المقاوم المجاهد

المقاوم المجاهد
سيدي يا رسول الله.. أيها المقاوم المجاهد.. الثابت في كل المعارك.. المناضل على كل الجبهات.. الصامد أمام كل التحديات.. الثائر على كل أنواع التسلط والاستبداد والبغي.. المقوّم لكل الانحرافات والضلالات والتيه.
لقد درست ـ سيدي ـ حياتك بكل تفاصيلها التي أوردها لنا المحدثون والمؤرخون من المدارس المختلفة، وقارنتها بحياة كل الأبطال والمقاومين الذين انبهر البشر بشجاعتهم وبطولتهم ومقاومتهم.. فلم أجد سيدي أحدا يضاهيك، بل يدانيك.. بل وجدتهم جميعا تلاميذ صغارا أمام بطولتك وثباتك وشجاعتك وجهادك في كل المجال.
لقد رأيتهم سيدي جميعا يناضلون في ميدان واحد.. ورأيتك تناضل في كل الميادين.. فأنت لا تكتفي بمواجهة الشرك والخرافة والدجل.. ولا بزرع القيم الأخلاقية والروحية.. ولا بالنشاط السياسي والعسكري.. وإنما كنت تمارس النضال في جميع مجالات الحياة.. وتعطي النموذج الأمثل فيها، لتكون قدوة لكل مقاومة شريفة لا تكتفي بالجزئيات عن الكليات، ولا بالأشياء عن الإنسان.
وقد رأيتك سيدي فوق ذلك تثبت أمام جميع أنواع التحديات.. ما يسر منها وما يضر.. فلم تلن ولم تساوم، ولم تبع دينك بشيء من الدنيا.. بل كنت تقرأ عليهم في ذلك الوقت الذي كانوا يؤذونك فيه أعظم إذية، ويغرونك أعظم إغراء، قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 – 6]
لقد كنت ـ سيدي ـ تقرؤها عليهم في الوقت الذي كنت فيه مع أصحابك في حاجة لأي سند يخفف عنكم ذلك الاضطهاد الجائر الذي كان يمارس عليكم.
في ذلك الحين ساومك المشركون على دينك، وعرضوا عليك أن يعطوك مالا، لتكون أغنى رجل بمكة، وعرضوا عليك أن يزوجوك أجمل نسائهم.. وقالوا لك بعدها: (هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكر آلهتنا بسوء؛ فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح)، فقلت لهم: ما هي، فقالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة..
حينها لم تدر ما تقول لهم، لا ترددا، ولا ريبة، ولكن لعجبك من هذا الطرح الذي طرح عليك.. حينها نزلت عليك سورة الكافرون، لتتولى الإجابة عنك.. فهي السورة التي تعلن المفاصلة التامة بين الإيمان وقيمه الرفيعة، والكفر وقيمه الوضيعة.. فلا يمكن لمن أسلم وجهه لله أن يجمع بين تلك القيم المتنافرة، وإلا كان منافقا ومخادعا ودجالا.
في ذلك الحين أيضا، وبعدها، نزلت عليك الآيات الكثيرة تدعوك للمفاصلة التامة مع كل ما يعرضونه عليك من أصناف المساومات.. نزل عليك حينها قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 40، 41]
ونزل عليك معها قوله تعالى: { قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 25، 26]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تدعوك، وتدعو كل المؤمنين في كل الأجيال إلى الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام للمساومات والإغراءات والاضطهادات.. وعدم تغليب المصالح الوقتية على المبادئ الدائمة.
وقد كنت ـ سيدي ـ القرآن الناطق لتلك الآيات جميعا؛ فقد واجهت في حياتك ما لو سلط على الحديد لذاب، أو على الجبال لاندكت.. فقد أُلب أهلك عليك.. وأوذيت في أصحابك وأقاربك.. وحوصرت اقتصاديا.. واتّهمت بالجنون والسحر.. وسلط عليك الصبيان والمجانين.. وعرضت عليك في ذلك الوقت المليء بكل ألوان الأسى كل أنواع الإغراءات.. فواجهت ذلك جميعا، وبقوة وصلابة.. وكنت تقول في تحد لا يضاهى مخاطبا عمك المجاهد الصابر المحتسب : (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)([1])
لقد ذكر القرآن الكريم بعض ما أوذيت به، ومنه رميهم لك بالجنون، فقال حاكيًا عنهم:﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر:6)، وقال تعالى:﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ (القلم:51)
وكان القرآن الكريم يثبتك في تلك المواقف الصعبة، ويخبرك أن هذا ما حصل للأنبياء عليهم السلام من قبلك، كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ (الذريات:52)، وقال:﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ (القمر:9)
ومنها رميهم لك بالسحر، كما قال تعالى:﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (يونس:2)، وقال:﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (صّ:4)
وكان القرآن الكريم يثبتك، ويخبرك أن هذا ما حصل للأنبياء عليهم السلام من قبلك، كما قال تعالى:﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ (لأعراف:109)، وقال:﴿ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾ (يونس:77)، وقال:﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ (طـه:63)
ومنها رميهم لك بالشعر، مع علمهم بأن القرآن الكريم ليس له أوزان الشعر ولا طريقته قال تعالى:﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ (الانبياء:5)، وقال:﴿ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ (الصافات:36)، وقال:﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ (الطور:30)، وقال:﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ﴾ (الحاقة:41)
ومنها رميهم لك بالكهانة، كما قال تعالى:﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ﴾ (الطور:29)، وقال:﴿ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الحاقة:42)
ومنها احتقارهم لك، كما قال تعالى:﴿ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف:31)
وغيرها من الآيات الكريمة التي رسم فيها القرآن الكريم بعض الصور لما كان المشركون وغيرهم يؤذونك به.. ولم تكن تقابل ذلك إلا بالصبر والرضى والثبات والمقاومة الباسلة.
ائذن لي سيدي أن أشنف آذان قلبي ومرآة خيالي بتلك المشاهد العظيمة التي وقفتها.. والتي كلما قرأتها أو تذكرتها شعرت بالنشاط يسري في عروقي، ويدفعني لمواجهة كل العالم من أجلك.. فتلك المشاهد ـ سيدي ـ هي زادي وزاد كل حر يريد أن يخرج من البوتقة التي فرضها عليه قومه.
دعني ـ سيدي ـ أذكر ذلك الموقف الشديد القاسي الذي مر عليك في أول دعوتك، والذي تولى كبره بعض أقاربك المقربين، ذلك العم القاسي أبو لهب، الذي نزلت في حقه سورة كاملة تبين الخسارة التي وقع فيها حين باعك بأهوائه وأموال قريش..
فقد روي بأسانيد مختلفة ([2]) أنك لما أنزل الله عليك قوله:﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(الشعراء:214) قمت على الصفا، فعلوت أعلاها حجرا، ثم ناديت: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟.. وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما الذي يحصل.
حينها جاء عمك أبو لهب ومعه وجهاء قريش، فاجتمعوا إليك؛ فقلت لهم: (إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)
وطبعا لم يجدوا إلا أن يصدقوا، فقد كنت تدعى بينهم الصادق الأمين، ولم يجربوا عليك كذبا قط، فلذلك قالوا: (ما جربنا عليك كذبا)
حين أقروا لك بذلك، وأقمت عليهم الحجة بكونك صادقا، قلت لهم: (يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنقذ نفسك من النار، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار، فإني لا أملك لكما من الله شيئا، غير أن لكما رحما سأبلها ببلالها، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد)([3])
في هذا الموقف، وبعد هذه الكلمات المؤثرة الناصحة واجهك عمك أبو لهب بكل قسوة قائلا: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟
لم يقف أبو لهب ذلك الموقف فقط.. بل ظل خلفك يتعقبك، وفي كل مكان تذهب إليه لينفر الناس عنك؛ فقد حدث بعض المعاصرين لذلك، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: (يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب.. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب([4]).
وقال آخر: إني لمع أبي رجل شاب، أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء، ذو جُمَّة يَقِفُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القبيلة فيقول: (يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفِّذَ عن الله ما بعثني به)، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تسلُخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقَيْش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب([5]).
وذكر آخر أنك لما دعوت قومك إلى الإيمان، قال أبو لهب: إذا كان ما يقول ابن أخي حقا، فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي، فأنزل الله تعالى:﴿ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾(المسد:2)
ومثل أبي لهب زوجته المارقة أم جميل بنت ألد أعدائك، وأختهم([6]) تلك التي سماها الله تعالى {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [المسد: 4]، فقد كانت عونًا لزوجها على كفره وجحوده وعناده، وقد كانت تضع الشوك في طريقك([7]).. وكانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار.
عندما تأملت ـ سيدي ـ هذه المواقف، وحاولت أن أعيشها، وجدت مدى الآلام التي كنت تحملها، وأنت ترى عمك، وهو يكذبك، وينفر الناس عنك.. ووجدت معها ذلك التأثير الخطير الذي يقوم به ذلك العم الحقير.. فالناس في العادة يستمعون لآراء الأقارب بعضهم في بعض، ويبنون عليها مواقفهم، ولذلك كان موقف عمك ليس مؤذيا لك فقط، بل كان مؤذيا لدعوتك أيضا.. لأن المغفلين سيقولون حين يسمعوه: لو كان فيما جاء به خير لاتبعه عمه، وهو أقرب الناس إليه.
لكن الله تعالى بكرمه ولطفه شاء أن يمنع هذه الحجة، ويرفع عنك بعض ذلك الإيذاء العظيم الذي وقفه عمك أبو لهب بعمك الآخر الطيب المؤمن الصالح أبي طالب.. ذلك الذي رباك على عينك، وشاهد إكرام الله لك في صغرك.. فلذلك آمن بك قبل بعثتك، وكان أول المؤمنين بك بعدها.
لقد جاء أئمة الشرك حينها إلى عمك أبي طالب بعد أن رأوا مواقفه في صالحك، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه.
وكان أبو طالب هينا لينا، لذلك ردهم بسلاسة، ليكفوا عنك؛ فقد كان يدرك أن المواجهة الشديدة مع أولئك الأجلاف الغلاظ لن تجدي شيئا، بل قد تكون مضرة بك وبدعوتك.
وبعد أن فعل ذلك ـ سيدي ـ لم تلن، ولم تتوقف عن دعوتك، خشية على عمك الذي بذل كل شيء في سبيلك.. وإنما مضيت في دعوتك، كما أمرك الله تعالى، لا تبالي بكل ما يحول بينك وبينها.
بعد أن رأى رؤوس الشرك ما أنت عليه من ثبات، وأن كلامهم مع عمك لم يؤثر فيك.. جاءوا إلى عمك مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وإن لك شرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
في ذلك الموقف الشديد، وبعد أن سمعت ما قالوا، جئت لعمك الصالح، لا لتعده بالتراجع حرصا عليه، وإنما قلت له كلمتك العظيمة التي أصبحت شعارا لكل المقاومين: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)
ثم رحت تبكي ألما لعمك الذي لم يرحم المشركون كبر سنه، فلما رآك كذلك قال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشئ أبدا، ثم راح ينشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم … حتى أوسد في التراب دفينا
فامضي لأمرك ما عليك غضاضة …وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي … فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
لقد رحت سيدي أتخيل هذه المشهد.. فوجدته في منتهى الألم ذلك أن أبا طالب كان بمثابة أبيك، فقد تربيت في بيته، وكفلك في صغره بعد موت جدك.. ولو أنه لم يكن لك من الثبات والصدق ما كان لك لم تكن لتترك عمك يعاني كل ذلك العناء؟
ليس ذلك فقط.. فلم تيأس قريش من تأليبب أهلك عليك، بل راحت تمارس كل أنواع المساومة، وأشرسها وأحقرها.. ومنها تلك المساومة التي تدل على مدى انحطاط القيم التي كان يتبناها أعداؤك؛ فقد جاءوا بعمارة بن الوليد بن المغيرة، وهو ابن لألد أعدائك، وقالوا لعمك: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف ديننا ودين آبائك وفرق جماعة من قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل.
حينها قال عمك لهم: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا، أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها؟
حينها أعلنوا الحرب الشرسة على كل من اتبعك، عسى أن يثنيك ذلك عن دعوتك.. لكنك ـ مع ألمك الشديد لما حصل لهم ـ لم تكن تتنازل عن الحق، وقد روي أن بعض أصحابك من المعذبين جاءك في ذلك الحين، وقال لك: (ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟)، فقلت له: (إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم، فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه([8]).
لقد ذكرتهم سيدي بما كان يحصل للأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من المستضعفين، والذي كان القرآن الكريم يقص عليهم قصصهم ليثبتهم، ويثبتك معهم، كما قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]
ولم تكن تملك ـ سيدي ـ في تلك المواجهة الشرسة إلا أن تدعو لأصحابك، من دون أن تبدي لأعدائك أي لين مقابل مبادئك.. وقد روي أنك مررت على عمار بن ياسر وأبيه وأمه سمية وأخيه عبد الله، وهم يُعذبون، فلم تملك إلا أن قلت لهم: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)([9])
هذا كل ما كنت تملك تجاههم سيدي، فلم تعدهم بأي مناصب ولا بأي دنيا، حتى لا يصحبك إلا الصادقون المخلصون.. ولذلك لم يكن للمستضعفين في ذلك الوقت من أنيس غير القرآن الكريم، وحقائق القرآن الكريم التي كانت أعظم مثبت لهم.
وكيف لا يفعلون ذلك، والقرآن الكريم يقص عليهم قصص البطولة والمقاومة التي مارسها أتباع الأنبياء من قبلهم، كما قال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) } [البروج: 4 – 12]
ولما اشتد الأذى بأصحابك أمرتهم بالهجرة إلى الحبشة، ولم تدعهم قريش يهاجرون بدينهم، بل تعقبتهم تحاول استئصالهم، لكن الله تعالى أبطل كيدهم، وصارت الحبشة مأوى المستضعفين.. لكنك لم تهاجر، بل بقيت تمارس دعوتك، وفي ظل تلك الأجواء القاسية.
ولم يكتف أعداؤك بذلك، بل راحوا يمارسون حصارهم الاقتصادي عليك، وعلى قرابتك، وأصحابك، فقد كانوا إذا قدمت العير مكة، ويأتى أحد قرابتك أو أصحابك إلى السوق ليشترى شيئا من الطعام يقتاته لأهله، يقوم المشركون بمنعه، ويقولون للتجار: (يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئاً معكم)، فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى لا يستطيع شراءها.
وهكذا مارس أعداؤك في مكة المكرمة كل أساليب الحقد والمواجهة لك ولدعوتك، لكنك كنت ثابتا كالجبال الرواسي، لا تزعزعك الرياح، قال تعالى: { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) } [الإسراء: 73 – 77]
وعندما ذهبت إلى المدينة المنورة، لم يكف أعداؤك عنك، بل زاد عددهم، وزادت معها أساليب مكرهم، وخاصة بعد أن انضم إليهم اليهود، الذين استعملوا كل ما كانوا يستعملونه مع الأنبياء عليهم السلام في مواجهتك.
فقد كانوا يسيئون الأدب معك، ويسخرون منك كما كان يسخر المشركون، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} [النساء: 44- 46]
وكان من حيلهم البشعة، أنهم كانوا يؤمنون في الصباح، ثم يكفرون آخره، كما قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } [آل عمران: 72، 73]
وهي مكيدة عظيمة أرادوها ليلْبسُوا بها على الضعفاء من الناس أمْر دينهم، ليقولوا: إنما رَدّهم إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، قال ابن عباس: (قالت طائفة من أهل الكتاب: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فَصَلّوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا) ([10])
ولم يكتف أعداؤك بكل ذلك، بل راحوا يفرضون عليك كل أنواع الحروب؛ فلم تكن تخرج من حرب معهم حتى تدخل في حرب أخرى.. إلى أن نصرك الله عليهم نصره المؤزر من غير أن تلين، أو تستسلم، أو تكف عن المواجهة.
هذه ـ سيدي ـ بعض مشاهد مقاومتك وبطولتك وجهادك.. وهي كافية للعقلاء ليعرفوا صدقك وإخلاصك.. فلا يُميز الصادقون إلا بثباتهم في المواقف المختلفة.. أما أولئك المتزعزعون المائلون مع كل هوى، الذين يعبدون الله على حرف، فإنهم أبعد الناس عن الصدق والإخلاص.
فأسألك ـ سيدي ـ وأتوسل بك إلى الله تعالى أن أكون من الصادقين معك، ومع دينك، ومع هديك، الثابتين الذين لم يغيروا، ولم يبدلوا، ولم يبيعوا دينهم بشيء من الدنيا.. أولئك الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23]
وأسألك ـ سيدي ـ أن
تمدني بمددك الذي كنت تمد به أصحابك، حتى تكون لي القدرة على المواجهة والمقاومة
والثبات.. واجعلني أتمتع برؤيتك، كما كانوا يتمتعون، وبسماع كلماتك كما كانوا يستمعون،
فقد كانت كلماتك ورؤيتك سيدي أعظم مصدر لثباتهم وجهادهم ومقاومتهم.. إنك أنت
الوسيلة العظمى، وصاحب الجاه العظيم.
([1]) سيرة ابن إسحاق، السير والمغازي (ص: 154)
([2]) رواه البخاري ومسلم والبلاذري وغيرهم.
([3]) دلائل النبوة للبيهقي (2/ 177)
([4]) رواه أحمد.
([5]) رواه أحمد والطبراني.
([6]) اسمها أروى بنتُ حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان.
([7]) رواه العوفي عن ابن عباس، وعطية الجدلي، والضحاك، وابن زيد، واختاره ابن جرير.
([8]) رواه البخاري ومحمد بن عمر الأسلمي والبيهقي.
([9]) رواه البلاذري والحاكم.
([10]) تفسير ابن كثير (2/ 59)