خاتم النبيين

خاتم النبيين

سيدي يا رسول الله.. يا من جعلك الله الخاتم الذي تنتهي به النبوة، والكمال الذي تنتهي إليه مسيرة شرائعها.. فجعل دينك مهيمنا على الأديان، وكتابك مصححا لما انحرف من الكتب، وشريعتك ناسخة للشرائع، وهديك موضحا للسراط المستقيم الذي تفرقت به الأهواء.. فمن اقتبس الدين منك اهتدى، ومن مال لغيرك ضل..

سيدي لقد دلت كل الدلائل القطعية على خاتميتك للنبوة، ونصت عليها كل البشارات التي بشرت بها الأنبياء؛ فكلها اتفقت على أنك الخاتم، وأنك الخلاصة، وأن كل من ادعى النبوة بعدك ضل.. ولم يجادل في ذلك إلا أولئك الذين حسدوك، وتوهموا أن ختمك للنبوة يحول بينهم وبين المناصب الإلهية التي يمنون نفوسهم الأمارة بها.

ولو أنهم سيدي سلموا لله تعالى الخلق والاختيار.. لعلموا أن الله تعالى ابتلاهم بك، كما ابتلى من أمرهم بالسجود لآدم.. أما الملائكة الطاهرون، أصحاب المناصب الرفيعة، فسلموا.. وأما الشيطان ذلك الذي لم يعرف أسرار الاختيار الإلهي؛ فراح يجادل فيه.

وكذلك حصل لمن راح يجادل في ختمك للأنبياء، وخاتميتك للنبوة، فقد توهموا أنك سددت أبواب الكمال عنهم، ولم يعلموا أنك فتحتها لهم، وأنه ليس على من يريد أن يلج باب أي منصب إلهي، أو يرقى سلم أي كمال إلا أن يتبعك، ويسير على سراطك المستقيم، ويحتذي حذو سنتك الشريفة.

هم لم يعلموا ـ سيدي ـ أن البشر بعد أن جئتهم استغنوا بك عن أن يتنزل إليهم الأنبياء، مثلما يستغني المريض الذي يجد الطبيب الذي يعالج كل أدوائه، ويشفي كل أسقامه..

أو مثلما يكتفي التلميذ بالأستاذ الذي يشرح له كل دروسه، أو يوضح له كل ما يريده من حقائق، ويربيه على كل ما يصلح من قيم.

هم لم يعلموا ـ سيدي ـ أن لكل شيء نهاية ينتهي إليها.. وأن النبوة مثل سائر الأشياء.. قد انتهت بك إلى الكمال الذي لا كمال بعده.. ولذلك جعلك الله النهر الذي تجتمع عنده كل الروافد.. فمن شرب منه شرب منها جميعا، ومن سبح فيه سبح فيها جميعا.

ولو أنهم ـ سيدي ـ تأملوا قولك: (مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لَبنة لم يَضَعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تمَّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة)([1]) لعلموا أن الله تعالى هو الذي تولى بناء دار النبوة، وهو أعلم بمواضع كل لبنة من لبناتها.. وكما أن الدار إذا اكتملت لا تحتاج إلى المزيد من اللبنات؛ فكذلك النبوة.

فالنبوة منصب إلهي دعت إليه حاجة الخلق إلى هداية التشريع.. فإذا بلغت هداية التشريع إلى أجمل صورها، وأكملها، وحفظت بكل أساليب الحفظ ووسائله.. لم يكن هناك حاجة إليها.. بل إن رحمة الله في عدم حاجتهم إليها.. لأن الأمر قد استقر حينها على الشريعة التي تصلح للخلق جميعا.

إن الأمر في ذلك ـ سيدي ـ يشبه ذلك المريض الذي يسعى للأطباء.. وهو يتمنى من كل قلبه أن يجد الطبيب الذي يكفيه كل أدوائه، ويعالج كل ما نزل به.. وحين يجده، سيمتلئ فرحا، وسيكتفي به، لأنه يعلم أنه لن يحتاج إلى التعب في البحث عن طبيب جديد، ولن يبتلى في طريق البحث بالدجالين والكذابين والمدعين.

لقد كنت تذكر ذلك سيدي كل حين، وتربطه بالدجالين الذين يدّعون النبوة، أو يدّعون وظائفها؛ فيحسبون أن لهم الحق في تحليل ما حرمت، أو تحريم ما أحللت، أو تعديل ما شرعت.. من غير أن يسموا أنفسهم أنبياء.. وإن كانو يزعمون لأنفسهم نفس أفعال الأنبياء.

لقد ذكرت هؤلاء، فقلت: (لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى يعبدوا الأوثان، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي)([2])

وروي عنك في حديث آخر قولك: (في أمتي كذابون و دجالون، سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة، و إني خاتم النبيين، لانبي بعدي)([3])

صدقت ـ يا سيدي يا رسول الله ـ فقد رأينا بأعيننا أمثال هؤلاء الدجالين الذين يتوهمون أنهم يستدركون على ما جئت به.. بل رأينا من يسخر بمن يلتزم بما نص عليه ظاهر الكتاب الذي أنزل عليك، والبيان الذي كلفت بتبليغه.. ويعتقد أن ذلك الالتزام نصيب العوام.. لا الخواص.. وأن الكمال في تلك الفهوم الجديدة التي تُبدل بها الحقائق، ويُعبث فيها بالقيم.

ولو سلموا لك، وعلموا أنك الخاتم، وأن شريعتك لا تنقض أبدا، وأن الزمان لا يزيد حقائقها إلا جلاء ووضوحا.. لهداهم الله إلى تلك الأسرار التي تنطوي عليها، والكمال الذي توصل إليه.

لقد غفلوا عن ذلك ـ سيدي ـ وراحوا يتوهمون أن أولئك الدجالين الذي ارتقوا تلك المناصب الرفيعة.. هم الأولى بالاتباع، وهم الأحق بالانتساب إليهم.

لقد رأيت بعضهم يخالف هديا من هديك.. فرحت أعرض عليه قولك، وأدعمه بما ورد في كتاب الله مما يدل عليه.. فراح يقول لي: لكن شيخي وأستاذي يرفض هذا، وأنا لا أسلم إلا بما يقوله شيخي وأستاذي.

هل رأيت سيدي كيف استبدلوك بغيرك.. وكيف وضعوا الحجب بينهم وبينك.. وكيف وضعوا لأنفسهم شريعة جديدة هي أبعد الشرائع عن شريعتك.

لقد رأيت بعضهم يفتي بحرق الكنائس وإيذاء أهلها.. فذكرت له سماحتك ولطفك مع المخالفين لك في الدين، وقرأت له قوله تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]

وذكرت له كيفية تعاملك مع وفد نجران.. وكيف أذنت لهم في الصلاة في مسجدك.. فغضب غضبا شديدا، وقال: (أأنت أعلم بالسنة من شيخي الذي كتب رسالة في هذا.).. ثم راح يسرد لي أقوال من يراهم علماء، وهم ليسوا سوى مناوئين للهدي الذي جئت به، والسماحة التي وصفت بها شريعتك.

لم يكن الأمر قاصرا على هؤلاء سيدي، وليته كان قاصرا عليهم.. بل إن الكثير استبدلوا النسبة لك بالنسبة لمشايخهم.. فصرت لا تكاد تُذكر بينهم.. ولو أنهم اكتفوا بنسبتهم لك، وانتماءهم لدينك، لتوحدت صفوفهم، واجتمعت كلمتهم.. وعلموا أنهم حتى لو اختلفوا فأنت تجمعهم.. ولو تفرقت بهم بعض السبل، فأنت الملاذ الذي يحتمون به من أوزار الفرقة والخلاف والشقاق.

ولم يكن الأمر قاصرا على هؤلاء أيضا سيدي.. بل ظهر من يجادل في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب: 40]، ويؤوله بما شاء له هواه.. ابتغاء أن يلغي خاتميتك، حتى أن بعضهم راح يصور لأتباعه أنك الخاتم الذي يوضع في الأصبع، أو الخاتم الذي توقع به التواقيع.. لا ما أراده الله من كونك النبي الذي تنتهي به الأنبياء، فلا شريعة بعد شريعتك، ولا نبوة بعد نبوتك.

ولو أن هؤلاء رجعوا لتلك النصوص الكثيرة التي تذكر هذا المعنى، وتحذر من كل دعوى ترتبط به، لعادوا إلى وعيهم، وساروا خلفك.. فالله ابتلاهم بك، بل شرفهم بك.. لكنهم أبوا التشريف.

لقد ورد في الحديث عنك أنك خرجت يوما على أصحابك كالمودع، وأنت تقول: (أنا محمد النبي الأمي ـ ثلاث مرات ـ ولا نبي بعدي؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه)([4])

بل إنك قلت لتلميذك الأكبر، الإمام علي، بعد أن أشدت به، وبينت فضله ومكانته، وأنه السراط المستقيم الذي لا يزيغ ولا يزل عن هديك: (أما ترضى يا علي أن أكون أخاك؟.. أنت أخي في الدنيا والآخرة)([5]) .. ثم قلت له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)([6])

فإن كانت هذه هي المرتبة التي وصل إليها الإمام علي، وهو أشرف هذه الأمة، وأكرمها على الله.. وهو الذي تمثلت فيه كل القيم النبوية.. فكيف يدعي النبوة غيره، أو كيف يتوهم أحد من الناس أنه يمكن أن يستدرك على النبوة، وهو لم يبلغ جزءا بسيطا من مرتبة ذلك التلميذ الأكبر للنبوة، والذي كان يقول لمن سأله: (يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟)، فقال له الإمام علي: (ويلك، إنما أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([7])

سيدي يا رسول الله .. يا وسيلة الله العظمى.. أتوسل بك إلى الله أن يحفظني من كل أولئك الدجالين الذين يريدون إبعادي عنك.. أو الانضمام للواء غير لوائك.. أو الفرح بنسبة غير الانتساب إليك.

فاجعلني من شيعتك وأنصارك والمتبعين لسنتك وهديك .. حتى لا تضل بي الأهواء، ولا تختلف علي الطرق.

وأسألك سيدي، وأتوسل بك إلى الله أن أحفظ وصاياك، وأركب السفينة النجاة التي أمرتنا بركوبها.. فمن لم يركبها غرق في طوفان الفتن، واستهواه أصحاب الرايات، وابتعد عن رايتك، ومن لم يتشرف بالدخول تحت لوائك لم يتشرف الشرب من حوضك.. فنستعيذ بالله متوسلين بك من ذلك.. إنك أنت صاحب الوسيلة العظمى والمقام المحمود.


([1])  رواه أحمد (21281)

([2])  رواه الترمذي 2219، وأبي داود 4252.

([3])  رواه أحمد 22849..

([4])  رواه أحمد (11/ 180)

([5])  المستدرك للحاكم 3/ 14، سنن الترمذي (6/ 80)

([6])  ابن أبي شيبة 12/60 و14/545، والبخاري (4416) ، ومسلم (2404) (31) ، والبزار (1170) ، والنسائي في الكبرى (8141) ، والخصائص (56)

([7])  التوحيد: 174/ 3.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *