الصادق الأمين

الصادق الأمين
سيدي يا رسول الله.. أيها الصادق الذي شهد له كل شيء بالصدق.. الأمين الذي أقر له كل شيء بالأمانة.. حتى صار لقبه في العالمين: الصادق الأمين.
وكيف لا تكون كذلك سيدي، وأنت الذي حُّملت أعظم رسالة، وكُلّفت بأضخم مهمة، وأنيطت بك أثقل أمانة.. فأديتها بكل دقة ورعاية وإتقان، وبجميع تفاصيلها، ظاهرا وباطنا، حتى لقيت الله تعالى، وقد أديت كل ما عليك من تكاليف..
وقد شهد الله لك بذلك، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [الزمر: 32، 33]
وقد أثبتت الأيام صدق كل ما ذكرته، فلا استطاع العلم ولا التطور ولا التقدم التقني ولا العقول البشرية الكثيرة، ولا المؤسسات العلمية الضخمة، أن تكذب حرفا واحدا مما جئت به، بل كلها أقرت لك بالصدق، وأنك بلغت كل ما كُلفت به من غير زيادة ولا نقصان.
وأثبتت الأيام معها عظيم نصحك لأمتك التي خالفتك في كثير من وصاياك؛ فنزل بها ما نزل بالأمم قبلها من البعد عن كتابها وهديك، فآل حالها إلى الضعف والاستبداد والتفرق، ولو أنها اتبعت وصاياك، ونفذت تعاليمك كما بلغتها، لكانت أفضل الأمم، وأقواها، وأطهرها، وفي جميع العصور.
ولم تكن الأيام فقط هي التي شهدت لك بذلك ـ سيدي ـ بل إن قومك أنفسهم، أولئك الذين نصبوا لك العداء، كانوا أكثر الناس تصديقا لكم، لكن الكبر والظلم والعتو حال بينهم وبين اتباعك، كما قال الله تعالى: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]
وقد روي في سبب نزولها أن أبا جهل لقيك؛ فقال: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به ([1]).
وحدث بعضهم قال: لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل فصافحه، قال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟! فقال: والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟
وروي أنه جاء يستمع لقراءتك من الليل، هو وأبو سفيان ، والأخْنَس بن شِريْق، ولا يشعر واحدٌ منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هَجَم الصبح تَفرَّقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًا أن صاحبيه لا يجيئان، لما تقدم من العهود، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا ألا يعودوا. فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شَرِيق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حَنْظَلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، حملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تَجاثينا على الرُّكَب، وكنا كَفَرَسي رِهَان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه([2]).
وروي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شَرِيق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدًا ابن أختكم، فأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبيًا لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غُلِبَ محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا.. فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؛ فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟)([3])
وحدث آخر قال: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني كنت أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، أدعوك إلى الله. فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منتهٍ عن سبَ آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلَّغت؟ فنحن نشهد أن قد بلَّغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء: أن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل([4]).
بل إنهم ـ سيدي ـ شهدوا لك بذلك، ومن أول يوم دعوتهم فيه إلى دينك، فكل المؤرخين متفقون على أنه لما نزل عليك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] صعدت على الصفا، فجعلت تنادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فقلت لهم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، فقلت: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب حينها: تبّا لك يا محمد ألهذا جمعتنا فنزلت:﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ (المسد:1)([5])
ومن الأعداء الذين شهدوا لك بالصدق رغم عداوتهم الشديدة النضر بن الحارث الذي خاطب قومه قائلا: (يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه)، ثم قال لهم: (يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم)([6])
هذا كلام النضر بن الحارث الذى كان شيطاناً من شياطين قريش، ومثله قال سائر أعدائك كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
ولم تكن هذه الشهادة خاصة بحياتك ـ سيدي ـ بعد البعثة، بل إنه قبل البعثة اشتهرت باسم الصادق الأمين، وقد ذكر شريكك في التجارة السائب المخزومي كيف كنت تتعامل معه، فقال ـ بعد أن لقيك يوم الفتح ـ:(مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري)، وقال:(كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري) ([7])
ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثتك تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكنت أول داخل؛ ففرحوا جميعا، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد.. وقد كانوا يلقبونك بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانتك.
وهكذا عندما ذهبت إلى المدينة المنورة، علم أحبار اليهود صدقك، لكن كبرهم حال بينهم وبينك، ولهذا فإن أول من أسلم كان من كبار أحبارهم بشهادتهم، ومنهم عبد الله بن سلام الذي قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كنت ممن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: (أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)([8])
وهكذا ـ سيدي ـ لا تزال الأيام والتجارب تكشف صدق كلماتك ونصائحك ووصاياك.. لكن من النفوس ما هو لين طيب، يقبل ما جئت به، ويُقبل عليك.. ومنها ما هو قاس غليظ كالحجارة يأبى أن يسلّم لك، ولو أنه موقن بصدقك..
فأسألك ـ سيدي ـ وأتوسل بك إلى الله أن أكون من ذلك الصنف الذي يسلم لك، ويصدقك، ويصدق كل ما جئت به، بلغه عقله أو لم يبلغه.. فأنت عقل العقول، وأنت نور الأنوار.. ومن لم يسلّم لك عاش في ظلال نفسه الأمّارة بالسوء، يستقي من أهوائها، ويجتني من غيها ودسائسها ما يحول بينه وبين الحق وأهله.
وأسألك ـ سيدي ـ وأتوسل بك إلى الله أن
أكون من أولئك الصادقين الذين صدقوا في صحبتك، قولا وفعلا، وإرادة وعزما، وماتوا
على ذلك، فتحقق فيهم قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 23، 24]
([1])رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
([2]) رواه ابن إسحق وغيره.
([3]) رواه ابن جرير.
([4]) رواه البيهقي، وابن أبي شيبة بنحوه.
([5]) رواه البخاري ومسلم.
([6]) سيرة ابن هشام (1/ 270)
([7]) رواه أحمد.
([8]) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.