المستبصر المتوسم

المستبصر المتوسم
وكيف لا تكون كذلك ـ سيدي ـ وأنت الذي تطهرت نفسك طهارة كاملة، وسمت روحك سموا رفيعا.. وأوتيت العصمة المطلقة.. فلذلك رقا جسدك إلى ما رقت إليه روحك، فصرت روحا تمشي على الأرض.. ونورا يمشي بين الناس.
ولولا ذلك سيدي ما أطقت تحمل الوحي الذي كان يتنزل عليك.. وما أطقت أن تكون واسطة بين الغيب والشهادة.. والأرض والسماء.. والملك والملكوت.. فقد كنت تملك كلا الجانبين.. فأنت معهم في عالم الملك.. لكنك كنت تبصر وبدقة ما حولك من عالم الملكوت.
لقد عبر عن كل هذه المعاني قوله تعالى، وهو يصفك: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [فصلت:6].. فأنت بشر مثلهم في الصورة.. لكن تلك الخاصية العظيمة التي أهلتك لتنزل الوحي عليك، جعلتك مختلفا عنهم تماما..
إن مثل ذلك ـ سيدي ـ مثل شخصين أحدهما أصم أبكم أعمى مقعد فيه كل العاهات والآفات.. وآخر سليم منها جميعا، وفي قمة القوة والشباب، وفي قمة الصلاح والتقوى، وفي قمة العلم والخبرة.. فكلاهما بشر.. لكن الفرق بينهما عظيم جدا..
فهكذا الأمر بالنسبة لسائر البشر مقارنة بك.. فهم لا يرون ما ترى، ولا يسمعون ما تسمع .. ولا تتحرك أرجلهم للعوالم التي يمكن أن تسير إليها، وفي أي لحظة تريد..
لذلك كنت أهلا لتنزل الوحي عليك، والذي لا يطيقه غيرك.. وقد قال تعالى في شأنك: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزمل:5)، فإن كان هذا القول ثقيلا بالنسبة لك، فكيف هو بالنسبة لغيرك.
لقد وصف المعايشون لك ـ سيدي ـ بعض مظاهر ثقل ذلك الوحي، فقال: (أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفخذه على فخذي، فكادت فخذه ترض فخذي)([1])
وقال آخر: (رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه على راحلته، فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه عن ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان)([2])
وقال آخر: (كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزلت عليه سورة المائدة فكاد ينكسر عضدها من ثقل السورة)([3])
وقال آخر: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل على الوحي تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم)([4])
وهذه الطاقة العظيمة التي آتاك الله جعلتك ترى الحقائق رأي العين، فكنت تصفها عن عيان لا عن تأمل أو تدبر أو تفكير.. وفرق كبير بين من يرى الحقائق، وبين من يبحث عنها بعقله الذي قد يختلط معه الوهم والوساوس.. وهذا هو الفرق بين علمك وعلوم الفلاسفة التي تلقوها بالتأمل، لا بالعيان.
وقد وردت الروايات الكثيرة المتواترة تخبر عن ذلك، وتخبر معها عن توسمك واستبصارك ورؤيتك للحقائق رأي العين، وكأنها جسد أمامك تراه ولا يرونه..
ومن تلك الروايات ما يذكر رؤيتك للملائكة وكثرتهم، وقد قلت في ذلك ـ مخاطبا أصحابك ـ: (هل تسمعون ما أسمع؟)، فقالوا: ما نسمع من شيء، فقلت: (إني لأسمع أطيط السّماء، وما تلام أن تئطّ، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم أو ملك راكع) ([5])
وقلت لهم: (أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وعليه ملك واضع جبهته ساجدا لله، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذّذتم بالنّساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله)
ومنها رؤيتك للفتن، وأنواعها، وكيفية تسللها لحياة الناس، وقد حدث بعض أصحابك عنك في ذلك فقال: أشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: (هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر)([6])
وحدث آخر، فقال: رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصره إلى السماء، فقال: (سبحان الذي يرسل عليهم الفتن إرسال القطر)([7])
ومنها رؤيتك للدنيا، وزخرفتها، وزينتها، وقد ذكرت ذلك، فقلت: (أتتني الدنيا خضرة حلوة ورفعت لي رأسها وتزينت لي، فقلت: لا أريدك، فقالت: إن انفلت مني لم ينفلت مني غيرك)([8])
ومنها رؤيتك لأحوال البرزخ، فقد روي أنك مررت على قبرين، فقلت: (إنهما ليعذبان، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس)([9])
ومنها رؤيتك للجنة والنار، وقد ورد في الحديث أن الشمس كسفت، فصليت، ثم حمدت الله تعالى، وأثنيت عليه، ثم قلت: (ما من شيء لم أكن رأيته الا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار)([10])
وفي حديث آخر قلت: (إني رأيت الجنة، فتناولت عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع)([11])
وفي حديث آخر قلت: (إنه عرضت علي الجنة، فرأيت قطوفها دانية، فأردت أن أتناول منها شيئا، وعرضت علي النار فيما بينكم وبيني كظلي وظلكم فيها)([12])
وحدث بعض أصحابك قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فأطال القيام، وكان إذا صلى لنا خفف، فرأيته أهوى بيده ليتناول شيئا ثم ركع بعد ذلك، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (علمت أنه راعكم طول صلاتي وقيامي)، قلنا: أجل، يا رسول الله، وسمعناك تقول: (أي رب، وأنا فيهم؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، ما من شيء وعدتموه في الآخرة إلا قد عرض علي في مقامي هذا حتى عرضت علي النار، فأقبل منها حتى حاذى خبائي هذا فخشيت أن تغشاكم فقلت: أي رب، وأنا فيهم؟ فصرفها الله تعالى عنكم، فأدبرت قطعا كأنها الزرابي فنظرت نظرة، فرأيت عمر بن حرثان بن الحارث أحد بني غفار متكئا في جهنم على قوسه، ورأيت فيها الحميرية صاحبة القطة التي ربطتها، فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها)([13])
ومنها رؤيتك للرحمة والسكينة وإجابة الدعاء، وقد حدث بعض أصحابك أنه كان في جماعة يذكرون الله عز وجل فمررت بهم، فكفوا إعظاما لك، فقلت لهم: (ما كنتم تقولون؟ فأني رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأحببت أن أشارككم فيها) ([14])
وحدث آخر أنك كنت في مجلس، فرفعت طرفك إلى السماء، ثم خفضته؛ فسئلت عن ذلك، فقلت: (إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله، فنزلت عليهم السكينة تحملها الملائكة كالقبة فلما دنت تكلم رجل منهم بباطل، فرفعت عنهم) ([15])
وحدث آخر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد وفيه قوم رافعو أيديهم يدعون، فقال: (ترى ما بأيديهم ما أرى؟) قلت: وما بأيديهم؟ قال: (بأيديهم نور) ، قلت: ادع الله عز وجل أن يرينيه، فدعا الله عز وجل فأرانيه([16]).
وحدث آخر قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتاك، فذكر لك ما رآه، فقلت له: (تلك السكينة تنزلت للقرآن) ([17])
وقد كنت ـ سيدي ـ لا تكتفي بذلك، بل إنك، ولأجل إزالة الشكوك وزرع الطمأنينة في قلوب أصحابك وغيرهم ـ تخبرهم عما يحصل من أحداث فور وقوعها، مع بعدها عنهم.
ومن الأمثلة على ذلك إخبارك بقتل أصحابك يوم الرجيع، فقد روي أن خبيبا ـ وكان أحد الشهداء ـ قال: (اللهم اني لا أجد من يبلغ رسولك عني السلام)، فقلت حينها: (وعليك السلام) فسألك أصحابك عن سر سلامك، فقلت: (خبيب قتلته قريش)([18])
ومن الأمثلة على ذلك إخبارك بقتل أصحابك يوم بئر معونة، ففي الحديث أن أناسا جاءوا إليك، فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلموننا القرآن والسنة، فبعثت إليهم سبعين رجلا من الأنصار، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا، فقلت حينها: (إن إخوانكم قتلوا، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أن قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا) ([19])
وقد حصل هذا في مرات كثيرة، وقد حدث بعض أصحابك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية، فلم نلبث الا قليلا، حتى قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن إخوانكم قد لقوا المشركين واقتطعوهم فلم يبق منهم أحد، وإنهم قالوا: ربنا بلغ قومنا أنا قد رضينا ورضي عنا ربنا، فأنا رسولهم إليكم، إنهم قد رضوا ورضي عنهم)([20])
وهكذا حدث الرواة عن إخبارك بقتل من قتل في غزوة مؤتة يوم أصيبوا، فقد روي أن بعضهم قدم عليك بخبرهم، فقلت له: (إن شئت فأخبرني، وان شئت أخبرتك)، قال: أخبرني يا رسول الله به، فأخبرته خبرهم كلهم ووصفته لهم، فقال: والذي بعثك بالحق، ما تركت من حديثه حرفا لم تذكره، وان أمرهم لكما ذكرت، فقلت: (إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم)([21])
وهكذا حدث الرواة عن إخبارك بأن خيبر تفتح على يد علي بن أبي طالب، فقد حدث بعضهم أنك قلت يوم فتح خيبر: (لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه)، فلما أصبحت قلت: (أين علي بن أبي طالب؟) قالوا: يشتكي عينيه، قلت: (فأرسلوا إليه)، فأتي به إليك، فنفثت في عينيه، ودعوت له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، ثم سار إلى المعركة، وفتح الله عليه ([22]).
ولم تكن تكتفي بكل ذلك ـ سيدي ـ بل كنت تخبرهم عما تحدثه به في نفوسهم، وبكل دقة، فيمتلئون من ذلك عجبا، ويمتلئون معه إيمانا ويقينا وطمأنينة..
ومما يروى في ذلك ما حدث به بعضهم من أنه كان معك إذ جاءك رجل فقال: من أنت؟ قلت: (أنا نبي)، قال: وما نبي؟ قلت: (رسول الله)، قال: متى تقوم الساعة؟ قلت: (غيب ولا يعلم الغيب الا الله)، قال: أرني سيفك، فأعطيته سيفك، فهزه الرجل، ثم رده عليك، فقلت له: (أما انك لم تكن تستطيع ذلك الذي أردت)، قال: وقد كان([23]).
ثم قلت مخاطبا أصحابك: (إن هذا أقبل، فقال: آتيه، فاسأله ثم آخذ السيف، فاقتله)([24])
وحدث آخر أنك كنت مع أصحابك، وهم يتحدثون بإعجاب شديد عن رجل من المجاهدين معك، لكنك قلت لهم: (أما انه من أهل النار)، فاتبعه بعضهم ليرى سر قولك، فإذا به يرى الرجل يجرح جرحا شديدا، جعله يأخذ سيفه، ويقتل نفسه به، منتحرا، فرجع إليك، وهو يقول: أشهد أنك رسول الله، فقلت: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)([25]) ، ثم قلت لبلال: (يا بلال، قم فأذن: لا يدخل الجنة الا مؤمن، وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)
وحدث آخر قال: استأذن عيينة بن حصين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي أهل الطائف يكلمهم، لعل الله تعالى أن يهديهم فأذن له، فأتاهم، فقال: تمسكوا بمكانكم، فوالله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لو حدث به حدث لتمسن العرب عز ومنعة، فتمسكوا بحصنكم، وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثرن عليكم قطع هذا الشجر، ثم رجع فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ماذا قلت لهم؟) قال: قلت لهم، وأمرتهم بالإسلام ودعوتهم إليه، وحذرتهم من النار، ودللتهم إلى الجنة، قال: (كذبت، بل قلت لهم: كذا وكذا)، فقال: صدقت، يا رسول الله، أتوب إلى الله تعالى وإليك من ذلك)([26])
وحدث آخر قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه من المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، وخرجت به، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: (أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذرهم)([27])
لم يكن ذلك ـ سيدي ـ شيئا عرضيا تبديه بين الحين والحين، بل كان شيئا عاديا، تفعله كل حين، حتى تزيد من حولك طمأنينة، ومن الأمثلة على ذلك أن رجلا جاءك، فقال: يا رسول الله إن أبي يريد أن يأخذ مالي، فدعوت أباه، فقلت له: (قلت في نفسك شيئا لم تسمعه أذناك؟) قال: لا يزال يزيدنا الله تعالى بك بصيرة ويقينا، نعم، فقلت: هات، فأنشأ يقول:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا … تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت … لسقمك الا ساهرا أتململ
تخاف الردى نفسي عليك وانها …لتعلم أن الموت حتم موكل
كأني أنا المطروق دونك بالذي …طرقت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليك …مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة … كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق مودتي …فعلت كما الجار المجاور يفعل
فبكيت، ثم عاتبت ابنه على سلوك، وقلت له: (أنت ومالك لأبيك)([28])
ومن الأمثلة على ذلك إخبارك أصحابك عن أسئلتهم قبل أن يسألوها، ومما يرى في ذلك ما حدث به وابصة بن معبد قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا أريد أن أدع من البر والإثم شيئا الا سألته عنه، فأتيته، وهو في عصابة من المسلمين حوله، فجعلت أتخطاهم لأدنو منه، فانتهرني بعضهم، فقال: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: إني أحب أن أدنو منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوا وابصة، ادن مني وابصة)، فأدناني حتى كنت بين يديه، فقال: (أتسألني أم أخبرك؟) فقلت: لا، بل تخبرني، قال: (جئت تسأل عن البر والإثم؟) قلت: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري وقال: (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)([29])
وحدث آخر أنك كنت جالسا في مسجد الخيف، فأتاك رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف فلما سلما، قالا: جئناك، يا رسول الله، لنسألك، فقلت لهما: (إن شئتما أخبرتكما بما تسألاني عنه فعلت، وان شئتما أن أسكت وتسألاني فعلت)، فقالا: لا، أخبرنا يا رسول الله، نزدد إيمانا أو نزدد يقينا.. فقلت لأحدهما: (جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام ومالك فيه، وعن طوافك بالبيت، ومالك فيه، وركعتيك بعد الطواف، ومالك فيهما، وعن طوافك بالصفا والمروة، وعن وقوفك بعرفة، ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، وعن نحرك ومالك فيه، وعن حلاقك رأسك، ومالك فيه، وعن طوافك، ومالك فيه)، فقال الرجل: (والذي بعثك بالحق عن هذا جئت أسألك!)، ثم أجبته عن أسئلته وأسئلة رفيقه ([30]).
وحدث آخر قال: أصابنا جوع ما أصابنا مثله قط فقالت لي أختي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاسأله فجئت، فإذا هو يخطب، فقال: (من يستعفف، يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)، فقلت في نفسي: والله لكأنما أردت بهذا.. لا جرم لا أسأله شيئا، فرجعت إلى أختي فأخبرتها، فقالت: أحسنت، فلما كان من الغد، فاني والله لأتعب نفسي تحت الأجم، إذ وجدت من دارهم يهود فابتعنا به، وأكلنا منه وجاءت الدنيا، فما من أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا([31]).
وحدث آخر قال: قالت الأنصار يوم فتح مكة: أما الرجل فقد أدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، وكان الوحي إذا جاء لم يخف علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما رفع الوحي قال: (يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، كلا فما أسمي إذن كلا، إني عبد الله ورسوله المحيا محياكم، والممات مماتكم)، فأقبلوا يبكون، وقالوا والله، ما قلنا الا للضن بالله ورسوله، فقال: (إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم)([32])
وحدث آخر عن نفسه، وهمه بقتلك، فقال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، قلت في نفسي: أسير مع قريش إلى هوازن، بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب غرة من محمد فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا أتبع محمدا ما أتبعه أبدا، فكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة.. فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بغلته، فدنوت منه، ورفعت سيفي حتى كدت أسوره، فرفع لي شواط من نار كالبرق كاد يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (ادن مني)، فدنوت فمسح صدري، وقال: (اللهم أعذه من الشيطان)، فوالله لهو من حينئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان بي، فقال: (يا شيبة، الذي أراد الله بك خيرا مما أردت بنفسك؟) ثم حدثني بما أضمرت في نفسي! فقلت: بأبي أشهد أن لا اله الا الله، وأنك رسول الله، استغفر لي يا رسول الله، قال: (غفر الله لك)([33])
وحدث آخر عنك أنك مررت وأصحابك بامرأة، فذبحت لكم شاة، واتخذت لكم طعاما، فدخلت وأصحابك، فلما رأيتها قلت: (هذه ذبحت بغير إذن أهلها)، فقالت المرأة: يا رسول الله، إنا لا نحتشم من آل معاذ، نأخذ منهم، ويأخذون منا([34]).
ولم يكن الأمر قاصرا على ذلك، ومع أصحابك فقط، بل كنت تنطق بأمثال ذلك أمام المشركين، وفي أشد المواقف حرجا، ومن الأمثلة على ذلك إخبارك لعمك أبي طالب بأن الأرضة أكلت الصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش، فانطلق يمشي مع جماعة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فقال عمك أبو طالب: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح.
وقد قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن قومك سيسلموك لهم، فوضعوها بينهم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي قد أخبرني أن الله تعالى برئ من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا منها كل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم، وقطيعتكم إيانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان ما قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله، لا يسلم أبدا حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان باطلا رفعناه إليكم، فقتلتم أو استحييتم، قالوا: قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما ذكرت لهم؛ فلما رأوا ذلك قالوا: والله إن كان هذا قط الا سحر من صاحبكم! فقال أبو طالب ومن معه: (إن الأولى بالكذب والسحر غيرنا، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم، وهي بأيديكم طمس الله تعالى ما كان فيها من اسم له وما كان من بغي تركه، أفنحن السحرة أم أنتم؟)([35])
ومن الأمثلة على إخبارك قريشا ليلة الإسراء بصفة بيت المقدس، مع أنك لم تكن رأيته قبل ليلة الإسراء، فقد روى المحدثون أنك بعد أن أسري بك مر عليك أبو جهل، فجاء حتى جلس إليك، فقال لك كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قلت: نعم، قال: ما هو؟ قلت: أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قلت: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قلت: نعم.. فلم ير أن يكذبك مخافة أن تجحده الحديث إن دعا قومه إليك، فقال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ قلت: نعم، قال: يا معشر بني كعب بن لؤي.. فانفضت إليك المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليك، فقال: حدث قومك بما حدثتني، فقلت: (إني أسري الليلة بي)، قالوا: إلى أين؟ قلت: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قلت: نعم .. فصاروا بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا، وضجوا وأعظموا ذلك.. فقالوا: يا محمد صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من سافر إليه.
فأخذت تنعت لهم بناءه وهيئته، كما كان بالفعل.. فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.. ثم قالوا: يا محمد أخبرنا عن عيرنا.. فقلت: (أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد ضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، فليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان وها هي ذه تطلع عليكم من الثنية).. وقد حصل كل ما أخبرتهم عنه، لكن ذلك لم يزدهم إلا جحودا وعتوا.
هذه ـ سيدي ـ قطرة من بحر استبصارك وتوسمك، والطاقات التي وهبك الله، والتي لا يمكن لعقولنا البسيطة أن تدركها.. ولا أن تتخيلها.. وأنى لها ذلك، ولا يعرف النبي إلا النبي..
فنسألك ـ سيدي ـ ونتوسل بك إلى الله أن يرزقنا من البصيرة ما نرى به عيوبنا وآفاتنا والفتن المحدقة بنا.. وأن يعيننا على مواجهتها ومقاومتها وصدها.. وأن يجعلك قائدنا وهادينا في ذلك.. فلا يمكننا أن نقتحم لجة الفتن من دونك.. ولا يمكننا أن نتحقق بالنجاة، ولا بالفوز من دون أن نركب سفينتك.
ونسألك ـ سيدي ـ ونتوسل بك إلى الله أن
يرينا مراشد أمورنا، حتى لا نقع في أي ضلالة، ولا أي فتنة.. وأن يجعلنا من
المستبصرين المتوسمين الذين يكتفون برؤية الظواهر، ويغفلون عن البواطن.. أو يكتفون
برؤية الحاضر دون أن يستشرفوا المستقبل.. إنك صاحب الوسيلة العظمى، والجاه العظيم.
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) رواه ابن سعد.
([3]) رواه أحمد والطبراني.
([4]) رواه أبو داود الطيالسي.
([5]) رواه ابن أبي حاتم والطبراني والضياء في «المختارة» وأبو الشيخ
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) رواه الطبراني.
([8]) رواه أحمد في الزهد عن عطاء بن يسار مرسلا.
([9]) رواه مسلم.
([10]) رواه البخاري.
([11]) رواه البخاري.
([12]) رواه الحاكم.
([13]) رواه الطبراني باسناد جيد.
([14]) الحاكم (1/ 122)
([15]) رواه ابن أبي حاتم وابن عساكر مرسلا، السيوطي في الدر المنثور 1/ 317 وانظر كنز العمال (1879)
([16]) رواه البخاري في التاريخ، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (10/ 3)
([17]) أخرجه البخاري 6/ 170، 232 ومسلم في كتاب صلاة المسافرين (241)
([18]) رواه البخاري والبيهقي وأبو نعيم.
([19]) رواه مسلم والبيهقي.
([20]) رواه البيهقي.
([21]) رواه البيهقي وابو نعيم.
([22]) رواه البخاري ومسلم.
([23]) رواه الحاكم وصححه والطبراني.
([24]) رواه الطبراني.
([25]) رواه البخاري.
([26]) رواه البيهقي وأبو نعيم.
([27]) رواه ابن إسحاق والبيهقي.
([28]) رواه البيهقي.
([29]) رواه أحمد وأبو يعلى.
([30]) رواه مسدد والبزار والاصبهاني البيهقي.
([31]) رواه البيهقي، وأخرجه ابن سعد بلفظ: فكان أول ما واجهني به. وبلفظ: فقلت ما قال هذا القول الا من أجلي وبلفظ: فأتاح الله لي رزقا ما كنت أحتسبه»
([32]) رواه مسلم والطيالسي والبيهقي.
([33]) رواه ابن سعد وابن عساكر.
([34]) رواه احمد برجال الصحيح.
([35]) رواه البيهقي وأبو نعيم وابن سعد وابن عساكر، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري، فشلت يده حتى يبست فما كان ينتفع بها، فكانت قريش تقول بينها: إن الذي صنعنا إلى بني هاشم لظلم، انظروا ما أصاب منصور بن عكرمة.