءل عن كيفية حديث الشيطان، وبأي صورة ظهر، وهل يمكن أن يلتقي بالإنسان.. فكل هذه الأسئلة من كيد الشيطان ومكره، وهي من أساليبه التي يستعملها ليصرفك عن الحق.

وقد روي في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته) ([10])

وفي حديث آخر روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) ([11])


([1])  الكثير من المفسرين يفسرون التسويل بالتزيين، لكن الراجح هو أن التسويل والتزيين وإن كان مؤداهما واحد ، إلا أن لكل منهما دلالته الخاصة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود بقوله: (أي سهّل لهم ركوب العظائم، من السَّوَل، وهو الاسترخاء، وقيل السُّول المخفف من السؤل لاستمرار القلب، فمعنى سوَّل له أمراً حينئذٍ : أوقعـه في أمنيّته فإن السؤل الأمنية) [إرشاد العقل السليم لأبي السعود ج 7، ص 99 ]، وقال ابن عاشـور : (والتسويل : التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله)[ التحرير والتنوير،  لابن عاشور،  م6،  ج 12،  ص 238 ]

([2])  النسائي ج 6 ص 22 وأحمد والطبراني وابن حبان والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور ج 3 ص 73.

[3] – التحرير والتنوير،  لابن عاشور،  م 7،  ج 15،  ص 367 .

([4])  اختلـف المفسـرون في عود الضمير في كلمة ( فأنساه ) هل هو إلى يوسف عليه السلام، باعتبار أنه لم يعلق خروجه من السجن على مشيئة الله أو إلى الصاحب الناجي، وقد اخترنا الثاني، لدلالة المقام عليه، ولتناسبه مع عصمة الأنبياء عليهم السلام.

([5])  الثبات عند الممات (ص: 57)

([6])  رواه الطبراني في الأوسط (6/194 رقم 6166)

([7])  عزاه في الكنز (28908) لابن النجار.

([8])  تفسير الطبري (28/33)

([9])  رواه ابن الشيخ في مجالسه بنحو أبسط راجع بحار الأنوار ج 14 ص 620.

([10])  البخاري (3276) ، ومسلم (134) (214)

([11])  عبد بن حميد (701) ، والطحاوي 2/252، وابن منده في الإيمان (345)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *