الغرور

الغرور

كتبت ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على ما ذكرته لك من أدوية حول مرض الغفلة، وكيفية علاجه، وذكرت أنك جربت تلك الأدوية التي وصفتها لك، وأنك رأيت بعض آثارها العاجلة عليك، وعلى قلبك.. وأنك أصبحت ـ لذلك ـ تلتذ بالذكر بعد أن كنت تنفر منه، وترق للمواعظ بعد أن كنت تضيق منها.

وأنا أبشرك بأنك إن أدمنت على ذلك وداومت عليه، فستنقشع عن قلبك كل الحجب، وسيزول كل الران الذي يحول بينك وبين رؤية الحق واتباعه.

لكني ـ مع ذلك ـ أحذرك من مرض لا يقل خطرا عن الغفلة، بل قد يكون أخا توأما له، وهو مسلك من مسالك الشيطان التي يتخذها مع من نجا من استحواذه عليه بسبب الغفلة.

وذلك المرض الخطير، هو الغرور، ذلك الداء الذي تنقصم له الظهور.. جميع الظهور.. حتى ظهور الصالحين التي قد تتذوق حلاوته، فتأنس لها، وتنسى أن الامتحان لم ينته، وبذلك تسقط، ولو في آخر اللحظات.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، وحذر منه أشد تحذير، وضرب المثل له بآدم عليه السلام، ذلك الذي جاءه الشيطان من هذا الباب، بعد أن علم استعداده للوسوسة من خلاله، فقال: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]

فالشيطان استطاع أن يغري آدم بالأكل من الشجرة، بسبب ما رآه من طمأنينته في الجنة، وتوهمه أنها ستبقى له أبد الآباد، وأنه لن يزيحه منها أحد، خاصة بعد أن علم لطف الله ورحمته وكرمه.. ولذلك أتاه الشيطان من هذا الباب، وراح يقسم له بالأيمان المغلظة إلى أن صدقه.

ولذلك اعتبر الله تعالى الغرور من أكبر أسلحة الشيطان التي يستعملها في غواية الإنسان، قال تعالى: { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]

وقال ـ مفصلا وسائله وأساليبه في ذلك ـ : {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } [النساء: 117 – 120]

وقال مبينا إقرار الله للشيطان فيما يريد أن يستعمله من وسائل للإيقاع بالإنسان:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64]، ثم بين بعدها سر ذلك الإقرار، وهو تمييز الصادقين من المغترين، فقال: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا } [الإسراء: 65]

وهكذا ذكر أن الغرور هو المصيدة التي يستعملها كل شياطين الإنس والجن، للإيقاع بمن يريدون ضمهم إلى صفوفهم، فقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 112]

وهكذا اعتبر كل ما ينحرف بالإنسان عن مسيرة الترقي التي هيأها له، نوعا من أنواع الغرور، ومادة من مواده.. وبما أن كل ذلك مجتمع في الدنيا، فقد اعتبرها المتاع الذي لا يقع في حبائله إلا المغترون، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]

ولهذا كله اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغرور هو المصيدة التي لا ينجو منها إلا الفطنون الحذرون الصادقون الذي لا يسكنون لشيء، فقال: (حبّذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم، ولمثقال ذرّة من صاحب تقوى ويقين أفضل من مل‏ء الأرض من المغترّين)([1])

وقال في حديث آخر: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والاحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على اللَّه الأمانيّ)([2])

وليس ذلك فقط، ما ورد في النصوص المقدسة من التحذير من الغرور، وإن كان كافيا، بل إن (كلّ ما ورد في فضل العلم وذمّ الجهل فهو دليل على ذمّ الغرور، لأنّ الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشي‏ء، ويراه على خلاف ما هو به، والغرور هو الجهل)([3])

بل هو أخطر أنواع الجهل، ذلك أن الغرور جهل مركب؛ فالمغرور لا يكتفي بأن يجهل، وإنما يضم إليه ذلك التفكير الرغبوي الذي يجعله يرى الأشياء كما يحب، لا كما هي في الواقع، ثم يذهب إلى المغالطات والأكاذيب ليعتمدها أدلة على صدق دعواه، وإن لم تكن كذلك.

ولذلك يصبح علمه علم هوى، لا علما موضوعيا واقعيا.. وذلك أخطر أنواع الجهل.. ولهذا عرف الحكماء الغرور بأنه (سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنّه على خير إمّا في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور) ([4])، وعرفوه بأنه (إخفاء الخدعة في صورة النّصيحة)([5])، وأنه (تزيين الخطإ بأنّه صواب)([6])

لا تيأس ـ أيها المريد الصادق ـ فأنا لم أرد ملأك بالقنوط عند تحذيري لك من الغرور، وإنما قصدي أن تنتبه له، وتحذر منه، ولا تكتفي بتلك اللذة التي وجدتها عند ذكرك لربك، أو عبوديتك له، فقد يأتيك الشيطان من حيث لا تحتسب، وقد قال الله تعالى عن ذلك الذي لم يأخذ حذره من الغرور: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]

ولهذا؛ فإني أنصحك ـ أيها المريد الصادق ـ مثلما نصحني جميع أساتذتي ومشايخي بأن تستعمل كل يوم، بل كل لحظة هذين الدوائين اللذين سأصفهما لك.. وهما كسائر أدوية النفس، أحدهما يرتبط بالمعرفة، والثاني بالعمل.. أولهما المقدمة، وثانيهما النتيجة.

العلاج المعرفي:

أما الأول.. وهو العلاج المعرفي.. فاعلم أن السبب الأكبر للغرور هو عدم التصديق بوعد الله أو وعيده، أو ضعف ذلك التصديق.. وبقدر الضعف يكون الغرور.

ومثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل شخص دخل مدينة، وكان معه ثروة كبيرة من أصناف الأموال، وعندما خالط أهل المدينة سكن لهم، وأنس بهم، وتأثر بأخلاقهم.. فجعله ذلك يغفل عن حراسة ثروته؛ فأخذ اللصوص الذين لم ينتبه لهم، يسلبون منه كل حين طرفا منها إلى أن سلبوها منه جميعا.

فهكذا الأمر ـ أيها المريد الصادق ـ مع من اغتر بما وصل إليه من مكاسب أو ناله من شهرة، أو حظي به من أصناف التكريم.. فإنه إن سكن إلى ذلك، جاءه الشياطين بصور الملائكة، وسلبوا منه كل شيء، ومن غير أن يعلم.

ولذلك حذر الله تعالى من السكون إلى الأشياء، قبل معرفة المصير الحقيقي، الذي لا يمكن معرفته ما دمنا في الدنيا، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]

إن مثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل تلميذ في الامتحان؛ فهو قد يجيب عن بعض الأسئلة؛ فيفرح بإجابته، ويسكن لها، ويطمئن إلى نجاحه، ويجعله ذلك يقصر في باقي المواد، إلى أن يخسر كل شيء بسبب تقصيره..

ولهذا، فإن الكيس لا يغتر بالخلق جميعا، ولو أجمعوا على الثناء عليه، لأنه يعلم أن ثناءهم لن يجديه عند ربه ما لم يكن صادقا ومخلصا؛ فالله تعالى هو الذي يميز وحده الناجحين من الراسبين، والفائزين من الخاسرين.

ولهذا تتوالى التحذيرات الإلهية من السكون إلى الدنيا وأهلها، والاغترار بمعسول كلامهم وثنائهم ورضاهم، لأن رضاهم لا يعني رضى الله، كما أن سخطهم لا يعني سخطه، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6]، وقال:{ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [لقمان: 33]

وضرب المثل على ذلك بالمنافقين الذين توهموا أنهم ـ بذلك النور المزيف الذي اكتسبوه في الدنيا ـ نجحوا، لكنهم عرفوا في عالم الحقيقة والتجريد أن كل ما اكتسبوه لم يكن سوى أوهام لبّسوا بها على أنفسهم، قال تعالى: {يوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [الحديد: 13، 14]

لذلك لا تسكن ـ أيها المريد الصادق ـ لأي شيء قد يتلاعب بحقيقتك ومصيرك.. فأنت ما دمت في هذه الدنيا في امتحان واختبار، ولا أحد يضمن لك النجاح، فقد تسقط في آخر محطة من المحطات، وقد ورد في الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثنوا على بعض الناس ثناء حسنا بسبب شجاعته في الجهاد في سبيل الله، فقال رسول الله: (أما انه من أهل النار)، فتعجب القوم من ذلك، ثم إن بعضهم راح يتبعه، فخرج معه فكلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، فرآه في بعض المعارك، قد جرح جرحا شديدا، فوضع نصل سيفه في صدره، وقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟) قال: (الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحا شديدا، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) ([7])

وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال حينها: (يا بلال، قم فأذن: لا يدخل الجنة الا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)

فاحفظ ـ أيها المريد الصادق ـ هذا الحديث، وضعه نصب عينيك؛ فلو أن ذلك الرجل كان موقنا بوعد الله ووعيده، ولو علم ما ينتظر الشهداء من فضله، وما ينتظر المنتحرين من عقابه، لما أقدم على ذلك، وفي آخر لحظة من حياته.

ولا تنس أن تحفظ ما ورد في الرواية الثانية من تأييد الله لدينه بالرجل الفاجر.. فلا يغرنك ما يذكرونه من خدماتك للإسلام والمسلمين.. فذلك كله قد يحبط جميعا بموقف تقفه، أو فلتة تقع منك.. ولا تتعجب من ذلك، فأنت ترى الغابات الشاسعة تحترق بعود ثقاب واحد..

لقد ذكر بعض الحكماء هذاالمعنى، فقال: (رب معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً وأستكباراً)

هل تعلم ـ أيها المريد الصادق ـ سر ذلك؟.. إن سره هو أن ذلك العز والاستكبار يتنافى مع عبوديتك لربك.. فلذلك ترى بعض من يغترون بأعمالهم الصالحة مثل الجبابرة والفراعنة، وكأن مفاتيح الجنان أصبحت بأيديهم، لا يكتفون هم بدخولها فقط، وإنما يرون أنفسهم من المتحكمين في الجنة يدخلون إليها من شاءوا، ويخرجون من شاءوا.

هذا هو العلاج الأول ـ أيها المريد الصادق ـ ولا يعينك عليه شيء مثل كثرة قراءتك للقرآن الكريم، وتدبرك فيما ورد فيه من آيات.. فهو ينبهك كل حين من رقدتك، ويحذرك من السكون إلى الأشياء.. ويجعلك ترى العالم بصورته الحقيقية، لا بتلك الصورة التي يصوره لك بها المغترون، الذين يزينون لك أعمالك، إلى أن تلقى الله، وليس في صحيفتك حسنة واحدة.

ولهذا احذر أن تسكن إليهم، أو تفرح بما يذكرونه لك، فـ (لأن تلقى قوما يخوفونك حتى تجد الأمان، خير من أن تجد من يؤمنك إلى أن تجد المخافة)

واحذر من قولهم لك (إنّ اللّه كريم، وإنّا نرجو عفوه)؛ أو ما ذكر عن بعضهم أنه قال: إذا قيل لك: (ما غرّك بربّك الكريم؟)، فقل: (غرّني ستورك المرخاة لأنّ الكريم هو السّتّار)

فكل هذا ناتج عن سوء فهم لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، فكرم الله ورحمته ولطفه بعباده، لا يعنيان عدم وجود عدله أو انتقامه ممن حرف أو انحرف.. وقد قال المفسرون في الآية الكريمة: (هذا تهديد، لا كما يتوهّمه بعض النّاس من أنّه إرشاد إلى الجواب، حيث قال الكريم، حتّى يقول قائلهم غرّه كرمه، بل المعنى في هذه الآية: ما غرّك يا بن آدم بربّك الكريم، أي العظيم حتّى أقدمت على معصيته و قابلته بما لا يليق كما جاء فى الحديث: (يقول اللّه تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم ما غرّك بي؟ يا بن آدم ما ذا أجبت المرسلين؟)[8]

ويدل لذلك قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، فالذي يقتصر من معرفته بالله على المغفرة والرحمة دون أن يعلم أنه يمكن أن يعاقب ويعذب.. مثل ذلك الذي يأكل العسل المسموم، متوهما أن الحلاوة لا يمكن أن يختلط بها سم..

وبما أن الله تعالى خلق العسل والسم.. فالعاقل هو الذي يعلم أنه يمكن أن يرحم، كما أنه يمكن أن يعذب.. ولذلك كانت الفطنة في كلا المعرفتين، لا في الاقتصار على ما تشتهيه النفس منهما.

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تورد لي هنا ما يورده المغترون الذين آثروا الحياة الدّنيا، واطمأنوا لها، وتوهموا أن مجرّد الإيمان يكفي للفوز، مع أن الله تعالى قرن مغفرته لعباده بالكثير من الشروط، فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]

وإياك أن تسمع لتحريفهم للأسماء، وتبديلهم لها، حيث يسمون ذلك الغرور رجاء وحسن ظن بالله، ويوردون لك كل النصوص المقدسة التي تبين فضل ذلك..

وهؤلاء اشتبه عليهم الأمر؛ فأعملوا بعض النصوص، وضيعوا غيرها.. ولو فطنوا لأعملوها جميعا..

فلو أنهم تدبروا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على اللّه) ([9]) لعلموا أنهم المقصودون بذلك، ذلك أنهم غيروا اسم [التّمنّي] باسم [الرجاء]، مع أن الرجاء الذي دعا إليه القرآن الكريم لا يرتبط بالكسالى والمقعدين والمغرورين، وإنما يرتبط بأولئك الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة: 218]

ولو أنهم تدبروا كيف قرن الله تعالى الرجاء بالخوف، ثم رجح جانب الخوف، فقال في وصف عباده الصالحين: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]

ولهذا، فإن أول علامات النجاة من الغرور، الحذر والحيطة التي يصحبها العمل لا الكسل، وقد قيل لبعض الحكماء: (قوم يقولون نرجو اللّه، ويضيّعون العمل)، فقال: (هيهات هيهات.. تلك أمانيّهم يترجّحون فيها، من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه)

قد تسألني ـ أيها المريد الصادق ـ عن محل الرّجاء؛ فاعلم أن الحكماء ذكروا له موضعين، أولهما مرتبط بذلك الذي أنهكته الذنوب، وطمع في التوبة، لكن شياطين الإنس والجن، راحوا يسخرون من طمعه فيها، وراحوا يؤيسونه من رحمة الله تعالى، فذلك الذي عليه أن يرجو غفران الله إن صدق في توبته، وأصلح ما أفسده من حاله، كما قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 53]

وأما الثاني؛ فذلك الذي يستعمل الرجاء محركا له للجد في العمل الصالح، فيقرأ ما ورد في فضائل الأعمال، وما أورده الله تعالى في كلماته المقدسة، ويمني نفسه بتحصيل ذلك الأجر العظيم، ثم يندفع إلى ذلك العمل بصحبة ذلك الأمل..

فكلا الشخصين لم يستعملا الرجاء كمخدر للوهم والخديعة، وإنما استعملاه كمنشط للقيام بالأعمال الصالحة.. ولهذا فإن الفرق بين الرجاء والغرور في نتيجة كليهما.. فمن جعله رجاؤه نشيطا جادا في العمل الصالح، فهو صاحب رجاء حقيقي، ومن جعله رجاؤه كسولا متثاقلا، فهو مغرور بالأماني الكاذبة.

العلاج السلوكي:

وأما العلاج الثاني للغرور؛ فهو ذلك الجهد والنشاط والهمة العالية التي تحول من المغرور كيّسا فطنا حذرا ورعا.. لا تغره الأماني الكاذبة، ولا معسول الكلام.. بل يسعى بهمته للعمل الصالح، ولا يكتفي به، بل يتفقد نفسه، ويراجعها ليبحث عن أي ثغرة قد يدخل إليه الشيطان منها.. أو أي فيروس قد يقضي على كل ما اكتسبه من أعمال.

لقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك، فقال: (المغرور في الدّنيا مسكين وفي الآخرة مغبون لأنّه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك حيث ربّما اغتررت بمالك وصحّة جسمك أن لعلّك تبقى، وربّما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلّك تنجو بهم. وربّما اغتررت بجمالك ومنيتك وإصابتك مأمولك وهواك، فظننت أنّك صادق ومصيب، وربّما اغتررت بما ترى من الندم على تقصيرك في العبادة ولعلّ اللَّه تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربّما أقمت نفسك على العبادة متكلّفا واللَّه يريد الإخلاص، وربّما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب اللَّه، وربّما توهّمت أنّك تدعو اللَّه وأنت تدعو سواه، وربّما حسبت أنّك ناصح للخلق، وأنت تريدهم لنفسك، وأن يميلوا إليك، وربّما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة، واعلم أنّك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمنّي إلّا بصدق الإنابة إلى اللَّه والإخبات له ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا توافق العقل والعلم ولا يحتمله الدّين والشريعة وسنن القدوة وأئمة الهدى، وإن كنت راضيا بما أنت فيه، فما أحد أشقى بعلمك منك وأضيع عمرا فأورثت حسرة يوم القيامة)([10])

هذا ما قاله الإمام الصادق، وهو ما اتفق عليه جميع الحكماء، ودلت عليه جميع النصوص المقدسة.. ولذلك كانت منافذ الغرور دقيقة جدا، قل من ينجو منها إلا المخلصون الصادقون الذين حاسبوا أنفسهم في ذات الله، ولم يلينوا لها، ولم يسكنوا لشيء.

وسأورد عليك ـ أيها المريد الصادق ـ بعض ما ذكروه عن أصناف المغترين، لا لتحفظه، أو تعتقد أنه النهاية.. بل لتحذر منه وتحذّر.. فمسالك الشيطان أكثر من أن يحصيها أحد.

فقد ذكروا أن من أوائل المغترين أولئك الذين لبسوا حلل أهل العلم، فتوهم الناس أن الجنة قد ضمنت لهم، مع أنهم في أشد المواضع خطرا، وقد أخبر الله تعالى عن غرور علماء من سبقنا من الأمم، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة: 34]

ونفس الحكم ينطبق على علماء هذه الأمة، ولذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالخير ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه)([11])

 وضرب صلى الله عليه وآله وسلم للذي لا يعمل بعلمه مثلا، فقال: ( مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها)([12])

وأخبر عن العقاب الشديد الذي يصيب أولئك الذين اغتروا بما عندهم من العلم، فقال::( كل علم وباله على صاحبه إلا من عمل به)([13]) وفي رواية:( أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه:( اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع)([14])

ولهذا، فإن كل من لم يلتفت لهذه النصوص المقدسة، وراح يزهو بما عنده من العلم مغتر، فأول علامات العالم تواضعه وعبوديته لله، وشده حذره من التكاليف المناطة به، وأولها أن يطبق ما تعلمه من علم، حتى يعطي النموذج الصالح عن علمه.

لقد ضرب بعض الحكماء مثلا لذلك الذي يغتر بالعلم المفصول عن العمل، بمريض به علّة لا يزيلها إلّا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلّا حذّاق الأطباء.. وبعد أن بذل كل جهده في طلب الطبيب.. وهاجر عن وطنه حتّى عثر عليه، (فعلّمه الدّواء وفصّل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها الّتي منها تجتلب وعلّمه كيفيّة دقّ كلّ واحد منها وكيفيّة الخلط والعجن، فتعلّم ذلك منه فكتب منه نسخة حسنة بخطّ حسن ورجع ‏إلى بيته وهو يكرّرها ويقرؤها ويعلّمها المرضى ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أ فترى أنّ ذلك يغني عنه من مرضه شيئا؟)([15])

هيهات هيهات.. وأنى له ذلك.. بل إنه (لو كتب منه ألف نسخة، وعلّمه ألف مريض حتّى شفى جميعهم وكرّره كلّ ليلة ألف مرّة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلّا أن يزن الذّهب، ويشتري الدّواء، ويخلطه كما تعلّم ويشربه ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلا، فمهما ظنّ أنّ ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره) ([16])

ولهذا، فإن الله تعالى قال عن النفس: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، ولم يقل: (قد أفلح من تعلّم كيفية تزكيتها، وكتب علمها وعلّمها الناس).. وهكذا قال: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، فربط الزكاة بالعمل، فلا تزكية من دون علم وعمل.

وهكذا يدخل في المغترين أولئك الذين اهتموا بالشعائر التعبدية دون ملاحظة مقاصدها؛ فحولوها من شعائر للتقرب إلى الله، وتزكية النفس إلى طقوس ظاهرية لا أثر لها في حياتهم إلا ذلك الكبر الذي يملأ نفوسهم.. فحولوا عبادة الله إلى وسيلة لعبادة أنفسهم.

وهؤلاء كثيرون جدا.. فمنهم من (أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالفضائل والنوافل، وربّما تعمّقوا في الفضائل حتّى خرجوا إلى العدوان والسرف كالّذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرتضي الماء المحكوم بطهارته في فتوى الشرع ويقدّر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة) ([17])

لكنه عند الورع عن أكل الحرام تجده ـ بعكس ذلك ـ (يقدّر الاحتمالات القريبة بعيدة، وربما أكل الحرام المحض)، مع أن النصوص المقدسة تتشدد في المال الحرام، وتيسر وترفع الحرج في الأمور المرتبطة بالطهارة والشعائر التعبدية.

ومنهم من راح يجعل كل اهتمامه عند قراءة القرآن الكريم على إخراج حروفه من مخارجها؛ (فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء.. لا يهمّه غيره، ولا يتفكّر فيما سواه ذاهلا عن معنى القرآن والاتّعاظ به وصرف الهمّ إلى فهم أسراره، وهذا من أقبح أنواع الغرور، فإنّه لم يكلّف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلّا بما جرت به عادتهم في الكلام) ([18])

إن مثل هؤلاء ـ أيها المريد الصادق ـ مثل (من حمل رسالة إلى مجلس سلطان، فأمر أن يؤدّيها على وجهها؛ فأخذ يؤدّي الرّسالة ويتأنّق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرّة بعد أخرى، وهو في ذلك غافل عن مقصود الرّسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بأن تقام عليه السياسة فيردّ إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل)

ومنهم من راح يصب كل اهتمامه عند صومه على ترك المفطرات من الأكل والشرب، ويبالغون في ذلك، بينما هم (لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة، وخواطرهم عن الرّياء، وبطونهم عن الحرام عند الإفطار، وألسنتهم من الهذيان بأنواع الفضول طول النهار)

ومنهم من راح يجعل كل اهتمامه ـ في تدينه ـ بالإكثار من الحج والعمرة، (فيخرجون إلى الحجّ‏ من غير خروج عن المظالم وقضاء الدّيون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزّاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجّة الإسلام ويضيّعون في الطريق الصلاة والفرائض.. ولا يحذرون في الطريق عن الرفث والخصام، وربّما جمع بعضهم الحرام وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرّياء، فيعصي اللَّه في كسب الحرام أوّلا وفي إنفاقه بالرّياء ثانيا، فلا هو أخذه من حلّه ولا هو وضعه في حقّه، ثمّ يحضر البيت بقلب ملوّث برذائل الأخلاق وذمائم الصفات، لم يقدم تطهير قلبه على حضور بيت ربّه، وهو مع ذلك يظنّ أنّه على خير من ربّه وهو مغرور)

وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكن أن يدخل الغرور في أي عمل من الأعمال، والعاقل هو الذي يحاسب نفسه، ويزن أعماله بميزان الشريعة، لا بميزان الهوى، حتى لا يلقى الله، وليس في جعبته حسنة واحدة، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [الكهف: 103 – 105]

فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون من هؤلاء، وكن فطنا حذرا.. وراجع كل موقف تقفه، أو سلوك تقوم به.. ولا يغرنك أحد عن نفسك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (استفت قلبك، واستفت نفْسَك ثلاث مرات؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ([19])

واحذر أن تسلم دينك لأحد من الناس، فينطبق عليك قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167]، وقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66، 67]

فاحذر من كل فتوى تبعدك عن ربك وعن دينك وعن القيم المقدسة التي جاء بها، والتي دلت عليها الفطرة السليمة.. فإنه لن يجديك عند الله أن تبرئ نفسك، وتلقي التهمة على من أفتاك أو خدعك عن نفسك..


([1])  ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين.

([2]) الترمذي والحاكم وأحمد وابن ماجه رقم 4260.

([3])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 293.

([4])  المرجع السابق،  ج‏6، ص: 292.

([5]) التوقيف ص 252.

([6]) الكليات للكفوي ص 672.

([7])  رواه البخاري.

[8]  تفسير ابن كثير( 4/ 451).

([9]) الترمذي والحاكم وأحمد وابن ماجه رقم 4260.

([10]) مصباح الشريعة،  الباب السادس والثلاثين، نقلا عن: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 357.

([11])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([12])  رواه البزار وغيره.

([13])  رواه الطبراني.

([14])  رواه مسلم وغيره.

([15])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏6، ص: 310.

([16])  المرجع السابق،  ج‏6، ص: 311.

([17])  المرجع السابق،  ج‏6، ص: 333.

([18])  المرجع السابق،  ج‏6، ص: 334.

([19])  رواه أحمد 18006 والدارميُّ 2533.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *