المنبأ بالنبوءات

المنبأ بالنبوءات

سيدي يا رسول الله.. يا من عظم نصحه وحرصه؛ فتجاوز حدود كل الأمكنة.. وامتد إلى كل الأزمة.. وسرى إلى جميع القضايا.. وتغلغل في جميع الشؤون.. فلا يكتفي بك أحد إلا كُفي.. ولا يقبل عليك إلا ويجد عندك ولديك كل الحلول، ولكل المشاكل، وفي كل الأوقات.

لقد كان أول ما أرقني وفتّ في عضدي أني ـ عند تدبر القرآن الكريم ـ علمت سنة الله تعالى في الأمم وأقوام الأنبياء، بعد وفاة أنبيائهم، وأنهم يبذلون كل جهودهم للتغيير والتبديل والتحريف، فلذلك يحاصَر دين الله بالأهواء، ويُدنّس جماله بالشبهات، وتختلط الأمور على الناس بعد أن أمتلأ عسل دينهم بالسم، وكل أنواع الأدواء، وذلك ليتحقق الاختبار، ويمحص التابعون الصادقون من المزورين والمحرفين.

وقد جعلني هذا ـ وخشية على نفسي من الوقوع في الضلالة ـ أقبل عليك، وأسألك عن حل هذه المعضلة، وكيف لي أن أتجاوز تلك التحريفات.. وكيف لي أن أظل معك، دون أن يجتذبني أولئك الذين صنعهم الشيطان على عينه، ليخلط بهم دين الله بدينه.

وعندما عدت إليك بعد تلك المتاهة الطويلة التي رأيت فيها كل أصناف الأوهام والدعاوى والكذب.. وجدت عندك كل شيء.

فمن أراد أن يبحث عن سر تخلف الأمة عن دينها وجده عندك.. ومن أراد أن يعرف مظان التحريفات والتغييرات يجدك قد ذكرتها في سنتك، وحذرت منها في أحاديثك.. ومن أراد أن يعرف أئمة التحريف والتضليل وأدواتهم، وجدك قد سبقت إلى ذكرهم والإشارة الصريحة إليهم.. ومن أراد أن يعرف أئمة الهدى، وكيفية الاستفادة منهم وجدهم.. وهكذا لم تترك لنا ـ سيدي ـ شاردة ولا واردة قد نحتاج إليها بعدك إلا وأخبرتنا بها.

ولذلك كانت نبوءاتك تتمة لنبوتك.. ومن جحد نبوءاتك، أو تكاسل في الاهتمام بها، أو تفعيلها في حياته، فسيكون كالذي ألغى شطر نبوتك.. فلنبوتك شطران: شطر يرتبط بحياتك، والذي قد يتفق عليه الجميع.. وشطر يرتبط بما هو بعدك.. وهذا الذي وقع فيه التقصير فيمن جاء بعدك، بعد أن تسربت إليهم سموم الأهواء، وسرى إليهم ما سرى إلى الأمم قبلهم من الغفلة عن وصايا أنبيائهم، وإن كانوا قد أخذوا بالكثير من هديهم.

لقد ذكر أصحابك المقربين اهتمامك بهذا  الجانب من رسالتك، حتى تحمي الأمة بعدك من كل ما يؤذيها، أو يشوهها، وحتى يظل في دينك المتمسكون الحقيقيون به، الذين يأوي إليهم الشاردون، ويهتدي بنورهم الضالون.

لقد قال بعض أصحابك يذكر ذلك: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا)([1])

وقال آخر ـ وهو صاحبك حذيفة ذلك الذي كان مهتما بهذا النوع من العلم خشية على نفسه، وعلى أمتك ـ: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه)([2])

لقد رحت ـ سيدي ـ أبحث عند أصحابك المقربين الذين تعلموا منك هذه العلوم؛ فوجدت عندهم كل شيء.. لقد كان تلميذك الأكبر الإمام علي يصيح في أصحابه طالبا منهم أن يتعلموا هذا العلم حتى يحفظوا للأمة كينونتها، فيقول: (سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي نفسي! بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين السّاعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا، ومن يموت منهم موتا)([3])

لقد بدأت نبوءاتك ـ سيدي ـ من الفترة التي تلتك مباشرة.. تلك الفترة الخطيرة التي وصفها الله تعالى، وحذر منها، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]

لقد رأيتك ـ سيدي ـ تذكر كل التفاصيل المرتبطة بمن يصدقون معك، ويفون لك، ولدينك، وبين من يحرفون، ويغيرون، ويبدلون.. حتى لا يؤسس الدين إلا على الأسس الصحيحة، والرجال الأقوياء الصالحين المحافظين على هدي النبوة.

لقد وجدت في دواوين المحدثين الكثير من الأحاديث التي تخبر فيها أصحابك عن البلاء الذين ينتظرهم، والاختبارات التي سيقعون فيها، ويمحصون، وبينت لهم كيفية التعامل معها، حتى لا تزيغ بهم الأهواء.

وبما أن الموقف من الإمام علي ـ بسبب قرابته منك، وتلمذته الصادقة على يديك ـ كان أكثر من تعلم تعرضه للظلم بعدك؛ فقد نبهت إلى خطورة ذلك الظلم، وكونه غير متعلق به فقط، وإنما يتعلق بالدين جميعا.. لأن الناكثين والقاسطين والمارقين والبغاة سيجعلون الحرب عليه وسيلة للحرب عليك، وهذا ما تحقق بالفعل، وقد روي في الحديث عن بعض أصحابك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانقطعت نعله، فتخلف علي يخصفها، فمشى قليلا ثم قال: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)، فقال أبو بكر: أنا، قال: (لا)، قال عمر: أنا، قال: (لا ولكن خاصف النعل)([4])

وفي حديث آخر عن صحابي آخر قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين)([5])

وأخبر الإمام علي عن نفسه قال: (إن مما عهد إلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمة ستغدر بي بعده)([6])

ولهذا كان الإمام علي موقنا تماما أنه لن يموت قبل أن يحصل له ما أخبرته عنه؛ فقد روي أنه لما مرض وهو في ينبع عاده بعض الصحابة والتابعين، وطلبوا منه أن ينتقل إلى المدينة، حتى إذا حضر أجله وليه الصحابة وصلّوا عليه، أما إذا مات في مكانه فلا يحضره إلا أعراب جهينة، فأجابهم بقوله ـ بناء على ما ذكرته له من نبوءات ـ: (لكني والله ما تخوّفت على نفسي منه، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادق المصدوق يقول: (إنك ستُضرب ضربةً ههنا، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقرُ الناقة أشقى ثمود)([7])

وهكذا ورد في النبوءات تحذيرك لأم المؤمنين عائشة من أنها ستقع في فتنة خروجها في معركة الجمل، فقد روي أنك قلت لعلي: (إنه سيكون بينك وبين عائشة أمرٌ)، قال: (أنا يا رسول الله؟)، فقلت: نعم .. فقال: فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ فقلت: (لا .. ولكن إذا كان ذلك، فارددها إلى مأمنها)([8])

بل إنك ـ سيدي ـ ذكرت العلامة التي ستكون عند ظهور هذا الخلاف، كما أشرت إلى الظرف الذي ستكون عليه تلك الأحوال، فقد روي عن عائشة أنها لما أتت على الحوأب، وسمعت نباح الكلاب، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا: (أيتكن تبنح عليها كلاب الحوأب)([9])

بل إنك ـ سيدي ـ أخبرت بدقة عما يحصل في تلك المعركة، فقد روي أنك قلت مخاطبا نساءك: (ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فينبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير)([10])

بل إن حذيفة حدث عن هذا مع أنه مات قبل مسير عائشة، فقد روي أنه قيل له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو فعلت لرجمتموني)، قلنا: سبحان الله! قال: (لو حدثتكم أن بعض أمهاتكم تغزوكم في كتيبة تضربكم بالسيف ما صدقتموني)، قالوا: سبحان الله، ومن يصدقك بهذا قال: (أتتكم الحمراء في كتيبة تسوق بها أعلاجها)([11])، قال البيهقي، أخبر بهذا حذيفة ومات قبل مسير عائشة.

بل إنك ـ سيدي ـ أخبرت بعض من سار مع عائشة على أنه سيقاتل عليا ظالما له، فعن أبي الاسود قال: شهدت الزبير خرج يريد عليا، فقال له علي: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (تقاتله وأنت له ظالم)، فقال: لم أذكر، ثم مضى الزبير منصرفا([12]).

وفي حديث آخر عن أبي جروة المازني قال: سمعت عليا يقول للزبير نشدتك بالله أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنك تقاتلني وأنت ظالم لي؟ قال: بلى، ولكن نسيت([13]).

وفي حديث آخر عن قيس قال: قال علي للزبير: أما تذكر يوم كنت أنا وأنت، فقال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتحبه)، فقلت: وما يمنعني، فقال: (أما إنك ستخرج عليه وتقاتله وأنت ظالم)، قال: فرجع الزبير([14]).

وهكذا أخبرت عمارا بأنه سيقتل شهيدا على يد الفئة الباغية التي تحرف دينك، وأنه سيصبح علامة لأهل الحق، وسيصبح أعداؤه علامة على أهل البغي إلى يوم القيامة، فقد حدث الرواة عنك أنك قلت: (إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق)([15])، وقلت: (إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أرشدهما ـ يعنى عمارا فالزموا ـ سمته)([16])

وقلت عن قريش، تلك التي حاربتك في حياتك، وحاربت دينك بعد موتك: (ولعت قريش بعمار .. ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار)([17])

بل إنك ـ سيدي ـ أخبرت عمارا عن آخر طعام يتناوله، فعن أبي البختري، أن عمار بن ياسر أتي بشربة لبن فضحك، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: آخر شراب أشربه لبن حين أموت([18]).

وقد حصل ما أخبرت عنه، وبدقة، فقد كان عمار في جيش الإمام علي يوم صفين، وقتله معاوية وجيشه من أهل الشام الذين خرجوا بغاة ظالمين.

ولهذا كان عمار يذكر لمن يعوده في أمراضه أنه لن يموت فيها، بناء على تلك الوعود التي وعدته بها.. فعن مولاة لعمار قالت: اشتكى عمار بن ياسر شكوى ثقل منها، فغشي عليه، فأفاق، ونحن نبكي حوله قال: ما يبكيكم؟ أتحسبون أني أموت على فراشي، أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه تقتلني الفئة الباغية، وأنا آخر زادي مذقة من لبن([19]).

وهكذا أخبرت أبا ذر الغفاري بالبلاء الذين ينتظره، وقد شاهده أبو ذر رأي العين، فعن إبراهيم بن الأشتر، أنه لما حضر الموت أبا ذر، وهو بالربذة فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: أبكي أنه لا يد لي بنفسك، وليس عندي ثوب يسع لك كفناً، قال: لا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين)، قال: فكل من كان مع في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت، فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول، فإني والله ما كَذبت ولا كُذبت، قالت: وأنى ذلك وقد انقطع الحاج، قال: راقبي الطريق، قال: فبينا هي كذلك إذا هي بالقوم تخب بهم رواحلهم كأنهم الرخم، فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا: ما لك؟ فقالت: أمرؤ من المسلمين تكفنوه وتؤجرون فيه، قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ووضعوا سياطهم في محورها يبتدرونه، فقال: أبشروا، فأنتم النفر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم ما قال، ثم أصبحت اليوم حيث ترون، ولو أن لي ثوباً من أثوابي يسع لأكفن فيه، فأنشدكم بالله لا يكفني رجل منكم كان عريفاً أو أميراً أو بريداً، فكل القوم قد نال من ذلك شيئاً إلا فتى من الأنصار كان مع القوم، قال: أنا صاحبك، ثوبان في عيبتي من غزل أمي وأحد ثوبي هذين الذين علي، قال: أنت صاحبي، فكفنه الأنصاري في النفر الذين شهدوه منهم حجر بن الأدبر ومالك الأشتر في نفر كلهم يمان([20]).

وعن القرظي، قال: خرج أبو ذر إلى الربذة فأصابه قدره، فأوصاهم أن غسلوني وكفنوني، ثم ضعوني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعينونا على غسله ودفنه ففعلوا.. فأقبل عبد الله بن مسعود في ركب من العراق، وقد وضعت الجنازة على قارعة الطريق، فقام عليه غلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فبكى عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك)([21])

وهكذا أخبرت عن أولئك الظلمة الذين يحرفون دينك، ويحولونه من دين العدالة إلى دين الاستبداد.. ومن دين العقل إلى دين الخرافة.. بل إنك لم تترك شيئا يتعلق بهم إلا ذكرته، وحذرت منه.. ومن تحذيراتك في ذلك قولك: (خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه؛ يمنعكم الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم)، فقالوا ـ عندما سمعوا ذلك منك ـ : يا رسول الله كيف نصنع؟ فقلت: (كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله) ([22])

وقد ذكرت ـ سيدي ـ خوفك على ما يحصل بعدك من تسلط الأئمة الظلمة، ومن يعينهم من علماء السلاطين، فقلت: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلون)([23])

 وقد نبهت أمتك إلى كيفية التعامل مع هؤلاء الأمراء المستبدين، فقلت: (اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض)([24])

ولم تكتف ـ سيدي ـ بتلك التحذيرات العامة، بل ضممت إليها الكثير من الإشارات بل التصريحات التي تدل على منابع الفتن ومصادرها، ومن ذلك حديثك عمن سيتولى شؤون المسلمين من الصبية المراهقين، وما سيحصل على أيديهم من فساد وإفساد، فقلت: (هلكة أمتي على يدي غلمة)([25])

وقد وقع سيدي بدقة ما ذكرت حيث أصبح المراهقون والصبية هم الذين يتولون أمور المسلمين، ويعيثون في الأرض فسادا، فشوهوا دينك تشويها عظيما.

وهكذا أخبرت ـ سيدي ـ عما يلحق بأهل بيتك من المظالم، ومن يتولى ذلك في أحاديث كثيرة، منها قولك: (ان أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا، وان أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم)([26])

وأخبرت عما سيحصل لسبطك سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين، فقلت: (إن جبريل أخبرني أن ابني الحسين يقتل، وهذه تربة تلك الارض)([27]) ، وقلت: (إن جبريل كان معنا في البيت، فقال: اتحبه؟، فقلت: أما في الدنيا فنعم؟ قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض، يقال لها: كربلاء، فتناول جبريل من تربتها، فأرانيه)([28])، وقلت: (إن جبريل أخبرني أن ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل، وأنه اشتد غضب الله على من يقتله)([29])

ولم تكتف بكل ذلك ـ سيدي ـ بل ذكرت الفترات التي تمر بها الأمة، والمفاسد التي تعترضها في طريقها.. والمواضع التي تظهر فيها الفتن.. وكيفية النجاة منها.. وكان في ذلك كله كفاية لكل من يريد أن يميز بين الحق والباطل، وبين دينك الأصيل، والدين الجديد الذي ابتدعه المحرفون.

لقد رحت ـ سيدي ـ بعد اطلاعي على تلك النبوءات التي تركتها لنا، والتي تمس جميع جوانب الحياة، وفي جميع العصور، وقارنت صدقها بما ورد من النبوءات المحدودة من أولئك الذين اعتبرهم البشر عباقرة وأبطالا، فوجدت البون الشاسع.

فكل نبوءاتك مع تفاصيلها الدقيقة صدقت، ودل عليها التاريخ والواقع.. وكل نبوءاتهم فضحتها الأيام، وبينت تهافتها وضلالها وكذب أصحابها.

لقد ذكر المؤرخون أن نابليون بونابرت، ذلك الذي كان ولا يزال يعد من أعظم قواد الجيوش في عصره، ذلك الذي توهم أنه سيحيي بطولات الإسكندر المقدوني وفتوحاته.. ذلك الذي توهم أنه أصبح مالك القدر، وادعي أنه لم يكتب في قدره غير الغلبة الكاملة على جميع أهل الأرض.. لكن كل تلك النبوءات المغرورة أصابها ما أصاب نبوءات جميع المدعين، فتلك الجحافل العظيمة التي أعدها هزمت شر هزيمة.. وعندما علم نابليون بمصيره المحتوم فر هاربا من القيادة الفرنسية متوجها إلى أمريكا، ولم يكد يصل إلى الشاطئ، حتى ألقت شرطة السواحل القبض عليه وأرغمته على ركوب سفينة تابعة للبحرية البريطانية، وانتهي به القدر إلي أن أرسل إلي جزيرة غير معمورة بجنوب الأطلنطي، ومات ذلك القائد المغرور في تلك الجزيرة بعد سنوات طويلة من البؤس والشقاء، يتجرع كأس الندم، بعد أن جرع جيوشه كأس الخديعة.

وهذا ما حصل للبيان الشيوعي الذي تنبأ بأن أول البلاد التي ستقود الثورة الشيوعية هي (ألمانيا)، ولكن ألمانيا على الرغم من مضي العقود الكثيرة من تلك النبوءة عليها، لا تزال أبعد الناس عن مثل تلك الثورة..

وهذا ما حصل لكارل ماركس ـ ذلك الذي يعتبره الكثير إلههم الذي لا يخطئ ـ فقد كتب يقول : (إن الجمهورية الحمراء تبزغ في سماء باريس)، لكن ذلك، ورغم مرور تلك الفترة الطويلة لم يحصل.. ولن يحصل.

وهذا ما حصل لأدولف هتلر في خطابه الذي ألقاه بين قومه يقول لهم فيه: (إنني سائر في طريقي، واثقا تمام الثقة بأن الغلبة والنصر قد كتبا لي)، وقد عرف العالم أجمع أن الهزيمة هي التي كتبت لهتلر وليس النصر.

وهكذا كذبت كل النبوءات.. إلا نبوءاتك ـ سيدي ـ والتي لم تزدها الأيام إلا صدقا.. وبكل تفاصيلها.

فأسألك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ وأتوسل بك إلى ربي أن يجعلني من المطبقين لوصاياك، المعتصمين بهديك.. الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يحرفوا..

وأسألك أن أكون من الذين استفادوا من نبوءاتك، وعاشوا معها، وحذروا مما حذرتهم منه، وعملوا بما أوصيتهم به.. وألا تأخذني في ذلك لومة لائم.. إنك وسيلة الله العظمى، وصاحب الجاه العظيم.


([1])  رواه مسلم.

([2])  رواه أبو داود.

([3])  شرح الأخبار 1: 139، وقد روى الحاكم في المستدرك [رقم الحديث: (3394)] عن عامر بن واثلة، قال: سمعت علياً قام، فقال: سلوني قبل أن تفقدوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام ابن الكواء فقال: من {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ؟، قال: منافقو قريش، قال: فمن {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 104] ؟، قال: منهم أهل حروراء)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح عال.

([4])  رواه الحاكم وصححه والبيهقي.

([5])  رواه الحاكم.

([6])  رواه أبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم.

([7])  رواه عبد بن حُميد والبخاري في تاريخه وابن أبي عاصم والطبراني وأبو يعلى، والحاكم وصححه، وحسنه الهيثمي.

([8])  رواه أحمد الطحاوي والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، كما قال الحافظ الهيثمي، وحسنه الحافظ ابن حجر.

([9])  رواه أحمد وابن شيبة وأبو يعلى والبزار، وصححه ابن حبان والحاكم.

([10])  رواه البزار والطحاوي، برجال ثقات، كما قال الحافظان الهيثمي وابن حجر.

([11])  رواه الحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم.

([12])  رواه الحاكم وصححه والبيهقي.

([13])  رواه أبو يعلى والحاكم والبيهقي وأبو نعيم.

([14])  رواه الحاكم.

([15])  رواه البيهقي في الدلائل.

([16])  وقعة صفين (ص: 342).

([17])  وقعة صفين (ص: 342).

([18])  رواه أحمد، والحاكم.

([19])، وفي رواية: ضياح لبن، وفي لفظ: إن آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن، رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن.

([20])  رواه أحمد من طريقتين أحدهما هذه، والأخرى مختصرة عن إبراهيم بن الأشتر عن أم ذر، ورجال الطريق الأولى رجال الصحيح ورواه البزار بنحوه باختصار.

([21])  رواه احمد وإسحاق.

([22])  رواه احمد بن منيع برجال ثقات وإسحاق.

([23])  رواه احمد برجال ثقات.

([24])  رواه الترمذي وقال: صحيح غريب وابن حبان والنسائي.

([25])  رواه أحمد، ورواه البخاري بنحوه عن أبي هريرة،  والأحاديث في هذا كثيرة جداً وهي موجودة في كتب دلائل النبوة.

([26])  رواه ابن عساكر ونعيم بن حماد في الفتن، والحاكم.

([27])  رواه الخليل في الإرشاد.

([28])  رواه الطبراني.

([29])  رواه ابن عساكر.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *