المؤدب الحيي

المؤدب الحيي

سيدي يا رسول الله.. يا من أدبك ربك، فأحسن تأديبك، وهذبك فأحسن تهذيبك، فلم يكن لك معلم غير ربك، ولم تكن لك مدرسة غير مدرسته.. لذلك كنت الأمي الذي لم يتعلم من بشر، وإنما تعلم من رب البشر، فصار لذلك سيد البشر.

لقد قرأت القرآن الكريم، فوجدته يخاطبك ويعاتبك ويعلمك، ليكون كل ذلك تأديبا وتهذيبا لنا.. لنرقى إلى سموات القيم العالية والأدب الرفيع الذي بوأك الله إياه.

لقد قرأت قوله تعالى وهو يخاطبك: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } [الضحى: 6]، والتي عقب عليها قوله: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، فعلمت أن الله تعالى ما أراد بجعلك يتيما إلا تأديبا لك لتشعر بالمستضعفين واليتامى، لأنك ستصير الأب والسند الروحي لهم.

ولهذا امتلأت أحاديثك ووصاياك بالحنان عليهم والرأفة بهم، فلا نجد من اهتم بهم مثلك، ولا من أوصى بهم مثلما أوصيت بهم، فقد كنت تقول مخاطبا أصحابك، والأمة من بعدك: (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)([1])

وكنت تقول مخبرا عن فضل المسح على رأس اليتيم عطفا وحنانا ورحمة:(من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كانت له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات)([2])

وكنت تعتبر الساعي عليهم كالمجاهد والقائم، فتقول:(الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى، وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر)([3])

وكنت تخبر عن أنواع الجزاء العظيم الذي يناله المهتمون باليتامى، والراعون لمصالحهم، فتقول:(ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان)([4]) ، وتقول: (من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه)([5]) ، وتقول: (والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه، ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله)([6])، وتقول: (من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له)([7])، وتقول:(أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول ما لك ومن أنت؟ تقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي)([8])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي كانت ثمرة لتأديب الله لك، ودعوتك إلى حفظ اليتيم وعدم قهره والإحسان له..

وهكذا ـ سيدي ـ كان القرآن الكريم يؤدبك، ويهذبك بكل كلمة من كلماته، أو حرف من حروفه..

ولهذا صارت سنتك وهديك هي القرآن الناطق الذي مثل الحقائق والقيم القرآنية أحسن تمثيل.

وقد ذكر تلميذك الأكبر الإمام علي، ذلك الذي كان أكثر الناس صحبة لك، ومعرفة بك تعاهد الله لك بالتأديب والتربية، فقال: (ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره) ([9])

وكان يذكر كل حين لأولئك المبدلين والمغيرين عظيم صفاتك وحسن أدبك، وكيف كنت الأسوة الحسنة في كل المجالات، فقال يصف شجاعتك: ( كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه) ([10])

وعندما طلب منه أن يصفك بدقة، قال: (كان نبيّ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أبيض اللّون، مشربا حمرة، أدعج‏  العين، سبط  الشعر كثّ اللّحية ، ذا وفرة ، دقيق‏ المسربة ، كأنّ عنقه إبريق فضّة، يجري في تراقيه‏  الذهب، له شعر من لبّته‏  إلى سرّته، كقضيب خيط إلى السرّة، و ليس في بطنه و لا صدره شعر غيره. شئن‏  الكفّين و القدمين، شئن الكعبين، إذا مشى كأنّما يتقلع‏  من الصخر، إذا أقبل كأنّما ينحدر من صبب‏ ، إذا التفت التفت جميعا  بأجمعه كلّه، ليس بالقصير المتردد ، ولا بالطويل الممغط ، وكان في الوجه تدوير، إذا كان في الناس غمرهم‏ ، كأنّما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من ريح المسك، ليس بالعاجز و لا باللئيم. أكرم الناس عشرة، و ألينهم عريكة ، و أجودهم كفّا، من خالطه بمعرفة أحبّه، من رآه بديهة هابه، عزّه‏  بين عينيه، يقول‏ ناعته‏ : لم أر قبله و لا بعده مثله، صلى الله عليه وآله وسلم)([11])

وهكذا كان يصف تواضعك، ويقول: ( ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول : ( يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ) ([12])

وكان يصف موقفك من الدنيا، فيقول: ( قد حقر الدنيا وصغرها، وأهون بها وهونها، وعلم أن الله زواها عنه اختيارا، وبسطها لغيره احتقارا، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، أو يرجو فيها مقاما. بلغ عن ربه معذرا، ونصح لأمته منذرا، ودعا إلى الجنة مبشرا، وخوف من النار محذرا ) ([13])

ويقول في خطبة أخرى : ( أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله، ومحادة عن أمر الله … فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده ) ([14])

ولهذا كان يدعو إلى اعتبارك الأسوة والقدوة، ويرد على أولئك الذين وضعوا  الكثير من البدائل التي استبدلوك بها، حتى اعتبر بعضهم كل قومك وصحبك صالحين لأن يكونوا قدوة.. ومن أقوالهم في ذلك في بعض وصاياه: ( تأس بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله) ([15])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي وصف فيها أخلاقك وآدابك العظيمة التي أمرنا الله تعالى بالتأسي بها..

لكن المغرضين والحاقدين ـ سيدي ـ راحوا يشوهون جمال صفاتك، وعظيم أدبك، حتى ينفر العقلاء منك، وتكون أسوة للانحراف لا للصلاح، وللصلف لا للأدب..

فائذن لي سيدي أن أذكر لك بعض ما ذكروا حول حيائك، تلك الصفة التي كنت مثالها الأعلى، وأسوتها الحسنة، وكنت تعظمه، وتعتبره من أمهات الأخلاق، لكنهم حرصا على من يعظمونه من الصحابة راحوا ينزعون الحياء منك، ويضعونه لغيرك.

لقد رووا ـ كاذبين ومدلسين ـ أنك كنت مضطجعا في بيتك، كاشفا عن فخذيك، فاستأذن أبو بكر فأذنت له، وأنت على تلك الحال، ثم استأذن عمر، فأذنت له، وأنت على تلك الحال، ثم استأذن عثمان، فرحت تسوي ثيابك، وتستر فخذك، فعندما سئلت عن ذلك، ذكرت أنك استحييت منه، وقلت: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)([16])

لقد تلقف المدلسون والمشوهون لك هذا الحديث كما يتلقفون القرآن الكريم، يأبون أن يتكلم فيه أحد، مع أنهم يوردون الأحاديث الكثيرة التي تثبت أن الفخذ عورة([17]).. وأن كشفها حرام..  ومع ذلك يرضون أن ترتكب الحرام في سبيل أن ينال عثمان تلك المنقبة.

فإن جادلهم أحد في شأنك، وراح يذب عنك تلك التهمة العظيمة التي اتهموك بها، قالوا: ولكن الحديث في صحيح مسلم.. وهم لا يعلمون أن صحيح مسلم وصحيح البخاري وكل كتب الدنيا فداء لشعرة من شعراتك.. فأيهما أعظم أن يرد حديث قد يتوهم راويه أو يخطئ كاتبه، أو أن تمس كرامتك، ويمس أعظم ميزة فيك، وهي أخلاقك العالية التي لا يضاهيها أي كان صحابيا كان أو نبيا أو حتى ملاكا مقربا.. فكيف تتصورون أن صحابيا ـ لا يرون عصمته ـ يكون أعظم خلقا منك؟

وليت الأمر توقف على هذا.. بل إنهم ـ سيدي ـ راحوا يصورونك في مشاهد لا يرضونها لأنفسهم، ولا لمن يجلونهم من الناس، حرصا على إثبات المناقب لمن يرغبون في تحسين صورهم، ولو على حسابك، ومن الأمثلة على ذلك ما رووه عن عائشة، وأنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فسمعنا لغطا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها، فقال: (يا عائشة تعالي فانظري)، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: (أما شبعت، أما شبعت؟). قالت: فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر، قالت: فارفض الناس عنها: قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر)، قالت: فرجعت([18]).

هل رأيت سيدي تلك الصورة المشوهة التي صوروك بها.. لقد ذكروا أنه كانت هناك جارية .. وأنها عاقلة بالغة .. بدا لها أن ترقص كما يرقص الحبشة في الشارع.. وأمام الناس.. وكان الصبية يلتفون حولها، وهي بتلك الحالة.. وأنك لمحتها،  فأسرعت إلى عائشة، وطلبت منها أن تحضر مجلس الرقص.. وعندما حضرت وضعت عائشة ـ بحسب الحديث ـ ذقنها على منكبك.. وأمام الناس.. وبعد مدة طلع عمر فانفض الناس عن الجارية خوفا منه.. مع أنك كنت معهم.. ومع ذلك لم يشعروا بشيء..

وليت الأمر توقف عند هذا.. بل إنهم ذكروا أنك عندما رأيت الناس يفرون لحضور عمر قلت معظما له ومثنيا عليه: (إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر)

وهذا عجب عجاب.. وتصور المشهد وحده كاف لضرب كل القيم التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، التي تمثلك ـ سيدي ـ أحسن تمثيل.

ولم يكتفوا بهذا سيدي في تشويهك، بل راحوا يروون الروايات الكثيرة التي تجعلك فاحشا ومتفحشا، لا تختلف عن قومك الأجلاف الغلاظ الذين لم ينالوا حظهم من التأديب الذي أدبك به ربك([19]).

فأسألك ـ سيدي ـ وأتوسل بك إلى الله أن يجعلني من الذابين عنك، الرادين لتلك التشويهات.. فلا يمكن للأمة أن تعرفك، أو تحسن علاقتها بك، وهي تعتقد في تلك الروايات المريضة التي وضعها مرضى القلوب ليشوهوك، ويحولوا بين العقلاء وبينك.

وأسألك سيدي أن أكون من المتأدبين على يديك، الراعين للحقوق والأخلاق التي أمرت برعايتها، حتى أكون أقرب الناس إليك في الدنيا والآخرة، فلا فوز إلا لمن كان قريبا منك.


([1])ابن ماجه.

([2]) أحمد وغيره.

([3]) الشيخان.

([4]) الحارث، والطبراني في الأوسط عن أبي موسى وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وهناك حديث آخر قريب منه هو « ما من مائدة أعظم بركة من مائدة جلس عليها يتيم » رواه لديلمي عن أنس.

([5]) ابن سعد، والطبراني في الكبير.

([6]) الطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا ومع ذلك ليس بالمتروك.

([7]) الترمذي وصححه.

([8]) أبو يعلى بسند حسن.

([9])  نهج البلاغة، ج ۲، خطبة ۱۹۲، ص ۱٥۷.

([10])  نهج البلاغة، ج ٤ ، خطبة ۹ ، ص ٦۱.

([11])  حلية الأبرار في أحوال محمد و آله الأطهار ، ج‏1، ص: 164.

([12])  نهج البلاغة ، ج ۲ ، خطبة ۱٦۰ ، ص ٥۹.

([13])  نهج البلاغة، ج ۱ ، خطبة ۱۰۹ ، ص ۲۱۰.

([14])  نهج البلاغة، ج ۲ ، خطبة ۱٦۰ ، ص ٥۸.

([15])  نهج البلاغة، ص ٥۸ ـ ٦۰.

([16])   رواه مسلم.

([17])   ومنها ما روي عن محمد بن عبد الله بن جحش أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على معمر بفناء المسجد محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خمر فخذك يا معمر فإن الفخذ عورة)، رواه أحمد ورواه الطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات.

([18])   رواه الترمذي.

([19])   ذكرنا الكثير من الأمثلة على ذلك، ورددنا عليها في كتاب [رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقلوب المريضة]، وذكرنا فيه القاعدة التي نتبناها في الموقف من أمثال تلك الأحاديث.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *