العجب

العجب

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني عما أطلقت عليه [الثقة بالنفس]، وأخبرتني أنك دخلت دورة تدريبية خاصة بها، وأنها أثرت فيك تأثيرا بليغا، فصرت ترى من قدراتك ما لم تكن ترى، وتقتحم الحياة بجرأة لم تعهدها من نفسك.

وأنا لا أريد أن أثبطك أو أمنعك أو أحرم عليك ما اخترته لنفسك، وما رأيته صالحا لها؛ فما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء.. والضعف والخور والعجز واهتزاز الثقة كلها أمراض، ويمكنك أن تعالجها بما تراه مناسبا لها.

لكني أريد أن أذكر لك أمرا قد يكون ناشئا عن تلك الثقة التي تحدثت عنها، أو قد يكون ناشئا من المبالغة فيها، وهو ما نص عليه قوله تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]

فهذه الآية الكريمة تذكر نوعا من الثقة في النفس، كان سببا في الهزيمة، لا في الانتصار، لجيش كامل، على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان معهم، لكنهم لم يلتفتوا إليه، ولا إلى المدد الإلهي، ولا إلى أخذ الحيطة والحذر، وإنما اكتفوا بالنظر إلى الكثرة التي أُعجبوا بها، فكانت سببا في هزيمتهم.

وهكذا أخبر الله تعالى عن إعجاب يهود بني النضير بحصونهم، وثقتهم فيها، وهو ما جعلهم يتبجحون، ويستكبرون، ويتصورون أنهم لا يمكن أبدا أن يُغلبوا أو يُهزموا.. لكن الله تعالى أتاهم من حيث لم يحتسبوا، فأُخرجوا من تلك الحصون، بل صاروا يدمرون بيوتهم التي كانوا يتباهون بها بأيديهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]

وهكذا أخبر الله تعالى عن الخاسرين الذين لم يكتشفوا خسارتهم إلا بعد فوات الأوان، ذلك أن إعجابهم بأنفسهم وأعمالهم جعلهم منشغلين بالنظر إليها والفرح بها عن التحقق من مدى موافقتها للشريعة، ومدى توجههم بها لربهم، قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104]

هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ كيف كان ذلك الإعجاب الذي قد يكون نوعا من الإسراف في الثقة بالنفس، سببا في الهلاك والخسارة؟

وكيف لا يكون كذلك.. وهو الحائل الأكبر بين الإنسان والتوبة؟.. وهل يمكن أن يتوب من يثق في أعماله، ويرى أنه منزه معصوم.. كل أعماله صالحة؟

وكيف لا يكون كذلك.. وهو الحائل الأكبر بين الإنسان ومراجعة نفسه، وتصحيح أخطائه ومواقفه.. والبحث عن الحقيقة والسراط المستقيم؟.. وهل كان سبب بقاء المشركين على شركهم، والضالين على ضلالهم إلا بسبب إعجابهم بأنفسهم، وفرحهم بما تركه لهم آباؤهم وأجدادهم، كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]

وكيف لا يكون كذلك.. وهو الحائل بين الإنسان والاستفادة من غيره، وتجاربهم، وخبراتهم.. وهل يمكن أن يستفيد من آراء غيره من امتلأ عجبا برأيه؟

وكيف لا يكون كذلك.. وهو السبب الأكبر في إحباط الأعمال، وقد قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فهل يمكن أن يمن الإنسان بصدقاته وأعماله ما لم يكن معجبا بها؟

وكيف لا يكون كذلك.. وهو المدد الأكبر لنهر الكبر والإعراض والاستبداد والطغيان.. فكل هؤلاء معجبون بأنفسهم.. ولولا إعجاب فرعون بنفسه لما قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ولما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]

لا تحسبن ـ أيها المريد الصادق ـ أن تلك المقولة مقولة فرعون وحده، بل هي مقولة كل معجب بنفسه، مغتر بما آتاه الله من الطاقات والمواهب والمكاسب.. وبدل أن يتواضع بها لله، راح يتبجح بها ويستكبر.

ولذلك كان العجب سببا من أسباب الهلاك الكبرى.. ومثلبا من مثالب النفس الأمارة العظمى.. ومن لم يتفقد هذا الداء من نفسه، ويعالجه، فإنه هالك لما محالة.

ليس هذا قولي ـ أيها المريد الصادق ـ وإنما هو قول ربنا.. فقد سمعت ما قرأته عليك من الآيات.. وهو قول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم .. فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)([1])

وقال في حديث آخر: (إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك نفسك)([2])

 بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر المذنب المنكسر المتواضع أفضل من المطيع الممتلئ بالعجب بنفسه، ولذلك عندما سئل عن الذنوب، قال: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العجب العجب)([3])

وهكذا حذر أئمة الهدى من العجب، واعتبروه أكبر حجاب يحول بين الإنسان والوصول إلى الحق، أو الإذعان له، فعن الإمام الصادق قال: (إن الله تعالى علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولو لا ذلك ما ابتلى مؤمنا بذنب أبدا)([4])، وقال: (من دخله العجب هلك)([5])، وقال: (إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله تلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه)([6])

وحكى قصة تبين خطر العجب، فقال: (أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته؟! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال العالم: إن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل‏.. إن المدل لا يصعد من عمله شي‏ء)([7])

وحكى قصة أخرى، فقال: (دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فخرجا من المسجد والفاسق صديق‏ والعابد فاسق، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته يدل بها فتكون فكرته في ذلك وتكون فكرة الفاسق في الذم على فسقه ويستغفر الله مما صنع من الذنوب) ([8])

وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخبار الأنبياء أنه (بينما موسى عليه السلام جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان فلما دنا منه خلع البرنس وقام إلى موسى عليه السلام فسلم عليه فقال له موسى عليه السلام: من أنت فقال: أنا إبليس، قال: أنت فلا قرب الله دارك، قال: إني إنما جئت لأ سلم عليك لمكانك من الله تعالى، فقال له موسى عليه السلام: فما هذا البرنس؟ قال: أختطف به قلوب بني آدم، فقال له موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه)([9])

وحكى عن داود عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه، فقال: (يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين)، فقال داود: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟ فقال الله تعالى له: (يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك)([10])

وهكذا اتفق كل الحكماء على خطورة العجب، وقد قال ابن مسعود: (الهلاك في اثنتين القنوط والعجب)، فانظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف جمع بينهما، لأن كليهما يقعدان بالإنسان عن العمل الجاد.. مع أن (السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وظفر بمراده فلا يسعى والموجود لا يطلب والمحال لا يطلب، والسعادة في اعتقاد المعجب حاصلة له ومستحيلة في اعتقاد القانط فبهذا جمع بينهما‏)

لا تحسبن ـ أيها المريد الصادق ـ أني أقصدك بهذا، أو أقصد أولئك الذين امتلأوا ثقة بأنفسهم؛ فليس كل واثق بنفسه معجبا بها.. وقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم أحد، وهو يحمل سيفا: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: (أن تضرب به فى وجه العدو حتى ينحنى)، فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه صلى الله عليه وآله وسلم يتبختر قال: (إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن) ([11])

وقال بعض من رآه يصفه: اتبعته، فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت، فخرج، وهو يقول:

أنا الذى عاهدنى خليلى … ونحن بالسفح لدى النخيل

ألا أقوم الدهر فى الكيّول … أضرب بسيف الله والرسول

فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله ([12]).

فأبو دجانة ـ أيها المريد الصادق ـ لم يكن معجبا بنفسه، ولكنه كان واثقا بها، وبقدراته، فلذلك قبل أن يحمل ذلك السيف بشروطه.. وعندما سار متبخترا لم يكن مختالا، ولا مزهوا، ولا متكبرا، وإنما كان فرحا بفضل الله عليه في حمل سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه.

وهكذا عندما قال يوسف عليه السلام للملك: { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، أو عندما قال لأصحابه في السجن: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]

وهكذا عندما كان الإمام علي يصيح في المعرضين عنه، والمستبدلين به غيره: (سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي نفسي! بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين السّاعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا، ومن يموت منهم موتا) ([13])

فكل هؤلاء ـ أيها المريد الصادق ـ لم يكونوا من المعجبين بأنفسهم، ولكنهم كانوا معجبين بفضل الله عليهم.. وفرق كبير بين من يعجب بما عنده، وبين من يعجب بما أعطاه الله.. فالأول يتكبر ويُدل ويبطر.. والثاني يحمد الله، ويضع النعمة في محلها، ويتواضع لخلق الله، لعلمه أن تلك النعمة ليست منه، وإنما هي من ربه.

ولذلك عرف الحكماء العجب بأنه (استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم عز وجل)‏([14])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للعجب ـ كسائر مثالب النفس الأمارة ـ دوائين، لا يمكن أن ينال الشفاء أحد من دون استعمالهما.

العلاج المعرفي:

أما الأول.. وهو العلاج المعرفي.. فلا يمكن أن يتم إلا بعد التحقيق في ماهية العجب، والتفريق بينه وبين ما يشابهه من الأوصاف المحمودة.. حتى لا يزيل المداوي صفات أُمر بأن تتوفر فيه.

ولعل أقرب ما ييسر لك ذلك التفريق قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] في نفس الوقت الذي نهي فيه عن الفرح بأشياء كثيرة([15]).

ذلك أن العجب هو نوع من الفرح الذي يعتري النفس.. فإن كان هذا الفرح بفضل الله، كان فرحا في محله، وإن كان فرحا بالنفس، كان بطرا وكبرا وانحرافا.

أما الأول، وهو الفرح بالله، والإعجاب بفضله؛ فيثمر التواضع، وحمد الله، وشكره على نعمه، والخوف من التقصير في حقها، والذي يؤدي إلى سلبها.. ولذلك يكون الفرح مغمورا بالورع والتقوى والصلاح والعبودية.

وأما الثاني، فيجعل الإنسان مستكبرا بطرا مزهوا.. كما وصف الله تعالى قارون الذي لم يفرح بخزائن أمواله لكونها رزقا ساقه الله إليه، وإنما فرح بها لتوهمه أنها منه، وله، كما قال تعالى: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]

ولذلك، فإن أحسن علاج يعالَج به هذا الفرح الكاذب هو قراءة ما ورد في القرآن الكريم من عواقب الذين استفزهم وأغراهم ذلك الفرح إلى الدرجة التي تحولوا فيها إلى مناوئين للرسل، ومعادين لأولياء الله.

وقد ذكر الله تعالى عاقبة إعجاب قارون بثروته وبيته وما آتاه الله من خزائن، فكان عاقبة أمره أن خسف الله به{وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 81، 82]

وهكذا كان عاقبة صاحب الجنتين الذي شغله الإعجاب بهما عن شكر الله وحمده، وشغله عن الاستماع لصاحبه الناصح له، والذي قال من شدة الإعجاب: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [الكهف: 35، 36]

حينها علمه صاحبه المؤمن كيف يعالج ذلك العجب الكاذب، فقال له: { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } [الكهف: 37 – 41]

وقد ذكر الله تعالى المصير الذي صارت إليه تينك الجنتان، فقال: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } [الكهف: 42، 43]

وعند تأملك ـ أيها المريد الصادق ـ في مقالة الصاحب المؤمن، تجد الحقائق التي يمكنك أن تستند إليها في علاج العجب الكاذب، وأولها أن تعلم أن كل شيء من الله، وأنه عارية عندك، ليختبرك به، وأنه كما أعطاك يمكن أن يمنعك، وكما منّ عليك به يمكن أن يحرمك منه.

ولذلك تنظر إلى ذلك الفضل الإلهي نظر التواضع، حتى تنجج في اختبارك، وحتى لا يكون وسيلة لأن يُسلب منك.

وقد ذكر الإمام الصادق ـ بيانا لما ورد في القرآن الكريم ـ المعارف الكبرى التي تحفظ قلبك من العجب، فقال: (العجب كل العجب ممن يعجب بعمله وهو لا يدري بما يختم له، فمن أعجب بنفسه وفعله فقد ضل عن نهج الرشاد، وادعى ما ليس له، والمدعي من غير حق كاذب، وإن خفي دعواه وطال دهره فإنه أولى ما يفعل بالمعجب نزع ما أعجب به، ليعلم أنه عاجز فقير، ويشهد على نفسه لتكون الحجة عليه أوكد، كما فعل بإبليس، والعجب نبات حبها الكفر، وأرضها النفاق، وماؤها البغي، وأغصانها الجهل، وورقها الضلالة، وثمرها اللعنة والخلود في النار، فمن اختار العجب فقد بذر الكفر وزرع النفاق، ولا بد من أن يثمر) ([16])

فاجعل هذه المقولة ـ أيها المريد الصادق ـ بين عينيك؛ فهي مقولة إمام من أئمة الهدى، ووارث من ورثة النبوة، وهو يحذرك فيها من آثار العجب، فهو مثل الأمراض الخبيثة يتطور ويثمر كل ألوان الخبائث.

وقد سئل الإمام الكاظم عن العجب الذي يفسد العمل، فقال: (العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله، فيراه حسنا ويحسب أنه يحسن صنعا، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله، ولله عليه فيه المنة)([17])

إن الإمام الكاظم ـ أيها المريد الصادق ـ يشير إلى أثر من آثار العجب الخطيرة، وهو الإدلال على الله، ذلك الذي نهى الله تعالى عنه في قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، وقد قيل في تفسيرها: (أي لا تدل بعملك)

وهو ما أشار الله تعالى إليه في قول صاحب الجنتين: {مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، فقد بلغ به إعجابه بنفسه أنه تصور أن الله سيرزقه في الدار الأخرى، كما رزقه في الدنيا.

ومثله ذلك المشرك المعاند الذي حدث عنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]، وقد رد الله تعالى عليه بقوله: { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [مريم: 78 – 80]

ولهذا اتفق الحكماء على خطر الإدلال وكونه ثمرة من ثمار العجب، وقد قال بعضهم في ذلك: (لأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك)

ثم بين سر ذلك، فقال: (الإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب، ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منها كان مدلا بعمله فإنه لا يتعجب من رد دعاء الفساق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك. فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه) ‏([18])

 العلاج السلوكي:

إذا علمت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وتأملت فيه، فإنه سيفيدك كثيرا في علاج العجب، ويقيك من آثاره الخطيرة على نفسك.

ومما يعينك على ذلك أن تقرأ سير الصالحين، لترى صلاحهم وتقواهم وطهارتهم، وبذلك يتحول إعجابك بنفسك إلى إعجاب بهم، والخير كل الخير في إعجابك بالصالحين ومحبتك لهم.

ولهذا امتلأ القرآن الكريم بذكر صفات الصالحين الصادقين الذين نجحوا فيما وضعوا فيه من الاختبارات.. فضع ما ذكره القرآن الكريم عنهم بين عينيك، وسترى كيف يملؤك ذلك بالعبودية والتواضع.

واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ دائما تلك الحقيقة القرآنية التي عبر عنها قول الله تعالى: { فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64] ، وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 83] ، وقوله: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تشير إلى أن كل كمال تستشعره في نفسك، أو عمل تقوم به، أو تزكية تحصل عليها، إنما هي فضل إلهي خالص، كما عبر عن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد ينجيه عمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)([19])

ولذلك، كان لك أن تعجب بها جميعا، لكن باعتبارها فضل من الله عليك، وليس كسبا من كسبك، أو فضلا من فضلك.

أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي ما ذكره بعضهم لشيخه حين قال له: (كيف يمكنني أن أجهل أعمالي؟ وإني أنا عملتها وإني أنتظر عليها ثوابا، ولو لا أنها عملي لما انتظرت الثواب فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع؛ فمن أين لي الثواب، وإن كانت الأعمال مني وبقدرتي فكيف لا أعجب بها؟)([20])

وأنا أحيلك في الجواب إلى القرآن الكريم.. فاقرأه بعين قلبك، وستجد الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين بعدما انتصروا على أعدائهم، ويقول لهم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الأنفال: 17]

ويمكنك أن تقيس على هذا كل أعمالك، فالله تعالى هو الذي (خلقك، وخلق أعضاءك، وخلق فيها القوة والقدرة والصحة، وخلق لك العقل والعلم، وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئا من ذلك عن نفسك لم تقدر عليه) ([21])

وإن كنت (تحسب أن العمل حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك وبوجود علمك وإرادتك وقدرتك وسائر أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك، فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه وهذا المفتاح بيد الله تعالى، ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل، فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة) ([22])

إذا علمت كل هذا  ـ أيها المريد الصادق ـ فإنه يمكنك أن تبدأ في العلاج السلوكي المرتبط بتفاصيل حياتك، والمحال التي وجدت فيروس العجب قد اخترقها، لتزيله عنك، وتتحول إلى عبودية ربك.

وقد ذكر الحكماء الكثير من التفاصيل المرتبطة بذلك، ولن أذكرها لك جميعا، بل أكتفي بسبعة شواهد منها، تغنيك عن غيرك، أو تدربك على التعامل مع غيرها ([23]) .

أما أولها.. فالإعجاب بجمال البدن.. وعلاجه ـ بالإضافة إلى تلك الأدوية العرفانية ـ بالتفكر في (أقذار الباطن، وفي أول أمره وآخره،  وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور بحيث استقذرتها الطباع) ([24])

وأما الثاني.. وهو الإعجاب بالقوة والبطش‏، فعلاجه بالتفكر في الأقوام الذين ذكرهم القرآن الكريم، والذين امتلأوا بالعجب بقوتهم، كما قال الله تعالى عنهم: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } [فصلت: 15، 16]

وأما الثالث .. وهو العجب بالعقل والكياسة و التفطن لدقائق الأمور، وهو ما يثمر الاستبداد بالرأي، وترك المشورة، واستجهال المخالفين.. وعلاجه (أن يشكر الله على ما رزق من العقل، ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك الناس منه، ولا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره، وليستقصر عقله وعلمه، وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا، وإن اتسع علمه وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما علمه، فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى.. وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم، فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري فإن قاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه، فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن بجهل نفسه فيزداد به عجبا)

وأما الرابع .. فالعجب بالقومية والعرق والنسب، وخاصة إن كانت مرتبطة بالصالحين.. وعلاجه (أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم فظن أنه ملحق بهم فقد جهل، وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب، بل الخوف والإزراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة النفس، وقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال المحمودة، لا بالنسب، فليتشرف بما شرفوا به.. بالإضافة إلى ذلك، فقد ساواهم في النسب، وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله، فكانوا عند الله شرا من الكلاب وأخس من الخنازير، ولذلك قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد، ثم ذكر فائدة النسب فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13])

ولهذا عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أي المؤمنين أفضل؟) لم يقل: (أشرفهم نسبا)، وإنما قال: (أحسنهم خلقا)، وعندما سئل: (فأي المؤمنين أكيس؟)، قال: (أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الاكياس) ([25])

وهكذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية ـ أي كبرها ـ كلكم بنو آدم وآدم من تراب)([26])، وقال مخاطبا قريش: (يا معشر قريش يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتقولون: يا محمد يا محمد فأقول: هكذا) ([27])

 وأما السادس.. فالعجب بكثرة الأتباع والمعجبين.. والذين ضرب الله تعالى مثلا عنهم بالمشركين الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35].. وعلاجه ما ذكره القرآن الكريم حين قال معقبا على قولهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 36، 37]

وعقب على هذا في آية أخرى، فقال: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [التوبة: 69]

 وهذه الآيات الكريمة تشير إلى (ضعفه وضعفهم، وأن جميعهم عبيد عجزة، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا .. ثم كيف يعجب بهم، وهم سيفترقون عنه إذا مات فيدفن في قبره ذليلا مهينا وحده لا يرافقه ولد ولا أهل ولا قريب ولا حميم‏ و لا عشير، فيسلمونه إلى البلى وإلى الحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئا وهو أحوج أوقاته إليهم وكذلك يهربون منه يوم القيامة { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34 – 37]، فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك، ويهرب منك)

وأما السابع.. فالعجب بالمال‏ ومتاع الحياة الدنيا.. فعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظم غوائله.. وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل له، وإلى أن في المشركين واليهود والمنحرفين من يزيد عليه في المال، ويتذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلي يوم القيامة)([28])

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ بعض النماذج التي قد تعينك في علاج العجب، وإياك أن تبرئ نفسك منه، فتقع فيه.. فالعاقل هو الذي يحتاط لنفسه، ويحذر قبل تمكن المرض منه، وحينها قد لا يستطيع منه فكاكا.

وأحذرك ـ أيها المريد الصادق ـ من أن تقع فيما يقع فيه بعضهم من كثرة حديثه عن نفسه، وثنائه عليها، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، فذلك مقام رفيع، لا يصل إليه إلا من تجرد من نفسه وأهوائه، فكان ثناؤه على نفسه ثناء على ربه.. فلا تتخط رقاب الصديقين.. فلكل مقام أهله، ولكل حالة رجالها.


([1])  رواه البيهقي في الشعب.

([2])  رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه.

([3])  رواه البزار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب.

([4])  الكافي  ج 2 ص 313 رقم 1.

([5])  الكافي  ج 2 ص 313 رقم 2.

([6])  الكافي  ج 2 ص 313 رقم 4.

([7])  الكافي ج 2 ص 313 تحت رقم 5 والمدل: المنبسط المسرور الذي لا خوف له من التقصير في العمل.

([8])  الكافي ج 2 ص 114 رقم 6..

([9])  الكافي ج 2 ص 314 تحت رقم 8.

([10])  الكافي ج 2 ص 314 تحت رقم 8.

([11])  مسلم (2470)

([12])  أحمد (3/ 123) ، والحاكم (3/ 255).

([13])  شرح الأخبار 1: 139، الحاكم في المستدرك (3394)

([14])إحياء علوم الدين 3/ 370.

([15])  شرحنا بتفصيل المواضع التي نهي فيها عن الفرح، في كتاب [لا تفرح]

([16])  مصباح الشريعة، الباب الأربعين، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 277.

([17])  الكافي، ج 2 ص 313.

([18]) (7) إحياء علوم الدين 3/ 371.

([19])  مسلم (2816) (73)

([20])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 279

([21])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 280

([22])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 280

([23])  انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في إحياء علوم الدين والمحجة البيضاء وغيرهما من كتب السلوك والأخلاق، وقد ذكرنا الكثير من التفاصيل المرتبطة بهذا من خلال ما ورد في القرآن الكريم في كتاب [لا تفرح]

([24])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 284 ، فما بعدها.

([25])  ابن ماجه رقم 4259  

([26])  أبو داود ج 2 ص 624.

([27])  رواه الطبراني .

([28])  مسلم ج 6 ص 148.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *