التقي النقي

التقي النقي

سيدي يا رسول الله.. أيها التقي النقي الطاهر.. يا من لم تخدش مرآة قلبه بأي خطأ أو خطيئة، قبل النبوة وبعدها، وفي صغره وكبره.. وفي كل شؤونه.. فصار لذلك مرآة للحقائق والقيم التي لم تشوه، ولم تغير، ولم تحرف.

وصرت بذلك ـ سيدي ـ أنموذجا لكل من يريد السلوك إلى الله، والتحقق بالإنسانية الرفيعة، والسمو إلى الدرجات العليا، كما قال تعالى في حقك: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]

ولولا ذلك ـ سيدي ـ ما أمرنا الله بالتأسي بك، ولا السير خلفك.. وهل يمكن لمن يهم بالخطيئة أو يقوم بها أن يكون مرشدا للتائهين، أو دليلا للمتحيرين؟

ولذلك كنت أتقى الأتقياء وأطهر الطاهرين، وكل ما روي عنك خلاف ذلك، فهو من دس المغرضين الحاقدين الحاسدين.. أو من رواية المغفلين المخدوعين الذين اهتموا بكثرة الحديث، ولم يهتموا بمعانيه، فدس الشيطان في حديثهم ما يسيء إليك، وإلى الهدي العظيم الذي جئت به.

وقد كان من ذلك الدس تلك التشويهات العظيمة التي أرادوا بها أن يرفعوا بعض غيرك، فوضعوك، شعروا أو لم يشعروا..

ومن الأمثلة على ذلك الدس الخطير الذي أرادوا به تشويهك، ورفع غيرك تلك الرواية  التي يروونها، ويعظمونها، لا لأنها تعظمك وتقدسك، وإنما لأنها تعظم وتقدس زيد بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب، الذي اعتبروه أكثر ورعا عن الشرك وأسبابه منك.

فقد رووا أنك لقيت زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل عليك الوحي، فقدمت إليه سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، وقال: (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه)([1])

وراحوا لا يكتفون بذلك، بل يضيفون إليه اعتبار زيد بن عمرو هو الذي كان يدعو إلى التوحيد قبل أن تدعو إليه، فقد رووا أنه كان يعيب على قريش ذبائحها، ويقول: (الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟!) ([2])

وبذلك أصبح زيد بن عمرو ـ عندهم ـ أكثر عقلا وحكمة وورعا منك سيدي.. وهم يذكرون ذلك من دون حياء، ويعتبرونه من مناقب زيد، ولم ينظروا أبدا إلى أنهم بذلك يشوهونك، ويعتبرونك أقل عقلا وعلما وحكمة من غيرك.

وهكذا أوردوا الروايات الكثيرة التي تشوهك، وغفلوا عن تلك التي تتوافق مع ما ذكره القرآن الكريم في حقك، بل راحوا يضعفونها، ويردونها، في نفس الوقت الذي يقوون تلك الأحاديث التي رضي عنها المدلسون البغاة الذين حذرت منهم.

ولهذا، فإن الذين قبلوا تلك الرواية التي تعتبرك جاهلا بالشرك، يرفضون تلك الرواية التي تخبر عن توحيدك وإيمانك، وأنت في صباك الباكر، ومنها ما روي في رحلتك الأولى إلى الشام، وأنت صبي صغير، حينها مرت القافلة ببحيرا الراهب، الذي طلب لقاءك، بعد أن رأى بعض العلامات الدالة على وجودك في الركب، جعل يلحظك لحظاً شديداً، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، قام بحيرا إليك، فقال لك ـ مختبرا ـ: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه.

هو لم يقل ذلك إلا ليختبرك، فهو لم يكن يؤمن باللات والعزى، وإنما ذكرهما لأنه رأى قومك يحلفون بهما، فقلت له: (لا تسلني باللات والعزى شيئاً، فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما)([3])

وهكذا ـ سيدي ـ كنت في حياتك جميعا متورعا عن كل ما لا يتناسب مع مكانتك الرفيعة التي هيأها الله لك.. وقد روى المحدثون أنك ـ سيدي ـ مع تلك الفاقة العظيمة التي مررت بها طيلة فترة رسالتك، لم تمد يدك إلى طعام لا تعرف مصدره.. وقد حدث أنس  قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب التمرة، فيقول: (لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها)([4])

وحدث آخر أنك وجدت تمرة تحت جنبك من الليل فأكلتها، فلم تنم تلك الليلة، فقالت بعض نسائك: يا رسول الله أرقت البارحة، فقلت: (إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه)([5])

ولم تكن متورعا عن ذلك فقط، بل كنت تتورع أن تخزن شيئا من المال أو الطعام في نفس الوقت الذي قد يوجد من هو بحاجة إليه([6])، ففي الحديث عن بعض صحبك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخر شيئا لغد)([7])

وحدث آخر قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد فقال: (ما يسرني أنه ذهب لآل محمد، أنفقه في سيبل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران، إلا دينارين أعدهما للدين إن كان) ([8])

وحدث آخر قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يوما: (ما عندك شيء تطعمنا؟) قلت: نعم يا رسول الله، فضل من الطعام الذي كان أمس، قال: (ألم أنهك أن تدع طعام يوم لغد؟)([9])

وحدث آخر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) ([10])

وحدثت أم سلمة  قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساهم الوجه قالت: حسبت ذلك من وجع، قلت: ما لي أراك ساهم الوجه؟ قال: (من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس، ولم نقسمها)([11])

وحدثت عائشة  قالت ـ مخاطبة شخصين جاءا يسألانها عنك ـ: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة، فأمرني أن أفرقها، فشغلني وجعه حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، فقال: (ما فعلت، أكنت فرقت الستة الدنانير أو السبعة؟) فقلت: لا، والله، لقد كان شغلني وجعك.. فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: (ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟)([12])

وحدث بلال قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندي شيء من تمر، فقال: (ما هذا؟) فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: (أما تخاف أن ترى له بخارا في جهنم؟)([13])

وحدث أبو ذر  قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صرة المدينة فاستقبلنا أحدا، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، تمضي على ثلاثة، وعندي منه دينار، إلا شيئا أرصده لدين، إلا أن أقول في عباد الله هكذا، وهكذا)([14])

وحدث ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي: (يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟) قلت يا رسول الله لا أشتهيه، قال: (لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعفون؟ قال: فوالله ما برحنا، ولا زمنا حتى نزلت: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (العنكبوت:60)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارا، ولا درهما، ولا أخبئ رزقا لغد) ([15])

هذه بعض شواهد ورعك سيدي عن الحلال الذي أباحه الله لك؛ فكيف يتجرؤون على ما يرمونك به من الفضائع التي لا يجيزونها لأنفسهم..

ولم يكن ذلك وحده ـ سيدي ـ شاهدا على ورعك، بل كانت حياتك كلها حياة تقوى وورع وطهارة، فلم تكن لتمتد يدك لما حرم الله أو كرهه .. وكيف تفعل ذلك وأنت عبده المطهر المنقى الذي هو أعرف الخلق بالله، وأكثرهم تقوى له، كما عبرت عن ذلك بقولك: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)([16])

فأسألك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ وأتوسل بك إلى ربي أن يملأ قلبي بحبك والتعلق بك، حتى يتنزل علي من بركات حبك ما يطهر قلبي من كل الأدران التي تجذبه للدنيا، وتبعده عنك.. فمن اقترب منك ـ سيدي ـ نال التقوى، وصار طاهرا نقيا.. ومن ابتعد عنك تنجس قلبه.. ومن تنجس قلبه لم يزدد منك إلا بعدا.. ومن ابتعد عنك ابتعد عن ربه.. ومن ابتعد عن ربه غرق في المعاصي.. حتى لو بدا في ظاهره تقيا صالحا.


([1])  رواه البخاري (3826) ، والبيهقي في الدلائل2/121 ، والطبراني في الكبير (13169) ، والبيهقي في السنن 9/249-250 ، قال شعيب الأرنؤوط: (وفي رواية فضيل بن سليمان: فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها. وهذا من أوهام فضيل بن سليمان، والصواب ما في رواية وهيب بن خالد وغيره عن موسى بن عقبة من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قدم إلى زيد بن عمرو بن نفيل سفرة فيها لحم، فأبى الأخير أن يأكل منها)[ مسند أحمد ط الرسالة (9/ 270)

([2])  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)

([3])  سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي (ص: 75)

([4]) رواه البخاري ومسلم.

([5]) رواه أحمد برجال ثقات.

([6]) أما ما روي من أنه كان يدخر قوت سنة، فقد أجاب عنه الحافظ البجلي بقوله: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يشبع في يوم من خبز مرتين، وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنة، فكيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة، فتنزل النازلة، فيقسمه، فيبقى بلا شيء.

ومما يؤيد هذا ما رواه أحمد، وأبو يعلى برجال ثقات عن أنس قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة طوائر فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد)

([7]) رواه البخاري.

([8]) رواه أحمد وأبو يعلى بسند جيد.

([9]) رواه ابن أبي شيبة في المصنف.

([10]) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.

([11]) رواه ابن حبان والبيهقي.

([12]) رواه ابن سعد والبيهقي.

([13]) رواه الطبراني والبزار.

([14]) رواه البخاري.

([15]) رواه أبو بكر الحميدي.

([16])  رواه البخاري.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *