الكبر

الكبر

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الكبر، وعلاماته، وهل يمكن أن يتصف به السائرون في طريق الله، من المريدين أو الواصلين؟ .. أو أولئك العلماء الذين توجهوا بكنه همتهم لطلب العلوم، فتعلموها، ثم تفرغوا لتعليمها والتصنيف فيها؟.. أم أنه خاص بالسادة والكبراء.. من ذوي الجاه العريض والمال الكثير..ممن أتيحت لهم المناصب، وتربعوا على العروش.

وجوابا عن سؤالك أذكر لك أن الكبر وغيره من مثالب النفس الأمارة ليس خاصا بمن ذكرت من الوجهاء والسادة، وإن كان عرضه باديا للعيان عليهم.. بل هو شامل لجميع الناس حتى أولئك المتسولين الشحاذين الذين يبدون كل أنواع الذلة، قد يكون فيهم من الكبر ما يوجد في فرعون نفسه.. لكنه احتبس عند الظهور لديهم، لعدم وجود البيئة المناسبة.. فإذا وجدت البيئة ظهر وبدا.

وقد أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)([1])

فهذا الحديث الشريف يشير إلى أن الأخلاق ليست مرتبطة بظهورها للعيان، وإنما بذلك المحل الذي يمدها من عالم النفس الأمارة، ولذلك قال بعض الحكماء: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً)

ولهذا عرفوا الكبر بأنه ذلك الاستعظام الذي تشعر به النفس الأمارة، وترى أن قدرها فوق قدر غيرها، وأن غيرها يبنغي أن يكونوا خاضعين لها.. فإن لم يخضعوا لها تتألم لذلك، وتتحين أي فرصة لتفرض عليهم الخضوع.

وهي تنشأ من ذلك العجب الذي تمتلئ به النفس الأمارة، فتعتقد أنها الأفضل والأكمل، وأن رأيها الأصوب والأحكم.. وأن الخطأ قد يصيب الجميع لكنه لا يصيبها.

وهو لذلك أخطر المثالب، وأعظمها جرما، لأن صاحبها لا يكتفي بأن يفرض خضوعه على غيره من  البشر ممن هم في مستواه، وإنما قد يشتد داؤه، فيفرضه على الله نفسه، فيعتقد أنه ند لله، أو أن الله ينبغي أن ينزل عند رغباته.. فإن لم ينزل راح يتحداه، ويكفر به، ويمارس كل المعاصي التي يتصور أنه يغيضه بها.

وقد يظهر هذا النوع من الكبر على الله في الكبر على رسله وأوليائه والصالحين من عباده؛ فيمارس المتكبر عليهم كل ألوان العتو والجبروت ليتحدى الله بذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الصنف من المستكبرين، وهم الذين بلغ بهم الداء حده الأقصى، وأخبر أنهم أبعد الناس عن رضوان الله وجنته.. وهل يمكن أن يرضى الله عمن يتحداه؟ .. وهل يمكن أن يتيح الجنان لمن لم يعرف قدره، وعبوديته؟.. وهل يمكن أن يستقر بالجنة حال، وفيها مستكبر واحد؟

وقد ضرب الله تعالى على ذلك الكثير من الأمثلة ليعتبر بها  المعتبرون، ومنها ذلك الذي أدرك بذوقه اللغوي إعجاز القرآن الكريم، واستحالة أن يأتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد أن فكر وقدر، وكاد يسلم لله، قام كبره ليحول بينه وبين ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 23 – 25]

وأنت تلاحظ ـ أيها المريد الصادق ـ كيف ربط الله تعالى بين الكبر وذلك القول، واعتبره ضروريا ومباشرا.. فبمجرد أن حضر الكبر غطى على العقل، وأصبح صاحبه لا يرى الأشياء بصورتها الحقيقية.. ولهذا تحول الإعجاز القرآني في ذهنه إلى مجرد سحر.

والسبب في ذلك هو أنه بعد أن أعمل عقله، وأدرك إعجاز القرآن راح يصرخ في باطنه في ربه: لم اخترت محمدا.. ولم تخترني.. ثم راح يتحداه بالكفر به وبنبيه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى عند حديثه عن هذا الرجل نفسه، وموقفه من الإيمان، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، فقد كان ذلك الرجل أحدهما.. ولذلك لم يرض قسمة الله تعالى، ولم يسلم لها، لأنه اعتبر الله غير محق في اختياره، كما رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]

ونفس الموقف حصل لإبليس عندما استكبر عن السجود لآدم عليه السلام، فقد كان استكباره في الحقيقة على الله، وكأنه أراد أن يغيظ الله لعدم اختياره له ليكون المسجود له، فلهذا رفض السجود، لأنه صنف نفسه من العالين من غير أن ينتظر تصنيف الله له بذلك، قال تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، حينها ازداد كبر إبليس عنفوانا، فقال ـ غافلا أنه يخاطب ربه ـ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ص: 76]

ولهذا كان الكبر علامة على استحواذ النفس الأمارة على الإنسان، بحيث تغطي كل مداركه العقلية؛ فلا يرى شيئا إلا نفسه.. حتى ربه يعزله ويحجبه إذا شعر أنه يحول بينه وبين رؤية نفسه، كما أشار إلى ذلك الإمام الصادق عندما قال: (ما من عبد إلّا وفي رأسه حكمة، وملك يمسكها فإذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك اللّه، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وهو أصغر الناس في أعين النّاس، فإذا تواضع رفعها اللّه ثمّ قال له: انتعش نعشك اللّه، فلا يزال أصغر الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس)([2])

ولهذا كان الجزاء الوفاق المرتبط بالمتكبر هو اللعن والبعد عن الله؛ فالله عزيز، ولا يرضى أن يقترب أو يقرب من أبعد نفسه عنه، ولهذا رد على إبليس، فقال: { فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 77، 78]

ونفس الخطاب يوجه لكل المستكبرين الذين {إِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، أولئك الذين يحرمون أنفسهم من الإذعان لآيات الله، وكيف يذعنون لها، وهم ممتلئون بأنفسهم، ومحجوبون برؤيتها، قال تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 146]

وختم الآية الكريمة بالغفلة، دليل على أن الغفلة بنت من بنات الكبرياء، وثمرة من ثمراتها.. ذلك أن المستكبر ـ نتيجة انشغاله بنفسه ـ صار غافلا عن ربه.. ولو أنه أعطى ربه بعض الأهمية التي يوليها لنفسه لما غفل عنه.. ولهذا كان كل غافل يحمل بذور الكبرياء من حيث لا يشعر.

ولا تتوقف ثمار الكبر على ذلك، وإنما قد تتدحرج بصاحبها إلى أن يطلب من الله أدلة حسية خاصة به، بحيث يراها رأي العين، وهو يشبه في ذلك التلميذ الكسول الذي يأبى الدخول إلى الامتحان إلا بعد أن يضعوا أمامه الإجابة.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 21، 22]،

وحكى عن المشركين المستكبرين هذه الاقتراحات التي فرضوها على ربهم حتى يؤمنوا برسوله، حيث قالوا ـ بكل جفاء وغلظة ـ: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } [الفرقان: 7 – 8]

وحكى عن فرعون قوله مخاطبا لقومه: {يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 – 53]

وهكذا قد تتدحرج ثمار الكبر بالمتكبر إلى أن يعلن نفسه وكيلا عن الله، ووصيا على عباده ، أو أنه الله نفسه، فلذلك يفتري عليه الكذب، لشعوره أنه الحقيق بأن يوحى إليه، قال تعالى في وصف هؤلاء: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]

ولم يدرك هؤلاء أن تلك المناصب الإلهية الرفيعة التي تخول لصاحبها تلقي الوحي الصادق، أو الإلهام المسدد تقتضي تخلص النفس من كل رعونات الكبر، حتى يصبح عبدا محضا، لا حظ له من الاستعلاء، بل لا حظ له من الشعور بنفسه، كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]

وهكذا لو رجعت ـ أيها المريد الصادق ـ إلى القرآن الكريم، وبحثت في الموارد التي ذكر فيها الكبر، فسترى أنه البذرة التي تنبت كل الخبائث، وأنه ليس خاصا بالملوك والجبابرة، بل قد يكون في أبسط الناس.

ولهذا ضرب الله تعالى المثل عن تواضع سليمان عليه السلام، الذي آتاه الله من الملك ما لم يؤت غيره، ومع ذلك تواضع لنملة، واستمع لنصيحة هدهد، وعندما سمع النملة تبسم ضاحكا من قولها، وقال بكل أدب وتواضع: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } [النمل: 19]

لهذا، فإن الصادقين من أولياء الله من أصحاب النفوس المطمئنة يستحيل عليهم الكبرياء.. فالله تعالى لن يختار وليا متكبرا.. فأول شروط الولاية الفناء عن النفس والامتلاء بالتواضع والعبودية.

بل إن ذلك ليس خاصا بالواصلين فقط، وإنما هو عام للمريدين أيضا، فلا يمكن للمريد أن يتحقق بالإرادة الصادقة ما لم يمتلئ بالتواضع، كما عبر بعضهم عن ذلك، فقال: (لا تصلح هذه الطريق الا لأقوام كنسوا بأرواحهم المزابل)

ذلك أن المريد الصادق هو الذي يذعن لمرشده ومربيه، ولا يجادله ولا يماريه، ولا يكون كذلك الذي قال الله تعالى عنه: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]

وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (كل بيمينك)، فلم يعجبه ذلك التوجيه، وقال متهربا: (لا أستطيع)، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (لا استطعت)، فاعتلت يده، وما رفعها بعد ذلك([3]) ، لأنه استكبر عن توجيه نبي.

ولذلك اتفق مشايخ التربية على أن من جادل شيخه في تربيته له، لن يفلح أبدا، لأن التربية تستدعي الإذعان والتسليم والتنفيذ.. وهي مثل الجندية، فالجندي الذي يجادل القائد في أرض المعركة سيكون سببا في الهزيمة.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما ألقيه لك من الأدوية والعلاجات التي ذكرها أولياء الله والهداة إليه، فخذها بقوة، وإياك ان تتكاسل في العمل بها، فالكبر يبدأ صغيرا، ثم يكبر، فإن كبر لم يمكنك استئصاله، وإن أخرجته من نفسك، وهو صغير، وتمكنت منك العبودية وأخلاق المتواضعين، دخلت بقدمك في أول مراتب الفائزين.. فأول الفوز التخلص من الكبر.. حتى لو كان مثقال ذرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار رجل في قلبه مثقال ذرة من إيمان)([4])

وفي جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما دليل على أن الإيمان يتنافى مع الكبر، فأول صفات المؤمن الصادق في إيمانه عبوديته لله، وأول ثمار العبودية التواضع.

العلاج المعرفي:

أول علاج تداوي به الكبر، وتستأصله به ـ أيها المريد الصادق ـ إزاحة الحجب عن عين القلب ليرى الحقائق كما هي، لا كما يشتهي.. فيعرف نفسه، وضعفها، ويعرف ربه وعظمته، وحينها يبدأ في وضع كل شيء في مرتبته التي وضعه الله فيها.. ليتعامل معه على أساس تلك المعرفة.

ذلك أن الكبر ـ كما عرفت ـ ناشئ من الجهل بالمراتب، وكيفية التعامل معها.. فلو أن إبليس عرف قدر ربه، وعظمته، حق المعرفة، لما استكبر عليه.. ولو أنه عرف أنه ما ابتلاه بالسجود لآدم إلا لكون آدم يستحق ذلك السجود، وأن الله ما أمر بذلك إلا لحكمة يعلمها، لما أنف من السجود له، ولما أذعن لحديث نفسه الذي حال بينه وبين الاستماع لربه.

ولهذا ورد في الحديث القدسي، قوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته)([5])

فهذا الحديث يصف لنا كيفية التخلص من الكبر، وهو تعظيم الله والشعور بأنه الأكبر والأعظم، وأن ما عداه الأصغر والأحقر.. فإذا ما شعر العبد بذلك زال كبرياؤه، وعاد إلى وضعه الطبيعي.

ولهذا قرن الله تعالى العبادات بتكبير الله، وجعل التكبير من صيغ الذكر، التي لها دورها الكبير في الشعور بعظمة الله.. فإذا ما حلت عظمة الله في القلب، زال عن المكبر وهم الكبر.

ولهذا وصف الله تعالى عباده الصالحين، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء: 107 – 109]، ثم دعا إلى اقتفاء سبيلهم، وبين كيفيته، فقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فهذه الأذكار، وما يصحبها من تكبير الله وتعظيمه هو السبيل الوحيد الذي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

لكن ذلك وحده لا يكفي ـ أيها المريد الصادق ـ في نزع في داء الكبر من القلب، ذلك أن الله تعالى ابتلى عباده ببعض الاختيارات التي قد لا تتناسب مع أهوائهم؛ فلذلك صاروا مخيرين بين أن يعبدو أنفسهم وأهواءها، وبين أن يعبدوا الله وما اختاره لهم.

ذلك أن أكثر العباد قد لا يجادل في تواضعه لربه، وخضوعه له، لكنه يجادل في تواضعه وخضوعه لاختيار ربه، مثلما حصل من إبليس، ومن أقوام الأنبياء الذي رفضوا الانصياع لهم.

ولذلك رد الله تعالى على المشركين الذين رفضوا اختيار الله بقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، فقد اعتبر اعتقادهم بأن لهم الخيرة مع اختيار الله نوعا من الشرك، وهو شرك النفس بالله.

ولا تحسبن هذا ـ أيها المريد الصادق ـ خاصا بأقوام الأنبياء، بل إن الله تعالى يبتلي كل عصر بما يظهر تواضعهم أو كبرهم، حتى يتميز الصادقون في عبوديتهم من غيرهم، ولذلك اقتضت العبودية التواضع لجميع المؤمنين خشية أن يكون فيهم أولئك المختارون، كما قال بعض الصالحين: (إن الله أخفى أولياءه في عباده ، فلا تدري من ولي الله ممن تلقاه ممن حولك.

بل إن الله تعالى جعل في شعائره التعبدية ما يميز به بين الصادقين وغيرهم، وقد أشار الإمام علي إلى ذلك عند ذكره للمكان الذي شاء الله أن يحج عباده إليه، فقال: (أ لا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم (صلوات الله عليه) إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الّذي جعله للنّاس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقلّ نتائق الدّنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خفّ، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم عليه السّلام وولده، أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا، يهلّلون للّه حوله، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له. قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، وامتحانا شديدا، واختبارا مبينا، وتمحيصا بليغا، جعله اللّه سببا لرحمته، ووصلة إلى جنّته) ([6])

ثم بين أن الاختبار الإلهي لتواضع عباده هو الذي اقتضى ذلك، ذلك أن الله تعالى يمكنه (لو أراد أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثّمار، ملتفّ البنى، متّصل القرى، بين برّة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء. ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، وياقوته حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشّكّ في الصّدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الرّيب من النّاس. ولكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر من قلوبهم، وإسكانا للتّذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه)

وهكذا ذكر سر اختبار الله تعالى للأنبياء بذلك المظهر المتواضع الذي كانوا يبدون به، والذي جعل غيرهم يحتقرهم لأجله، لتوهمهم أن النبي لا يكون نبيا حتى يكون بنفس الصورة التي تتخيلها أمزجتهم.

وقد ضرب المثل على ذلك بموسى عليه السلام، فقال: (و لقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون، وعليهما مدارع الصّوف، وبأيديهما العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزّه، فقال: أ لا تعجبون من هذين، يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذّلّ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب؟ إعظاما للذّهب وجمعه، واحتقارا للصّوف ولبسه، ولو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السّماء، ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلّت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى)

ثم فسر سر كون الأنبياء من البسطاء والناس العاديين؛ فقال: (و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، وعزّة لا تضام، وملك تمدّ نحوه أعناق الرّجال، وتشدّ إليه عقد الرّحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النّيّات مشتركة، والحسنات مقتسمة، ولكنّ اللّه سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، والتّصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته، أمورا له خاصّة، لا تشوبها من غيرها شائبة، وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل)

ولهذا كان اختبار الله تعالى للمستكبرين من أقوام الأنبياء بأولئك البسطاء الذين اتبعوهم، كما قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [هود: 27]

وأخبر عن جواب نوح عليه السلام عندما طالبه قومه بطرد المستضعفين لينضموا إلى دعوته، فقال: {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [هود: 29، 30]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاستشعر في نفسك أن كل من تراه من المستضعفين والبسطاء الذين يحتقرهم الناس قد يكونون من هؤلاء الذين تحدثت عليهم هذه الآيات الكريمة، فاحذر أن يكون موقفك نفس موقفهم، فتهلك الهلاك الأبدي.

العلاج السلوكي:

وأما العلاج الثاني، وهو نتيجة العلاج الأول، فيبدأ بمراعاة تلك الشعائر التعبدية التي كلفنا الله تعالى بها ليربينا، ويهذب نفوسنا، فقم بها صادقا معها، وراع المقاصد التي قصدت بها، حتى تتحقق فيك كل المعاني التي أريدت لأجلها.

وقد ذكر الإمام علي بعض تلك المقاصد المودعة فيها، وأن من بينها إخراج الكبر من النفس، وتمييز المتكبرين عن غيرهم، فقال: (عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات والزّكوات، ومجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، وتخشيعا لأبصارهم، وتذليلا لنفوسهم، وتخفيضا لقلوبهم، وإذهابا للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، ولحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا، مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر. انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر) ([7])

إن هذه الكلمات ـ أيها المريد الصادق ـ تدلك على العلاج السلوكي للكبر، وهو مقاومته بما هو ضده.. فإذا كان الكبر يدعوك إلى تصعير خدك، فألنه.. وإن كان يدعوك إلى المشي مختالا، فامش هونا.. وإن كان يدعوك إلى رفع صوتك فخفضه.. وإن كان يدعوك إلى هجر الناس، فتقرب منهم.. وهكذا تقاوم الداء بما يضاده، إلى أن تتخلص منه.

نعم .. قد يشق عليك ذلك في البدء.. لكنك عندما تدمن عليه، وعندما يرى الله فيك صدق العبودية، يخلصك من هذا المثلب الخطير الذي علق الله به كل أنواع الخسارة.

وقد روي في الأخبار أن بعضهم كان وزيراً وعالماً وأبوه كان أميراً؛ ثم بدا له أن يسير في طريق السائرين إلى الله، فذهب إلى بعض المشايخ، فرأى فيه بعض آثار الكبر، فقال له: لا يمكنك أن تنال شيئاً في هذا الطريق حتى تبيع متاعك، وتلبس قشابة، وتأخذ دفا، وتدخل السوق، ففعل جميع ذلك، فقال له: ما تقول في السوق؟ فقال قل بدأت بذكر الحبيب فدخل السوق يضرب بنديره ويقول بدأت بذكر الحبيب؛ فبقي ثلاثة أيام، وخرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق([8]).

وقريب منه ما روي أن رجلاً كان لا ينقطع عن مجلس بعض المشايخ، فقال له ذات يوم: يا أستاذ أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر وأقوم الليل وقد تركت الشهوات ولست أجد في قلبي من هذا الذي تذكره شيئاً البتة، فقال له الشيخ: لو صمت ثلاثمئة سنة وقمت ثلاثمئة سنة وأنت على ما أراك لا تجد من هذا العلم ذرة، قال: ولم يا أستاذ، قال: لأنك محجوب بنفسك فقال له: أفلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب، قال: نعم ولكنك لم تقبل، قال: بلى أقبلُ وأعمل ما تقول، قال الشيخ: اذهب الساعة إلى الحجام واحلق رأسك وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة وعلق في عنقك مخلاة واملأها جوزاً واجمع حولك صبياناً وقل بأعلى صوتك: يا صبيان من يصفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل إلى سوقك الذى تعظم فيه فقال الرجل: سبحان الله تقول لي مثل هذا ويحسن أن أفعل هذا فقال الشيخ: قولك سبحان الله شرك قال: وكيف قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها فقال: هذا ليس أقدر عليه ولا أفعله ولكن دلني على غيره حتى أفعله فقال الشيخ: ابتدر هذا قبل كل شيء حتى تسقط جاهك وتذل نفسك ثم بعد ذلك أعرفك ما يصلح لك([9]).

أنا لا أقول لك ـ أيها المريد الصادق ـ افعل ما طلبه هذا  الشيخ، فهو ليس نبيا، ولا ما طلبه شريعة من شرائع الله التي يجب التزامها، ولكني أقول لك: افعل أي شيء تراه مناسبا حتى تحطم ذلك الجدار المسموم الذي يحول بينك وبين ربك، وقد ينهد عليك في أي لحظة، فيقتلك.

وقد ورد في الحديث بعض ما ييسر لك ذلك، ومنه أن تشتغل في شؤون بيتك وغيره، كسائر الناس، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل هذا، وفي الحديث أن عائشة وصفت ما كان يفعله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، فقالت: (كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة) ([10])

وعنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل عمل أهل البيت وأكثر ما يعمل للخياطة)([11])

ومن ميسرات ذلك أن تلبس لباس المتواضعين، والتي يربأ المتكبرون عنها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (البذاذة من الإيمان)([12]) ، والبذاذة هي الدون من اللّباس.

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك زينة للَّه ووضع ثيابا حسنة تواضعا للَّه وابتغاء وجهه كان حقّا على اللَّه أن يدّخر له عبقريّ الجنّة)([13])

وقد روي أن الإمام عليّ رؤي وهو يلبس إزارا مرقوعا، فقال: (يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب)([14]

وإياك يا بني أن تظن أنك إن فعلت ذلك نزعت داء الكبر من قلبك؛ فهو أخطر من أن ينزع بمثل هذا وحده، بل قد يستعمل الشيطان ذلك، وسيلة للخداع والتزيين، وقد ورد في الأثر عن المسيح عليه السّلام قوله: (ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرّهبان وقلوبكم قلوب الذّئاب الضواري، البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية)

ولهذا، فإن الاهتمام بالثياب الحسنة، إن لم يصحبها التباهي والفخر والخيلاء، ليست من الكبر، فقد روي في الحديث أنه عندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)، قال له بعض أصحابه: يا رسول الله إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا وشراك نعلي جديدا، أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا.. ذاك الجمال إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس) ([15])

وروي عن الإمام الصادق أنه قيل له: (إنّني آكل الطعام الطيّب وأشمّ الرّيح الطيّبة وأركب الدّابّة الفارهة .. فترى في هذا شيئا من التجبّر فلا أفعله؟) فأطرق، ثمّ قال: (إنّما الجبّار الملعون من غمص الناس وجهل الحقّ)، فقال السائل: أمّا الحقّ فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو؟ قال: (من حقّر الناس وتجبّر عليهم فذلك الجبّار)([16])

وقد ورد في حديث آخر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يوضح ذلك أعظم توضيح؛ فقد روي أنه سئل عما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؛ فقال للسائل: (يا ابن أخي كل للَّه، واشرب اللَّه، والبس للَّه وكلّ شي‏ء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف، وعالج‏ في بيتك من الخدمة ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يعالج في بيته كان يعلف الناضح، ويعقل البعير، ويقم البيت، ويحلب الشاة ويخصف النعل، ويرقّع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيا، ويشتري الشي‏ء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلّقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه فينقلب إلى أهله، يصافح الغنيّ والفقير والصغير والكبير، ويسلّم مبتدئا على كلّ من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر، حرّ أو عبد من أهل الصلاة، ليست له حلّة لمدخله وحلّة لمخرجه، لا يستحي من أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلّا حشف الدّقل، لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، هيّن المئونة لين الخلق كريم الطبيعة، جميل المعاشرة طليق الوجه، بسّاما من غير ضحك محزونا من غير عبوس، شديدا في غير عنف، متواضعا في غير مذلّة، جوادا من غير سرف، رحيما بكلّ ذي قربى، قريبا من كلّ ذمّي ومسلم، رقيق القلب، دائم الإطراق، لم يبشم قطّ من شبع، ولا يمدّ يده إلى طمع)([17])

وقد روي أن السائل ذهب إلى عائشة، يسألها عن ذلك، فقالت: (ما أخطأ منه حرفا ولقد قصر إذ ما أخبرك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يمتلئ قطّ شبعا، ولم يبثّ إلى أحد شكوى، وأن الفاقة كانت أحبّ إليه من اليسار والغنى، وأنه كان يظلّ جائعا يلتوي ليلته حتّى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه، ولو شاء أن يسأل ربّه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل، وربّما بكيت رحمة له ممّا أوتي من الجوع، فأقول: نفسي لك الفداء لو تبلّغت من الدّنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع؟ فيقول: يا عائشة إخواني من أولى العزم من الرّسل قد صبروا على ما هو أشدّ من هذا فمضوا على حالهم، وقدموا على ربّهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم، فأصبر أيّاما يسيرة أحبّ إليّ من أن ينقص حظّي غدا في الآخرة، وما من شي‏ء أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني وأخلاّئي) ([18])

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ بعض الأعمال التي يمكنك لو عملت بها، وداومت عليها أن تعالج الكبر الذي قد يتطرق إلى نفسك، ليدمرها، ويملأها بالخراب.

ولكن ذلك ـ كما ذكرت لك ـ لا يكفي.. فداء الكبر داء خفي، ولا يمكن علاجه بذلك وحده، وإنما يعالج بالتفكر والتأمل وتحقيق العبودية.. أما تلك السلوكات التي ذكرت لك، فلها دورها الكبير في الحماية من آثار الكبر، أو تطوره.. ولعل الله تعالى إن رأى عزمك على إصلاح ما بدا لك من الكبر أن يصلح عنك ما عجزت عما خفي منه.

فلذلك لا تحتقر تلك الأعمال، ولا تكتف بها.. بل اجمع بينها وبين ما ذكرته لك في العلاج المعرفي؛ فهما كاليدان تغسل إحداهما الأخرى.. ولهذا قال الله تعالى في الجمع بينهما: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأحقاف: 13]

فالإيمان يتحقق بالعلاج المعرفي، والاستقامة تتحقق بالعلاج السلوكي، ومن جمع بينهما نال ذلك الجزاء الذي ذكره الله تعالى.. وذكر في آية أخرى ما هو أعظم من ذلك، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30]

فتنزل الملائكة على هؤلاء ليس بشارة فقط، وإنما له دوره الكبير في التحقق بالطهارة والصفاء والتزكية..

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إجابتي على سؤالك، فأرجو أن تهتم بهذا المثلب من مثالب النفس الأمارة، وتحذر منه أشد الحذر، وإياك أن تطمئن إلى نفسك بما تعرفه منها؛ فهي نفس مخادعة أمارة مكارة.. فعالج الداء قبل استفحاله أو ظهوره.. فلا يمكنك أن تسير في طريق الله، أو يأذن لك في الدخول إلى حضرته، وفي قلبك ذرة منه.


([1])  مسلم (107) ، وأبو عوانة 1/40، والبيهقي 8/161، والبغوي (3591)

([2]) الكافي ج 2 ص 312.

([3])مسلم ج 6 ص 109.

([4])  أبو داود (4091) ، والترمذي (1998) ، والطبراني (10001)

([5]) الحاكم ج 1 ص 61.

([6])  نهج البلاغة: خطبة 192.

([7])  نهج البلاغة: خطبة 192.

([8])  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 20)

([9])  إحياء علوم الدين (4/ 358)

([10])  رواه البخاري ومسلم.  

([11])  رواه ابن سعد.

([12]) أبو داود و ابن ماجه رقم 4118، ورواه أحمد  و الحاكم في المستدرك

([13]) أبو سعيد المالينى في مسند الصوفية، و أبو نعيم في الحلية.

([14])  نهج البلاغة، رقم 103.

([15])  أحمد: 1/ 399، المعجم الكير: 10/ 221.

([16])الكافي ج 2 ص 311  رقم 13.

([17])  قال قال العراقي: لم أقف له على اسناد، قال محقق [المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 250 ]: يوجد بعض فصوله في الاخبار متفرقا عن غير أبي سلمة، ومنها سنن ابن ماجه كتاب الزهد، ومجمع الزوائد ج 10 ص 312، وغيرها.

([18])  تتمة الحديث السابق.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *