رسول العالَمين

رسول العالَمين

سيدي يا رسول الله.. أيها المبعوث رحمة للعالمين.. يا من جعله الله الوسيلة لتحقيق كل غايات الوجود الإنساني.. فكنت السبيل الوحيد للانتصار على جميع الشياطين.. حتى يظهر بك الحق على الباطل.. وينتصر بك النور على الظلمات.. ويظهر دينك على الدين كله.. وبك تتحقق جميع أحلام الأنبياء والشهداء والأولياء..

لقد ذكر الله تعالى عالمية رسالتك، وأنك كنت المدخر للبشر، لتكون خاتمة عقد النبوة، فلا نبي بعدك، وكل من ادعى النبوة بعدك كذاب، وكل من اتبع غيرك ـ بعد علمه بك ـ كافر وضال.. فلا يقبل الله بأن يؤتى من غير بابك.

وكيف يقبل الله ممن سمع بك، ثم أعرض عنك، وقد أخذ ربك الميثاق على أنبيائه بلزوم اتباعك في حال كان زمنهم مطابقا لزمانك، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81، 82]

وقد قال الإمام علي في بيانها وتفسيرها: (ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه)([1]

وقد ذكرت سيدي ذلك، وحذرت من الدجالين الذين قد يغرون الناس على أنفسهم، ويوهموهم بجواز اتباع غيرك.. لقد قلت في ذلك: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجلٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي، إلا كان من أهل النار)([2]

وفي حديث آخر، قلت: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي).. ثم ذكرت منها: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)([3]

وفي الحديث الصحيح المعروف أن بعض أصحابك أتاك بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه، فغضبت غضبا شديدا، ثم قلت: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)([4])، فكيف يطالب الأنبياء عليهم السلام بوجوب اتباعك، ثم لا تؤمر أممهم بذلك؟

وما لنا نعود إلى الأحاديث التي نراهم يسارعون إلى تكذيبها من غير مبرر إلا الأهواء المجردة، ونترك القرآن الكريم الذي صرح بذلك، وفي مواضع كثيرة، فالله تعالى أخبر أن رسالتك إلى كافة الناس بخلاف رسائل سائر الرسل، والتي ذكر أنها لأقوامهم خاصة.. ولو أنهم قرؤوها وتدبروها لعادوا إلى رشدهم، وكفوا عن غيرهم، وتضليلهم للخلق.

لقد قال الله تعالى ينص على عالمية رسالتك التي تقتضي وجوب اتباعك وطاعتك في كل ما جئت به: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾ [سبأ: 28]، وكونك بشيرا ونذيرا لكل الخلق يدل على أن كل البشارات أو الإنذارات التي نطقت بها، أو نطق به القرآن الكريم، وفي آحاد الأعمال تنطبق على الخلق جميعا، وليس على الأمة التي حظيت باتباعك.. فالكل مسؤول عن اتباعك.

والله تعالى يدعوك لأن تخبر الناس جميعا، بأنهم مكلفون باتباعك، وأنه لا مناص لهم من ذلك، حتى لو بعث أنبياء الديانات التي ينتمون إليها؛ فإنهم لا يجوز لهم اتباعهم، بل عليهم اتباعك، لقد قال الله تعالى يدعوك لذكر ذلك لهم: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (لأعراف:158)

فالآية الكريمة لا تأمرهم بمجرد الإيمان بك، وإنما تضيف إليه وجوب اتباعك، مع أن مجرد الإيمان بك كاف في وجوب اتباعك؛ فيستحيل على من يعلم أنك رسول الله، وأن الشريعة التي جئت بها هي شريعة الله المعبرة عن مراضيه أن يتركها لغيرها من الشرائع التي شهد القرآن الكريم بتحريفها وتبديلها.

وهكذا نجد الآيات الكثيرة المخبرة عن كونك رسولا ورحمة للعالمين، قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ (الفرقان:1)، وقال: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 90)، وقال: ﴿ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (القلم:52)، وقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]

وغيرها من الآيات الكريمة التي لا يفهم منها إلا كون رسالتك شاملة للعالمين جميعا..  وفي كل الأجيال.. ولكل البشر.. ولأصحاب كل الأديان.. ولا عذر لأحدهم بعدم اتباعك بعد سماعه بك، واطلاعه على ما جئت به.

سيدي يا رسول الله .. يا رحمة الله للعالمين.. لقد ترك أولئك الدجالون المشاغبون كل هذه النصوص الصريحة الواضحة، وراحوا يتعلقون بالمتشابهات من النصوص، والتي دل القرآن الكريم نفسه على معانيها..

لقد فعلوا مثلما فعل المجسمة وغيرهم الذين تعلقوا بنصوص متشابهة تحتمل معاني متعدد، وراحوا يفرضون عليها المعنى الذي يريدون، من دون أن يحاولوا الجمع بين النصوص كما هو الأصل في التعامل مع النصوص المقدسة عند التعارض.

ومن تلك النصوص التي راحوا يستدلون بها ما ورد في القرآن الكريم من دعوة أهل الكتاب لإقامة التوراة والإنجيل، كقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [المائدة: 68]، وقد توهموا أن هذه الآية الكريمة تدعو أهل الكتاب للعمل بكتبهم، وعدم العودة للقرآن الكريم، الذي جعله الله مهيمنا على كل الكتب.

وقد غفلوا عن أن تلك الآية الكريمة قد عقبت مباشرة بما يزيل الفهم السيء الذي قد يفهم منها؛ فالله تعالى عقبها بقوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 68]، حيث اعتبرهم كافرين لإعراضهم عما أنزل من القرآن الكريم.

وبذلك فإن الذي يقيم التوراة والإنجيل مضطر معهما لإقامة القرآن الكريم، حتى لا يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 85]

فإذا فعلوا ذلك، وأقاموا القرآن الكريم نتيجة إيمانهم به مثل إيمانهم بكتبهم، ونتيجة إيمانهم بك، ذلك أنه لا يمكن الإيمان بك دون الإيمان بما أنزل عليه.. حينها يصبح الإيمان المجرد عن الاتباع لغوا، وهو ما ينقض كل الأصول التي اعتمدوا عليها.

ولو أنهم ـ سيدي ـ تركوا كبرياءهم وغرورهم ـ وعادوا إلى القرآن الكريم الذي يتوهمون أنهم يستندون إليه في دعواهم، وسألوه عن نوع الإقامة التي طلبها الله تعالى منهم، لعلموا أنها ما ورد في كتبهم من تلك الوصايا التي أمر بها القرآن الكريم، والتي لا يمكن تنفيذها إلا بتلك الشرائع التي جئت بها.

ولو أنهم رجعوا لكتبهم، وكانوا صادقين في رجوعهم، لعلموا أنه لا يمكن إقامة كتبهم من دون اتباعك؛ فأول ما يجدونه فيها تلك البشارات التي امتلأت بها، والتي تدعو إلى وجوب اتباعك، وهي كثيرة جدا، وقد أشار إليها القرآن الكريم في مواضع منه، كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]

بل أخبر القرآن الكريم أنه قد ورد في الكتاب المقدس من التفاصيل المرتبطة بك ما يجعلهم موقنين بك، غير شاكين فيك، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]

ولو أن أولئك المجادلين المشاغبين الذين توهموا أنه يمكن إقامة الدين من دون اتباعك، رجعوا إلى القرآن الكريم، واستمعوا بوعي لما ورد فيه من الإخبار عن التحريفات التي حصلت في كتب جميع الأديان، وأن أهل الكتاب كانوا يشترون بتحريفها ثمنا قليلا، لعلموا أنه لا يمكن أن يأمر الله باتباع كتب محرفة.. فهل يعقل أن يأمر الله تعالى أهل الكتاب بأن يقيموا ما حرف من كتابهم، قال تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]

ولو أن أولئك المجادلين المشاغبين كلفوا أنفسهم بالعودة إلى تلك الكتب التي يدّعون أنه يمكن لأهل الكتاب أن يكتفوا بها عن اتباعك، لرأوا فيها من الطامات والخرافات والخزعبلات والأساطير ما يتنافى مع دين الله.. فهل يمكن أن يطالبوا بالإيمان بكل ذلك؟.. هل يمكن أن نعتبر تلك الكتب بعد ذلك، ثم نطلب من أهل الكتاب إقامتها، وأن يضيفوا إليها فقط الاعتراف بكونك مجرد رسول لا يجب اتباعه؟

إن هؤلاء سيدي لم يفهموا الغرض من تلك الآيات الكريمة، لأنهم حكموا أهواءهم فيها.. ولو أنهم عادوا للراسخين في العلم الذين يحكمون المحكم على المتشابه لعلموا أن المراد منها غير ما فهموه.

فالله تعالى في تلك الآية الكريمة يدعو أهل الكتاب للعودة لكتابهم ليتمثلوا القيم النبيلة الموجودة فيه، ويتمثلوا ما ورد فيه من أوامر باتباعك.. وهي لا تعني بذلك اكتفاؤهم بما فيها عن اتباعك.

بل إن مثل ذلك مثل من يخاطب سياسيا يراه قد انحرف عن مشروعه الذي طرحه، بالعودة إلى مشروعه، والعمل بما فيه، مما كان قد وعد به، وذلك لا يعني أن مشروعه معصوم، أو أنه كاف، وإنما هو نوع من التنزل في مخاطبة الآخر، كما قال تعالى في مخاطبة المشركين: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: 25]، فهل يمكن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على أن المسلمين كانوا مجرمين؟

ومثل ذلك تنزل إبراهيم عليه السلام مع الملك، عندما قال له {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، فجادله الملك، وقال: { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، حينها لم يشأ إبراهيم عليه السلام أن يناقشه في ذلك، وإنما انتقل به لدليل آخر.. وهو لا يعني إقراره بأن الملك يحيي ويميت.

وهكذا نجدهم يستدلون بما ورد في القرآن الكريم من النصوص الدالة على نجاة غير المسلمين، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [المائدة: 69]

مع أن هذه الآيات الكريمة لا يمكن فهمها إلا في ضوء النصوص الأخرى الكثيرة الدالة على كفر من أشرك بالله من اليهود والنصارى كقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 17]، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 73]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تنص على كفر من أشرك بالله تعالى، أو لم يتبعك أو كذبك.

ولو أنهم آمنوا بهذه الآيات جميعا، لعلموا أن القرآن الكريم لا يتحدث عمن رأوك وعاصروك وسمعوا بك أو جاءوا من بعدك،  فأولئك يجب عليهم الإيمان بك واتباعك، وإنما يتحدث عمن لم يتشرفوا برؤيتك، أو لم يسمعوا بك لأسباب زمانية أو مكانية خارجة عن قدراتهم.

أما الزمانية؛ فلكونهم في أزمنة سبقت الإسلام، ولم يعرفوا دينا إلا تلك الديانات، فهم غير مكلفين إلا بها.. وأما المكانية؛ فهو كونهم في أقصى الأرض، ولم يتهيأ لهم أن يسمعوا بالإسلام، فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك.

ولو أنهم تواضعوا، ورجعوا إلى الأسلوب القرآني في التعبير، لوجدوا الله تعالى يقول عند حديثه عن بني إسرائيل: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]، فهذه الآية الكريمة لا تقصد وجودهم في كل الأزمنة، وإنما تقصد وجودهم في الأزمنة السابقة قبل رسالتك، لأنه بعد إرسال الله لك صار على الجميع وجوب اتباعك.

ولو أن هؤلاء المجادلين استمعوا بوعي وتدبر لما ورد في القرآن الكريم في نصارى نجران المسالمين الذي تعاملت معهم بكل سماحة ولطف، ولكنك مع ذلك لم تسكت عن كفرهم وجحودهم عن اتباعك، بل دعوتهم إلى المباهلة، التي نص عليها قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]

وقد ورد في تلك الآيات التي تخاطبهم قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: 70]، وقوله لهم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 71]

وهكذا ورد في القرآن الكريم الآيات الكثيرة التي تخبر عن الموقف الحقيقي من أهل الكتاب، وهو الموقف الذي يبين ضلالهم عن الحق، وكفرهم بسبب عدم اتباعهم لك، في نفس الوقت الذي تأمر فيه بالسماحة معهم، وتأليف قلوبهم..

ولا تعارض بين الأمرين، فالقول بكفرهم وجحودهم للحق، لا يقتضي المعاملة السيئة لهم؛ فقد تعاملت مع وفد نجران بكل سماحة وأدب، ولكنك مع ذلك لم تداهنهم ولم تجاملهم، ولم تنزل إلى رغباتهم، بل بينت لهم حقيقة ضلالهم، ودعوتهم إلى المباهلة عند جحودهم لها.

ولو أن هؤلاء المشاغبين والمجادلين والمنفرين من اتباعك، رجعوا إلى الكتب التي يصورون أنها تعوض القرآن، والأنبياء الذين يتوهمون أنهم يعوضونك، لوجدوا غير ما كانوا يظنون..

ذلك أن كل البشارات التي تبشر بك في تلك الكتب تخبر أن رسالتك للعالمين، وأن على اليهود والنصارى وغيرهم وجوب اتباعك، ذلك أن كل الشرائع تنسخ بشريعتك، وقد ورد في إنجيل متى [5/17-18] قول المسيح عليه السلام: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل)، فهذا المبشر به هو الكل الذي له الكل، وهو أنت يا سيدي يا رسول الله.

لقد قال هذا في نفس الوقت الذي قال فيه عن نفسه كما جاء في إنجيل متى [15 / 24]: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)؟

ولهذا جاء اليهود إلى المدينة المنورة، لأنهم كانوا يترقبون مجيئك إليها بحسب ما تدل عليه كتبهم، والتي تأمرهم بوجوب اتباعك، كما قال تعالى مخبرا عن ذلك: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة:89)

فهذه الآية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيئك بالقرآن الكريم يستنصرون بمجيئك على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الاية السابقة ـ كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: (إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم)، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به.. فذلك قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾(النساء: 155)

وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا: (يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته)، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: (ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم:﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:89)([5]

فيا سيدي يا رسول الله .. يا رحمة الله للعالمين.. ويا وسيلته العظمى.. أتوسل بك إلى ربي أن يوفقني لأن أبلغ دينك للعالمين.. فلو سمعوا به، وعرفوا حقيقته الجميلة، وقيمه النبيلة، لتهافتوا عليه، ولدخلوا فيه أفواجا.. وهل يمكن أن  تقارن تلك الديانات المحرفة الممتلئة بالخرفات بدينك الممتلئ بالطهارة والعقلانية والأخلاق العالية والقيم الرفيعة.

واقبلني سيدي في جملة أتباعك الصادقين المخلصين الذين لم يخلطوا دينك بأي هوى أو فلسفة أو هرطقة أو زندقة.. حتى يكون ديني هو دينك، أبيض نقيا صافيا كما أنزله عليك ربك.. إنك أنت الوسيلة العظمى.. وأنت رحمة الله للعالمين.


([1])  تفسير ابن جرير الطبري (2/ 236) ، وتفسير ابن كثير (1/ 386) ، وتفسير البغوي (1/ 322)

([2])  رواه مسلم: ج ١، ص 134، ح 240.

([3])  رواه البخاري 1 / 369 و 370 ، ومسلم رقم (521)

([4])  رواه أحمد (3/387).

([5]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/547) وتفسير الطبري (2/233).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *