المؤيد بالمعجزات

سيدي يا رسول الله.. يا من أيده الله بالمعجزات الباهرات، والخوارق الواضحات، والآيات البينات، حتى يثبت لكل العقول، وكل الأجيال أنك النبي الذي جعل الله في الإيمان به واتباعه خلاص البشرية، وسعادتها، وصلاحها، في الدنيا والآخرة.
لقد رحت سيدي إلى دواوين الوراقين أبحث في كل الأديان، عن معجزات تشبه المعجزات التي جئت بها، والدلائل التي دل الله بها عليك؛ فلم أجد عشر معشار ما أتيت به..
وليس ذلك عجيبا.. فقد كان الأنبياء يبعثون إلى أقوام محدودين، وأزمنة محدودة، أما أنت فقد جئت للبشر جميعا، باختلاف طباعهم وعقولهم ومشاربهم.. ولكل الأزمنة متقدمها، ومتأخرها.. ولذلك كنت بحاجة إلى كل أصناف البينات، حتى يقيم الله الحجة بك على خلقه.. فقد جرت سنة الله ألا يترك رسله من غير آيات تدل عليهم، حتى لا يزاحمهم في ذلك الكذابون والمدعون والدجالون.
لقد أشرت سيدي إلى عظمة ما آتاك الله من آيات بينات، مقارنة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، فقلت: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)([1])
فرجاؤك سيدي لأن يكون أتباعك أكثر من سائر الأنبياء عليهم السلام يدل على امتداد حجتك لأكثر البشر والعقول والأزمنة..
يؤسفني ـ سيدي ـ أن أذكر لك بأن بعض قومي راحوا يقرؤون حديثك هذا على خلاف ما قصدته؛ فقد توهموا أن القرآن الكريم هو معجزتك الوحيدة، وأن كل المعجزات التي جرت للأنبياء من قبلك، والتي خرقت لهم بها ما يعرفه الناس من قوانين لم تتحقق لك.
وقد وهموا في ذلك؛ فأنت لم ترد الحديث عن تلك المعجزات الحسية التي لم يشاهدها إلا قومك.. وإنما أردت المعجزة الممتدة التي يراها كل الأجيال.. وهي المعجزة الوحيدة الباقية على الأرض.. ذلك أن كل معجزات الأنبياء ذهبت بذهابهم، ولم يشاهدهم إلا قومهم، أو الذين طالبوا بها.. أما من عداهم؛ فصار إيمانهم بها تقليدا لا رؤية، أو نتيجة تلك الأخبار المتواترة عنهم، لا عن حقيقة عاينوها بأنفسهم.
لذلك كان حديثك عن معجزتك الخالدة الدائمة لكل العصور، وليس عن سائر المعجزات والكرامات والخوارق التي هيأها الله لك كما هيأها لغيرك من الأنبياء، وما ذلك على الله ببعيد..
ولم يكتفوا بذلك ـ سيدي ـ بل راحوا إلى بعض آيات القرآن الكريم يفهمونها على غير المراد منها، ليضربوا بها مئات الأحاديث التي تنقل معجزاتك الحسية..
لقد راحوا يستدلون بقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وراحوا يفهمون من قول الله تعالى:{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } [الأنعام: 57] أن مرادك منها نفي ما طلبوه من معجزات أو خوارق.. والأمر ليس كذلك؛ فهذه الآية تنص على تلك الطلبات الساخرة الكثيرة التي كان المشركون يطالبونك بها بأن يعجل الله عقوبته لهم، لكي يكون ذلك دليلا على نبوتك.
وقد أشار إلى هذا المعنى آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } [النمل: 71، 72]، وقوله:﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 10 – 14] ، وغيرها من الآيات الكريمة التي تذكر طلب المشركين منك تعجيل العذاب.
ولهذا عقب الله تعالى تلك الآية الكريمة بقوله: { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: 58] أي: لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي، لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك.
وقد أشار إلى هذا المعنى آيات أخرى كثيرة، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال: 32، 33]
ولذلك كان من رحمة الله تعالى عدم استجابة الله لهم بتعجيل بعذابهم، وإلا انتفى مقصود رسالتك، وانتهت وظيفتها عند هذا المطلب الذي طلبوه..
وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أنه أتيح لك تحقيق هذا الطلب لكنك ـ سيدي ـ رفضت أن تنفذه رحمة بهم، ففي الحديث الذي ذكرت فيه ما لقيته من أهل الطائف قلت: (فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين([2])، فقلت: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا)([3])
إن الذي يشاغبون في ذلك ـ سيدي ـ يشبهون ذلك المريض الذي يطلب من طبيبه أن يدس له السم، ويقتله، حتى يريحه من العذاب.. لكن الطبيب الرحيم لا يستجيب له، بل يتعامل معه بلطف إلى أن يقدر الله له الشفاء..
وكذلك فعلت سيدي.. فقد كان رفضك لما طلبوه منك رحمة بهم، وحرصا عليهم، لا عجزا، فالله فوض لك أن تنفذ ما طلبوه منك، وأنت ـ برحمتك ورأفتك ـ رفضت.. وقد علم الله منك ذلك.. ولذلك كنت أهلا لأن تكون رحمته للعالمين.
وهكذا راحوا إلى قوله تعالى:﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109] يفهمون منها أنه لم تظهر على يديك أي معجزات حسية، وقد وهموا في ذلك؛ فالآية الكريمة لا تنفي ذلك، وإنما تنفي استجابتك لما اقترحوه من الآيات والمعجزات، ذلك أن من سنة الله تعالى في أقوام الأنبياء أنهم إذا أنكروا المعجزات التي اقترحوها يعذبون بسبب ذلك.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن قريشا كلموك، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة فآتنا من الآيات حتى نصدقك، فقلت لهم: (أي شيء تحبون أن آتيكم به)، قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا، فقلت لهم: (فإن فعلت تصدقوني؟)، قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقمت لتدعو الله بما طلبوه، فجاءك جبريل فقال لك: (ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم)، فقلت حينها: (بل أتركهم حتى يتوب تائبهم)([4])
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]
وقد حصل هذا لغيرك من الأنبياء ـ سيدي ـ فكلهم لم يستجيبوا لكل ما طلبه قومهم من الآيات حرصا عليهم، وقد ورد في الإنجيل: (فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه. فتنهد بروحه وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية. الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية) (مرقس:8/11-12)
وهكذا راحوا إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) } [الإسراء: 90 – 94]
وهي ـ سيدي ـ لا تعني ما فهموه من عدم إتيانك بالآيات مطلقا، وإنما تعني رفض هذه الاقتراحات التي قدموها، لأنها لا تتناسب مع الرسالة، ولا مع مقتضياتها، وهي تدل على أنهم ساخرون في طلباتهم، وإلا فإنه يكفيهم للإيمان مطالب يتحقق بها التأكد من النبوة من غير حاجة لكل هذا.
وقد ذكر المؤرخون والمحدثون الأمثلة على ذلك، ومنها ما روي عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: نعم، فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط على الأرض، فأقبل إليه، وهو يسجد ويرفع ويسجد ويرفع حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال له: (ارجع)، فرجع إلى مكانه، فقال: والله لا أكذبك بشيء تقوله بعد أبدا أشهد أنك رسول الله، وآمن([5]).
ومنها ما روي عن ابن عمر قال: كنا في سفر، فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أين تريد؟)، قال: إلى أهلي، قال: (هل لك في خير؟)، قال: وما هو؟ قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله)، قال: هل لك من شاهد على ما تقول؟ قال: (هذه الشجرة)، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا فقامت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهدها ثلاثا، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن يتبعوني آتك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك([6]).
ومنها ماروي عن بريدة قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله قد أسلمت فأرني شيئا أزداد به يقينا، قال: (ما الذي تريد؟)، قال: ادع تلك الشجرة، فلتأتك، قال: (اذهب فادعها)، فأتاها الأعرابي، فقال: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمالت على جانب من جوانبها، فقطعت عروقها، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقالت: (بم تشهدين، يا شجرة؟)، قالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، قال: (صدقت)، فقال الأعرابي: حسبي حسبي، مرها فلترجع إلى مكانها، فقال: (ارجعي إلى مكانك، وكوني كما كنت)، فرجعت إلى حفرتها، فجلست على عروقها في الحفرة، فوقع كل عرق مكانه الذي كان فيه، ثم التأمت عليها الأرض، فقال الأعرابي: أتأذن لي يا رسول الله أن أقبل رأسك ورجليك، ففعل، ثم قال: أتأذن لي أن أسجد لك؟ فقال: (لا يسجد أحد لأحد)([7])
فهذه الروايات، وغيرها كثير يدل على أنه كان في إمكانك ـ سيدي ـ أن تأتي بالآيات التي طلبوها، والتي لا تتنافى مع الرسالة التي جئت بها.. ذلك أن ما طلبوه من التعجيل بعذابهم لا يفيدهم شيئا، بل هو يتناقض مع ما جئت به من الرحمة واللطف واللين.
وقد ذكر القرآن الكريم ـ سيدي ـ نموذجا من الآيات التي كنت تأتيهم بها، لتثبت لهم صدقك، فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [القمر: 1 – 5]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى تلك المعجزة الثابتة بأدلة لا تكاد تحصى، والتي تواترت الأخبار فيها بأن المشركين سألوك أن تريهم علامة تدل على صدق نبوتك، فأريتهم القمر شقين، وكان ذلك قبل الهجرة بخمس سنوات، ففي الحديث عن ابن عباس وغيره: اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل هشام والعاصي بن وائل والأسود بن حبر يغوث والأسود بن عبد المطلب والنضر بن الحرث ونظراؤهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم آية، وقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اشهدوا)، فنظر الكفار ثم مالوا بأبصارهم فمحوها، ثم أعادوا النظر، فنظروا، ثم مسحوا أعينهم، ثم نظروا فقالوا: سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم لبعض: لئن كان سحرنا، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم، فقد صدق، فكانوا يلتقون الركب، فيخبرونهم، أنهم رأوا مثل ما رأوا، فيكذبونهم([8]).
لقد قرأت هذه الروايات ـ سيدي ـ لأولئك المشاغبين المجادلين، وقرأت لهم معها ما ورد في القرآن الكريم من الدلالة الواضحة عليها، وقلت لهم: تصوروا لو أن ذلك لم يحصل ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ ألم يكن ذلك مدعاة لتكذيبهم، فما أسهل أن يقولوا: (إن محمداً يكذب علينا، فما انشق القمر، ولا رأينا شيئاً من ذلك)
وقلت لهم: ليس بالضرورة أن تشاهد جميع قريش ذلك.. لأن إنكارهم للآية بعد المطالبة بها سيؤدي إلى تعذيبهم كما توعدهم الله تعالى بذلك.. وإنما يكون الذين شاهدوها أولئك النفر المحدودين الذين طالبوا بها.. وقد نزل عليهم العذاب بالفعل، ولو بعد حين.
وقلت لهم، عندما طالبوا بالدليل الحسي من القمر على ذلك: إن كون المعجزة معجزة يدل على تدخل القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء.. فلو شاء الله أن يشق أي شيء لشقه، ثم أعاده إلى خلقته أول مرة، وكأنه لم يحصل له شيء.. فالمطالبة بالدلائل شأن المحجوبين، لا شأن العلماء العارفين بقدرة ربهم المطلقة.
وقد ذكر القرآن الكريم ما هو فوق ذلك مما لا تطيقه العقول، فهل يمكنهم أن يسلموا لذلك، أم يجادلوا فيه.. فقد ذكر الله تعالى انشقاق البحر لموسى عليه السلام، وذكر تحول العصا إلى حية، وذكر إحياء الموتى.. بل ذكر ما فوق ذلك كله من خلق المسيح عليه السلام من الطين كهيئة الطير.
بعد أن حدثتهم بهذا كله، علمت أن السبب في إنكارهم لكل تلك الروايات، وما يدل عليها من القرآن الكريم هو ذلك الإيمان الضعيف الذي جعلهم لا يثقون في قدرة الله المطلقة التي لا يعجزها شيء.. ولو أنهم سلموا لها، لسلموا لك، ولسلموا لكل ما حصل على يديك من الآيات البينات.
لقد قلت لهم ـ سيدي ـ إن كل تلك الآيات البينات لا تتنافى مع كون معجزتك الكبرى هي القرآن الكريم.. فهو الكتاب الذي لا زال إعجازه نراه رأي العين، وفي كل المجالات والتجليات.
لقد راحوا ـ سيدي ـ يجادلون فيه أيضا.. ليسقطوا الكثير من مظاهر إعجازة التي تتجلى في كل العصور.. فهم ينكرون تلك الحقائق العلمية التي لم تكتشف إلا بعد أن بذل البشر كل جهودهم في الوصول إليها.. ليكون ذلك آية للعلماء.. ولأهل هذا الجيل، كما كانت سائر أنواع إعجازه آيات للأدباء والفلاسفة والمفكرين وغيرهم.. فكل يرى من إعجازه ما يتناسب مع تخصصه.
لقد راحوا يجادلون فيه ساخرين من أولئك الذين يبحثون في مطابقة ما ذكره القرآن الكريم مع الحقائق العلمية، والتي قد يخطئون في بعض نواحيها.. لكن خطأهم لا علاقة له بالقرآن الكريم، ذلك أنها اجتهادات مرتبطة بالفهم، لا بحقيقة التنزيل.
لقد ذكرت لهم أن مثل ـ الإعجاز القرآني ـ مثل دولة لها أسلحة متطورة كثيرة لم تكشف عنها لأعدائها، فلم يعرفوا أسرارها، ولا أنواعها، ولا أنواع القوة التي تحملها، فلذا كلما قدم أعداؤها سلاحا، كلما وجدوا عندها من الأسلحة ما يفوق ذلك السلاح.
ثم سألتهم: أذلك خير أم دولة ليس لها من السلاح إلا ما تسلح به سلفها، وليس لها من القوة إلا ما ورثته، فأيهما أقوى قوة؟
وقلت لهم: لا شك أن الدولة الأولى هي الأقوى.. وهي تشبه القرآن الكريم، فمن من يقول بإطلاق إعجازه يجعله كنزا من كنوز العجائب والمعجزات، ومن يقول بمحدوديته لا يراه إلا كما يراه ذلك البدوي البسيط .. يراه من خلاله عنزاته وناقته وخيمته.
ثم ذكرت لهم أن هذا ليس كلامي وإنما القرآن الكريم هو الذي ذكر ذلك؛ فهو الذي وعد البشرية بأنه سيريها في مستقبل أيامها من الآيات في الآفاق والأنفس ما يرون به الحقائق رأي العين ..
وتلوت على أسماعهم تلك الآيتين الكريمتين اللتين تتنبآن بهذه الحقيقة العظيمة، قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 52، 53]
وقلت لهم: إن هذه الآيات الكريمة لا تتحدث فقط عن معجزات الآفاق والأنفس الدالة على الله، بل هي تتحدث أيضا ـ بحسب ما يدل السياق ـ على معجزات الله في الآفاق والأنفس الدالة على القرآن الكريم، وعلى صدقك.
وذكرت لهم أن تلك الآيات ليست وحدها ما يعد البشرية بفيض المعجزات التي يختزنها القرآن الكريم، بل نجد هذا واضحا في قوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} [ص: 87، 88]، وهي واضحة في أن حقائق القرآن الكريم ستتجلى في كل العصور، بما يكفي للدلالة على كونه من عند الله، وكونك نبي الله، وقد قال بعض المفسرين القدامى في ذلك: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين، من غير حد منه لذلك الحين بحد، ولا حد عند العرب للحين لا يجاوز ولا يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت)([9])
وقال آخر: (ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه، وفي بلاغته، وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار، إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون؛ يدل على صحة دعواه … فعم نفعه من حضر، ومن غاب، ومن وجد، ومن سيوجد)([10])
لكنهم سيدي أبوا إلا أن يحصروا القرآن الكريم في مجالات محدودة، ويسخروا من كل من يبحث في طلاقة إعجازه بما آتاه الله من علم.. مع أن ذلك كان سببا في هدايات عظيمة تحققت لمن آمن بذلك، واهتدى به.
فيا سيدي يا رسول الله.. يا من آتاك الله المعجزات الباهرات الواضحات التي لا ينكرها إلا المكابرون الجاحدون أسألك وأتوسل بك إلى الله أن تكون أنت معجزتي الكبرى التي لا أحتاج معها إلى أي معجزة.. فأنت كلك معجزة.. ولو أنهم اكتفوا بك، لوصلوا إلى اليقين الذي يقطع كل شك، والعلم الذي ينفي كل وهم.
وأسألك سيدي وأتوسل بك إلى الله أن يجعل إيماني إيمان
الموقنين الذين يثقون في قدرة ربهم المطلقة؛ فلذلك لا ينكرون شيئا من مظاهر قدرته،
بل يرون كل شيء منه وبه وله، ولذلك يسلمون لله في كل شيء، فكل شيء آية باهرة، ومعجزة
خارقة.
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا.
([3]) رواه البخاري ومسلم.
([4]) سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي (ص: 274)
([5]) رواه البخاري في التاريخ والترمذي وصححه وأبو يعلى وابن حبان.
([6]) رواه الدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه وقال الذهبي إسناده جيد.
([7]) رواه البزار وأبو نعيم.
([8]) قال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كبيرة من الصحابة ، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجَمُّ الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، راجع هذه الأحاديث ( فتح الباري 6/631 باب 27 من كتاب المناقب حديث 3636 ، 3637 ، 3638 ، و 7/182 باب 36 من كتاب مناقب الأنصار حديث 3868، 3869 ، 3870 و 3871 و 8/ 617 باب 1 من كتاب التفسير حديث رقم 4864 ، 65، 66 ، 67 ، 68 وصحيح مسلم 17/143-145 في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، وسنن الترمذي 9/30 في أبواب الفتن ، ودلائل النبوة للأصبهاني 1/367 حديث 207-212 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2/262 و وحدائق الأنوار للشيباني والسيرة النبوية للذهبي والبداية والنهاية والشفا ، والوفا. وغيره الكثير.
([9]) تفسير الطبري (21/ 244)
([10]) فتح الباري لابن حجر: 9/ 7.