​العفيف الزاهد

العفيف الزاهد

سيدي يا رسول الله.. أيها العفيف الزاهد.. الذي تزينت له الدنيا بكل محاسنها، وتعرضت له بجميع مباهجها.. فراح يعرض عنها بكل كيانه، مقبلا على ربه، منشغلا بما طوق به عنقه من أصناف التكاليف.

لقد رحت ـ سيدي ـ أتأمل حياتك، وكيف كنت تعيش في مكة التي كرمها الله بنشأتك فيها، والمدينة التي نورها الله بهجرتك إليها.. فوجدت حياتك وحدها أكبر دليل على نبوتك وعظمتك واصطفاء الله لك.. فحياتك ـ سيدي ـ في فترة الاضطهاد والحصار والمواجهة لا تختلف في أي شيء عن حياتك في فترة التمكين والقيادة.. ففي كليهما كنت الزاهد العفيف الذي يرضى بالعيش القليل الذي يربأ عنه الفقراء أنفسهم.

أصدقك ـ سيدي ـ أني مع تقديسي وتعظيمي لك، تألمت كثيرا لتلك الحياة التي كنت تعيشها، والتي اختلط فيها الجوع مع التعب مع أنواع المواجهات التي كنت تقابلها جميعا بصبرك الجميل، ورضاك عن ربك الذي لا حدود له.

ولم يكن ذلك سبب ألمي الوحيد؛ فأنا أعلم أنك تعيش في عوالم الجمال والكمال التي تجعلك ترى الدنيا كلها بصورتها الحقيقية الممتلئة بالزيف والخديعة.. لكني أتألم لأولئك المجازفين بهجرانك، المصدقين لدعاوى الحاقدين عليك.

ولو أنهم ـ سيدي ـ نظروا إلى حياتك المليئة بكل ألوان المشاق والمتاعب.. والتي كنت تأوي منها إلى بيتك البسيط الذي لا يختلف عن بيوت أفقر الفقراء والمساكين.. لو رأوا ذلك لكفاهم في الدلالة على صدقك.

فهل يمكن لمدع وكاذب ومخادع أن يبذل حياته جميعا مضحيا، ثم لا ينال من الحياة إلا ذلك الشظف والمعاناة التي وصفها بعض أصحابك عندما دخل عليك، فرآك متكئا على رمال حصير قد أثر في جنبك؛ فرفع رأسه في البيت، فما رأى فيه شيئا يرد البصر، إلا ثلاثة بسط معلقة، وصبرة من شعير، فهملت عيناه، فقلت: ما لك؟ فقال: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟.. فقلت له بكل هدوء: (أفي شك أنت .. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟)، فقال: (بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل)، فقلت له: (لو شئت أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت)([1])

وحدث آخر، قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: (ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها)([2]

لم يكن أولئك ـ سيدي ـ فقط من أخطأ في حقك.. بل هناك غيرهم كثير.. حتى أن هناك من راح يدعي أنك إذا عدت إلى الدنيا للبست بذلة عصرية، وامتلكت أغلى السيارات، وسكنت أرفه القصور.. ولم يلتفت هؤلاء المحجوبون بزخارف الدنيا أن كل ذلك، وفوقه أضعافا مضاعفة أتيح لك.. لكنك كنت ترفض ذلك..

ولولاه ـ سيدي ـ لما كنت سيد الزهاد وأسوتهم، فالذي به فاقة ضرورية قد لا يفطن لكونه زاهدا، بل قد يكون راغبا، والفاقة هي التي جعلته يبدو من الزهاد.. ولكنك سيدي لم تكن كذلك.. فقد أتيحت لك كل الخيارات.. لقد كان الغنى أمامك، وبين يديك..  بل كان الغنى أقرب إليك من الفقر.. والرفاه أقرب إليك من الشظف.. ولكنك ـ سيدي ـ آثرت حياة الزهاد على حياة المترفين.. ورضيت أن تكون كأبسط الناس، لتكون أسوة لجميع الناس، وحتى لا يأتي أحد من الناس، فيتصور أن النبوة وسيلة من وسائل الثروة، أو طريق من طرقها.

لقد حدثت ـ سيدي ـ عن هذا الخيار الذي أتاحه الله لك، فقلت: (لو شئت لسارت معي جبال الذهب) ([3])

وفي حديث آخر، قلت: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك)([4])

وفي حديث آخر روي أنه قيل لك: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقلت: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله تعالى عليك قوله:﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً﴾ (الفرقان:10)([5])

وفي حديث آخر عن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت)([6])

وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمامك جميع حياتك، فقد حدث بعض أصحابك عن الأيام الأخيرة لك، فذكر أنك جلست على المنبر، فقلت: (إن عبدا خيره الله تعالى أن يؤتيه من زهرة الدنيا وما عنده، فاختار ما عنده)([7])

بل إنك ـ سيدي ـ كنت تدعو الله كل حين، وفي تلك الظروف الصعبة أن يرزقك الله القوت والكفاف من غير أن يتجاوزهما، فقد كنت تقول:(اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)([8])

بل إنك ـ سيدي ـ كنت تسأل الله حياة المسكنة التي هي أقرب أنواع الحياة للعبودية، وكنت تقول: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين)([9])

وكنت تقول: (اللهم توفني فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة)([10])

ولم تكن تكتفي بذلك ـ سيدي ـ بل كنت تتهرب من كل ما يمكن أن يملأ حياتك بذخا وترفا.. بل من كل ما يملؤها هدوءا ودعة.. فقد روي أن امرأة من الأنصار رأت فراشك عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إليك بفراش حشوه الصوف، فلما رأيته سألت عنه، فقيل لك: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فأمرتهم برده، وقلت: (والله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة)([11])

ولذلك تواترت الروايات ومعها الشهود الكثيرون على تلك الحياة البسيطة التي كنت تعيشها، والتي دعاك الله إليها، فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]

بل أمرك بأن تخير أزواجك بين الرضا بها، وبين أن يعدن لحياتهن التي تعودن عليها، فقال: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 28، 29]

ومن تلك الشهادات ـ سيدي ـ شهادة زوجتك عائشة، والتي عبرت عنها مرات كثيرة، خاصة لأولئك الذي جرفتهم الدنيا بأهوائها، وغفلوا عن الوصية التي أوصيتهم بها، فقد كانت تقول لهم:   (كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم([12]).

وقالت:(ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)

وقالت:(ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)

وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.

وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.

وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.

وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة([13]).

وقالت:(والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف ([14]).

وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير ([15]).

وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط ([16]).

وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله ([17]).

وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، فقال لها: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ألبانها، فيسقيناه.

وكانت تقول له:(وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار – جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم – فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف)

وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت([18]).

وقالت: أهديت لنا ذات يوم يد شاة فوالله إني لأمسكها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحزها، أو يمسكها علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحزها، قبل على غير مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، ولا يطبخون فيه برمة ([19]).

وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا([20]).

وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا التمرتين)([21])

وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه ([22]).

وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت بطعام فقالت لي: كل فلقل ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي أن بكيت، قال: قلت: لم يا أم المؤمنين؟ قالت: أذكر الحال التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مرتين من خبز شعير حتى لحق بالله ([23]).

وهكذا تواترت شهادات غيرها، فقد ذكر أنس بن مالك  أن فاطمة  جاءتك بكسرة خبز فقلت لها: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقلت: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) ([24])

وقال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) ([25])

وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف ([26]).

وقال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيها خبز ولا لحم ([27]).

وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفه إلا بجرعة من ماء([28]).

وقال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط ([29]).

وغيرها من الشهادات الكثيرة التي لم يخالف فيها أحد من أصحابك، بل كلهم كانوا متفقين على ذلك الزهد الذي ملأ حياتك كلها، فجعلك المثل الأعلى له.

بل إنهم لم يكتفوا بذلك، وإنما نقلوا لنا صورا عن مبلغ ذلك الزهد؛ فذكروا أنك كنت تعصب في أحيان كثيرة الحجر على بطنك من الجوع ([30]).. فعن ابن عباس  قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع([31]).

وعن جبير بن نفير قال: قال أبو البجير: أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما الجوع، فوضع على بطنه حجرا، وقال: (يا رب نفس ناعمة طاعمة، جائعة عارية يوم القيامة) ([32])

وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد حبليه بالحجر من الغرث ([33]).

وعن جابر  قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهم يحفرون الخندق ثلاثا لم يذوقوا طعاما، قال جابر: فحانت مني التفاتة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شد على بطنه حجرا من الجوع ([34]).

وعن أنس  قال: قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن حجر حجر، فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين([35]).

وعن أبي البجير  قال: أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ([36]).

وعن أنس  قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب على بطنه بعصابة، قال أسامة: أنا أشد على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه؟ قالوا: من الجوع ([37]).

وعن حصين بن يزيد الكلبي  قال: ربما شد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه الحجر من الجوع ([38]).

لقد صور بعض الشعراء ذلك، فقال:

كأن عيال الناس طرا عياله … فكلهم مما لديه يعال

يبيت على فقر، ولو شاء حولت … له ذهبا محضا ربي وجبال

وما كانت الدنيا لديه بموقع … فقد صرمت فيها لديه حبال

رأى هذه الدنيا سريعا زوالها … فلم يرض شيئا يعتريه زوال

لعمرك ما الأعمار إلا قصيرة … ولكن آمال الرجال طوال

أتته مفاتيح الكنوز فردها … وعافت يمين مسها وشمال

وكان يفيض المال بين عفاته … كما فضت الترب المهال شمال

فما كان للمال الشديد بمائل … وكم غر أرباب العقول فمالوا

ولذلك كنت ـ سيدي ـ لا تبالي بالطعام الذي تسد به جوعك، لا كأولئك الذين لا يأكلون إلا ما يشتهون.. وقد روي عنك أنك قلت: (ما أبالي ما رددت به عن الجوع) ([39])

وحدث ابن عباس  قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هل عندك طعام آكل) فقالت: إن عندي لكسرة يابسة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: (هلميها فكسرها في ماء)، فجاءته بملح، فقال: (ما من أدم؟) فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل، فقال: (هلميه)، فلما جاءت صبه على طعامه، وأكل، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: (نعم الأدم الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل) ([40])

وحدثت أم سعد قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة وأنا عندها، فقال: هل من غداء؟ قالت: عندنا خبز وتمر وخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(نعم الإدام الخل.. اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يفتقر بيت فيه خل) ([41])

هذه ـ سيدي ـ بعض الشهادات الدالة على الحياة التي كنت تعيشها، ولا يمكن فهمها، ولا تقدير قيمتها إلا عند جمعها مع خصالك جميعا.. تلك الخصال الممتلئة بالقوة والإيجابية والفاعلية والتأثير.. فلم تكن كأولئك الزهاد المنطوين على أنفسهم، المنشغلين بحالهم، بل كنت تحمل هم الأمة جميعا، بل البشرية جميعا.. لا تلك التي عاصرتها فقط، بل في كل العصور.

فأسألك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ وأتوسل بك إلى ربي أن يخرج حب الدنيا من قلبي، وأن يجعلني أعيش تلك العوالم الجميلة التي كنت تعيشها، والتي لا تساوي أمامها الدنيا بكل زخارفها شيئا.

وأسألك ـ سيدي ـ أن أكون من أولئك الذين وفوا لك بعهودهم؛ فلم تغرهم زينة الحياة الدنيا، ولم يتثاقلوا لأهوائهم، ولم يبتغوا عن صحبتك بديلا، حتى ألقاك وأنت راض عني، إنك أنت صاحب الوسيلة العظمى، والجاه العظيم.


([1])رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي، وصححه.. والجملة الأخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.

([2]) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي.

([3]) رواه ابن عساكر.

([4]) رواه ابن سعد، والترمذي، وأبو الشيخ عن أبي هريرة وابن سعد وابن حبان عن أبي أمامة.

([5])  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/ 243)

([6]) رواه أبو ذر الهروي.

([7]) رواه البخاري، وغيره.

([8]) رواه البخاري ومسلم.

([9]) رواه ابن المبارك والترمذي.

([10]) رواه ابن عدي.

([11]) رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.

([12]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.. والأقوال التي تلي قولها هذا روايات في الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.

([13]) رواه ابن عساكر.

([14]) رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.

([15]) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

([16]) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

([17]) رواه البخاري ومسلم والبيهقي.

([18]) رواه ابن عساكر.

([19]) رواه ابن سعد وأحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي.

([20]) رواه ابن عساكر.

([21]) رواه ابن عدي.

([22]) رواه ابن سعد.

([23]) رواه ابن عساكر.

([24]) رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود، والحارث بن أبي أسامة برجال ثقات.

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) رواه ابن أبي شيبة، أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل، وابن سعد بإسناد صحيح.

([27]) رواه ابن سعد.

([28]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.

([29]) رواه ابن سعد.

([30])وقد كان ذلك من عادة العرب عند الجوع، فإذا خوى البطن لم يمكن معه القيام، فيعمل الشخص حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف، أو أكثر، فيربطها على بطنه، ويشدها بعصابة فوقها، فتعتدل قامته بعض الاعتدال، وقد قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن أن الرجلين تحملان البطن، فإذا البطن هو الذي يحمل الرجلين.

([31]) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند.

([32]) رواه البيهقي وابن عساكر.

([33]) رواه ابن سعد.

([34]) رواه البخاري ومسلم.

([35]) رواه الترمذي بسند جيد قوي.

([36]) رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر.

([37]) رواه مسلم والبيهقي.

([38]) رواه أبو نعيم وابن عساكر.

([39]) رواه ابن المبارك في الزهد عن الأوزاعي.

([40]) رواه ابن المبارك في الزهد.

([41]) رواه ابن ماجة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *