الجواد الكريم

الجواد الكريم

يا رسول الله.. أيها الجواد الكريم الذي لا يضاهيه أحد في جوده، ولا في كرمه.. وأنى له ذلك، وجودك شمل الأزمنة، ومدد فضلك تعالى  أن تحصره الأمكنة.. فنحن لا نزال نعيش في فيض كرمك ومددك.. فكل من أقبل عليك أقبلت عليه بأنواع الإكرام والتفضل.

وكيف لا تفعل ذلك سيدي، وقد قال الله تعالى عن أولئك الجاحدين الذين لم يعرفوا قيمتك: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة: 74]؟

وما لك لا تكون كذلك سيدي، وأنت عبد الله الذي تجلى عليه الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فتخلق بها، وتحققت فيه، فصار مرآة لها، وقبسا من نورها، وقد قلت معبرا عن ذلك: (ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل)([1])

وما لك لا تكون كذلك سيدي، وأنت الذي كنت تعطي من سألك، وتبدأ من لم يسألك، ولا تحتفظ في بيتك بدينار واحد.. وعندما دخلت على بلال الذي وكلته بكل مال يحصل لديك، فوجدت عنده صبرة من تمر، قلت له: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقلت: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) ([2])

ولذلك كنت تنفق كل ما يصل إليك من المال في كل مواضع الخير، ولا تحتفظ لنفسك بشيء، وقد روي أنك دخلت على أم سلمة ، فرأتك كئيبا حزينا، فسألتك عن سبب ذلك، فقلت لها: (من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس، ولم نقسمها)([3])

وحدثت عائشة  قالت ـ مخاطبة شخصين جاءا يسألانها عنك ـ: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة، فأمرني أن أفرقها، فشغلني وجعه حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، فقال: (ما فعلت، أكنت فرقت الستة الدنانير أو السبعة؟) فقلت: لا، والله، لقد كان شغلني وجعك.. فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: (ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟)([4])

وحدث بلال قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندي شيء من تمر، فقال: (ما هذا؟) فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: (أما تخاف أن ترى له بخارا في جهنم؟)([5])

وحدث أبو ذر  قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صرة المدينة فاستقبلنا أحدا، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، تمضي على ثلاثة، وعندي منه دينار، إلا شيئا أرصده لدين، إلا أن أقول في عباد الله هكذا، وهكذا)([6])

وحدث ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي: (يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟) قلت: يا رسول الله لا أشتهيه، قال: (لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعفون؟ قال: فو الله ما برحنا، ولا زمنا حتى نزلت: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (العنكبوت:60)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارا، ولا درهما، ولا أخبئ رزقا لغد) ([7])

وهكذا كنت ـ سيدي ـ لا تحتفظ بشيء من المال لنفسك، بل كنت تقدمه جميعا في سبيل الله، ولا تحتفظ لنفسك إلا بمقدار حاجتها المحدودة جدا، وقد روي أنكم ذبحتم شاة، فرآها بعض الفقراء، فرحت تأمر أهلك بتقديمها لهم، ثم سألتهم: ما بقي منها؟، فقالوا: ما بقي منها إلا كتفها، فقلت: (بقي كلُّها غير كتفها) ([8])

وقد كان ذلك الخلق العظيم سببا في إسلام من لم تبهرهم المعجزات الواضحات.. لكنهم عندما رأوا يديك المرسلتين بالعطاء، مع حاجتك الشديدة، عرفوا أنك لست طالب دنيا، وأنه لا يمكن لكاذب أن يحمل أوصافك.

لقد ذكر الإمام علي ذلك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل عن شيء، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشيء لا) ([9])

وذكره أنس، فقال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه) ([10])

ثم ذكر نموذجا لذلك، فقال: (فسأله رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر) ([11])

وقال: (وإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها) ([12])

وحدث سهل بن سعد قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى)([13])

وذكر أن امرأة جاءت لك ببردة منسوجة فيها حاشيتها، وقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها فخذها، فأخذتها، وأنت في أشد الحاجة إليها، ثم خرجت بها أمام أصحابك، فرآها أعرابي، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، فقلت: (نعم)، ثم رجعت إلى بيتك، فطويتها، وأعطيتها له([14]).

وحدث هارون بن أبان قال: قدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثر مال أتي به قط، فوضع على حصير من المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائلا، حتى فرغ منه([15]).

وقال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين، فقال: انظروا، يعني صبوه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطى إلى أن جاء العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، فقال: (خذ) فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي قال: (لا)، قال: فارفعه أنت، قال: (لا أستطيع)، ثم نثر منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله: مر بعضهم يرفعه علي، قال: (لا)، قال: فارفعه أنت، قال: (لا) ثم نثر منه فاحتمله، فألقاه على كاهله، فانطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا منه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثم منها درهم) ([16])

ولم تكن تكتفي بكل ذلك ـ سيدي ـ بل كنت تعطي كل من سألك، ولو علمت أنه لم يفعل ذلك عن حاجة، وإنما لما اشتهر من جودك وكرمك، وقد حدث أبو سعيد قال: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألانه عن ثمن بعير فأعانهما بدينارين، فخرجا من عنده، فلقيا عمر، فأثنيا خيرا، وقالا معروفا، وشكرا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهما، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكن فلانا أعطيته ما بين العشرة والمائة فلم يقل ذلك، إن أحدهم يسألني، فينطلق بمسألته يتأبطها، وما هي إلا نار)، فقال عمر: يا رسول الله، فلم تعطهم ما هو نار؟ فقال: (يأبون إلا أن يسألوني ويأبي الله لي البخل) ([17])

وذكر في حديث آخر أن ناسا من الأنصار سألوك، فأعطيتهم، ثم سألوك، فأعطيتهم، ثم قلت: (ما يكون عندي من خير، فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير، وأوسع من الصبر) ([18])

وحدث جبير بن مطعم  أنه بينما كان معك مقبلا من حنين علقت بك  الأعراب يسألونك، حتى اضطروك إلى سمرة فخطفت رداءك، فوقفت، وقلت لهم: (أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته عليكم لا بخيلا، ولا كذابا، ولا جبانا) ([19])

وحدث أنس أنك عام حنين سألك الناس، فأعطيتهم من البقر والغنم والإبل، حتى لم يبق من ذلك شئ فقلت: (ماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أنا ببخيل، ولا جبان، ولا كذوب)، فجذبوا ثوبك حتى بدت رقبتك([20]).

وحدث سهل بن سعد قال: حكيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة أنمار صوف أسود، فجعل حاشيتها بيضاء، وقام فيها إلى أصحابه، فضرب بيده إلى فخذه فقال: (ألا ترون إلى هذه ما أحسنها!) فقال أعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسأل شيئا أبدا فيقول: لا، فقال: (نعم)، فأعطاه الجبة([21]).

ولم يقف كرمك ـ سيدي ـ  بهذا الحد، بل كنت في حال عدم قدرتك على العطاء تتكلف كل السبل لترضي من سألك، حتى لا يذهب إلا راضيا، وقد حدث عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شئ أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال عمر: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، حتى عرف في وجهه، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بهذا أمرت) ([22])

هذه سيدي بعض مشاهد جودك وكرمك، وهي كافية للمستبصرين المؤمنين بك، الذين يعلمون أنك المثل الأعلى في كل شيء.. فأسألك سيدي، وأتوسل بك إلى الله أن يملأ القلب بالمعارف التي تجعلني جوادا كريما، لا أقبض يدي عن معروف، ولا أبخل بها عن إحسان، حتى أكون أهلا لصحبتك، ومعيتك في الدنيا والآخرة، إنك أنت الوسيلة العظمى، وصاحب الجاه العظيم.


([1]) رواه بقي بن مخلد وأبو يعلى..

([2]) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.

([3]) رواه ابن حبان والبيهقي.

([4]) رواه ابن سعد والبيهقي.

([5]) رواه الطبراني والبزار.

([6]) رواه البخاري.

([7]) رواه أبو بكر الحميدي.

([8])  رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

([9])  رواه الخرائطي، والطبراني، و المراد من عدم قوله: (لا) ما يفهم منها عدم الإعطاء مع القدرة عليه، أما إذا كانت من باب الاعتذار، فلا حرج في ذلك، وقد قالها صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:92)

([10])  رواه مسلم.

([11])  رواه مسلم.

([12])  رواه مسلم.

([13]) رواه الدارمي.

([14])  رواه البخاري، وابن ماجه، وابن سعد، والطبراني، والإسماعيلي والنسائي

([15])  رواه الدارمي.

([16]) رواه البخاري

([17]) رواه ابن أبي الدنيا وغيره.

([18]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([19]) رواه البخاري.

([20]) رواه ابن الأعرابي.

([21]) رواه الطبري.

([22]) رواه الترمذي والخرائطي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *