الحكيم البليغ

الحكيم البليغ
الحكيم البليغ
سيدي يا رسول الله.. يا من آتاه الله فصاحة اللسان، وبلاغة البيان، واختصر له الكلام اختصارا.. فصارت كلماته دررا، يحفظها الحكماء، ويتتلمذ عليها العقلاء، ويجتنون من أطايبها كل فنون الحكمة.. فأنت سيد الحكماء، وأنت معلمهم وأستاذهم ومربيهم.
وكيف لا تكون كذلك ـ سيدي ـ وقد أخبر الله تعالى أن من فضائله عليك تعليمك الحكمة، من غير أستاذ تفد عليه، ولا معلم تتذلل بين يديه.. بل كان الله هو معلمك الذي أغناك عن كل معلم، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } [النساء: 113]
وكيف لا تكون كذلك ـ سيدي ـ وقد أخبر الله تعالى أن من أوتي الحكمة أوتي خيرا كثيرا، وهل هناك من أوتي الخير الكثير مثلك، قال تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [البقرة: 269]
وكيف لا تكون كذلك ـ سيدي ـ وأنت الذي أمرت بالدعوة إلى الله بالحكمة، وهل يمكن أن يأمرك الله بأمر ليس في طاقتك، قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل: 125]
وكيف لا تكون كذلك ـ سيدي ـ وأنت الذي ذكر الله من وظائفك تعليم الحكمة، فأنت لست حكيما فقط، وإنما معلم الحكماء، قال تعالى ذاكرا دعاء جدك إبراهيم عليه السلام:{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]
ولهذا، فإنك سيدي ـ كما ذكرت عن نفسك ـ مدينة الحكمة، وأميرها، ومعلمها، وأستاذها، ومن شاء أن يلقن الحكمة، فإنه لا يمكن أن يجدها في غير مدينتك ولا مدرستك، لقد قلت في ذلك: (أنا مدينة الحكمة، وعلي بابها، فمن أرادها آتاها من بابها)([1])
ولذلك كانت كلمات الإمام علي ـ لطول صحبته لك، وتلمذته على يديك ـ من أفضل مصادر الحكمة، وأوثقها، وأجملها.. وعندما تعجب بعضهم من كلامه، وقال له: (يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟)، فقال له الإمام علي: (ويلك، إنما أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([2])
لقد رجعت ـ سيدي ـ إلى كلماتك التي لم يؤثر فيها تدليس المدلسين، ولا عبث العابثين.. تلك التي تنورت بنور القرآن.. وحفظت كما حفظ الذكر الحكيم.. ولم تمتد إليها يد اللصوص والأمراء.. فوجدتها ممتلئة بالحكمة.. كافية لأن تكون زادا للعقلاء لينهلوا منها كل ما يفيدهم في دنياهم وأخراهم، فالكلمة الواحدة من كلماتك، تغني من تدبرها عن الأسفار الكثيرة.
وكيف لا تكون كذلك سيدي، وقد قلت عن نفسك، وما وهبك الله من القدرة على التعبير عن الحقائق، وفي أخصر عبارة: (أعطيت جوامع الكلم واختصر لى الكلام اختصارا) ([3])
لا أزال أحفظ سيدي من كلماتك تلك التي اختصرت فيها أسباب هلاك المجتمعات وانحرافها وتسلط المستبدين عليها، حيث قلت: (يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ باللّه أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ، حتّى يعلنوا بها إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلّا أخذوا بالسّنين وشدّة المؤونة، وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد اللّه وعهد رسوله، إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب اللّه، ويتخيّروا ممّا أنزل اللّه، إلّا جعل اللّه بأسهم بينهم)([4])
لقد رحت أتأمل هذه الكلمات الخمس، فوجدتها الترياق الذي يعالج كل المصائب والمشاكل التي وقع فيها البشر.. ولو عملوا بها، لصلحت أحوالهم جميعا.. لكنهم يعرضون عنها، ليذهبوا لأولئك الذين يضلونهم باسم الحكمة والعلم والدراسات العلمية.
وهكذا وجدت الكثير من درر الحكمة الواردة عنك، والتي ترتبط بسنن الله في المجتمعات، والتي تجعل المتأمل لها، المتدبر في معانيها، عالما من علماء الاجتماع الحقيقي لا المزيف، ذلك الذي اختلط فيه الحق بالباطل، والعلم بالأهواء.
ومن أمثلة ذلك سيدي تلك الحكمة العظيمة التي تبين فيها سبب هلاك المجتمعات، فقد قلت: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)([5])، ثم فسرت ذلك في حديث آخر، فقلت: (إياك والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)([6])
فلو أن البشر جميعا التزموا بهذه الحكمة، وساروا على منهاجها، لما حصل الاستعمار والاستبداد والاستغلال والظلم؛ فكل ذلك نتيجة البخل الذي امتلأت به تلك النفوس التي لا تشبع، والتي راحت تسرق خبز غيرها، وتقهرهم، وتسخرهم لمصالحها.
ولو أن الخلق التزموا بتلك الحكم العظيمة التي تأمر فيها بالتحكم في اللسان، وعدم إتاحة الفرصة له ليعبر عما يريد من غير ضوابط تحكمه، لوقوا أنفسهم من فتن كثيرة، ومفساد لا نهاية لها.. فقد كنت تردد كل حين، وعلى مسمع كل الأجيال قائلا: (الصمت حكم وقليل فاعله)([7]).. (الصمت زين للعالم وستر للجاهل)([8]).. (الصمت سيد الأخلاق، ومن مزح استخف به) ([9]).. (قولوا خيرا تغنموا، واسكتوا عن شر تسلموا)([10]).. (من صمت نجا)([11]).. (رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت طريقته)([12]).. (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر كذبه، ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)([13]).. (من كف لسانه عن اعراض المسلمين أقال الله عثرته يوم القيامة)([14]).. (لا تدخل حلاوة الايمان قلب امرئ حتى يترك بعض الحديث خوف الكذب وإن كان صادقا، ويترك المراء وإن كان محقا)([15]).. (لا تقل بلسانك إلا معروفا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير)([16]).. (كلّ كلام ابن آدم عليه لا له إلّا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر اللّه)([17]).. (لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة للقلب، وإنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي)([18]).. (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)([19]).. (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنّة)([20]).. وغيرها من الحكم الكثيرة التي تحفظ من يلتزم بها من كل المصائب التي يجلبها له لسانه، كما تلقنه كل الثمار الطيبة للسان الذي التزم عبودية ربه، فلم ينطق إلا بما يرضيه.
وهكذا نجد ـ سيدي ـ درر حكمك في كل المجالات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية .. وكل ما يخطر بالبال، وما لا يخطر بالبال.. ومن اكتفى بها وقي من كل تلك التلبيسات التي ينصح بها من لا يعرفون حقيقة الإنسان، ولا روحه، ولا نفسه، ولا مصيره.. فينصحونه باقتحام الحياة بكل جرأة متخليا عن كل القيم.. لكنك سيدي تهدم كل ذلك بتلك المبادئ الأخلاقية العظيمة التي أسست لها، والتي تقوم على الحياء، ورعاية مشاعر الآخرين.. لقد قلت في ذلك: (استحيوا من اللّه حقّ الحياء)([21]) ، ثم فسرت ذلك بقولك: (الاستحياء من اللّه حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء)
وهكذا كانت حكمك تحض على الكرم، والترفع، وتنهى عن الأنانية وكل ما يرتبط بها، فقد كنت تقول: (إنّ اللّه كريم يحبّ الكرم، ويحبّ معالي الأخلاق، ويكره سفسافها)([22])
وهكذا كانت حكمك تحض على مخالطة الناس، والصبر على أذاهم، فقد كنت تقول:( المؤمن مألف مألوف حيي ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس)([23]) ، وتقول: (إنّ أحبّكم إليّ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا، الّذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبغضكم إليّ المشّاءون بالنّميمة المفرّقون بين الأحبّة الملتمسون للبراء العيب)([24]) ، وتقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([25])
وهكذا كانت حكمك تحض على الرفق واللين، حيث كنت تردد كل حين: (إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه)([26]) .. وتقول: (اللّهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به)([27]) .. وتقول: (إنّ اللّه إذا أراد بأهل بيت خيرا دلّهم على باب الرّفق)([28]) .. وتقول: (ألا أخبركم بمن يحرم على النّار، وبمن تحرم عليه النّار، على كلّ قريب هيّن سهل)([29]) .. وتقول: (يسّروا ولا تعسّروا وسكّنوا ولا تنفّروا)([30]) .. وتقول: (من أعطي حظّه من الرّفق فقد أعطي حظّه من الخير، ومن حرم حظّه من الرّفق حرم حظّه من الخير)([31]) .. وتقول: (من يحرم الرّفق يحرم الخير)([32])
وهكذا كانت حكمك تحض على الإحسان، وفي كل المجالات، حيث كنت تقول: (إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)([33])
وهكذا كانت حكمك ـ سيدي ـ كافية لمن يريد أن يسير على سراطك المستقيم، الذي لم ينحرف ذات اليمين، ولا ذات الشمال، ذلك السراط الذي ارتضاه الله لعباده، ولم يقبل منهم المرور على غيره.
وهي جميعا مدرسة في الأخلاق والآداب والسياسة والحضارة.. ولا تلتزم أمة بها إلا، وترقت.. ولا نفس بها إلا تطهرت.. ولا مجتمع بها إلا كان مجتمعا متكافلا متناصرا متراحما ممتلئا بالحكمة.
فأسألك سيدي، وأتوسل بك إلى الله تعالى أن أكون من أولئك الذين تتلمذوا على كلماتك وهديك، فصار لهم من الحكمة ما يصلحون به شؤون دينهم ودنياهم.. حتى تتحكم عقولهم في نفوسهم، ويتحكم دينهم في دنياهم.
وأسألك سيدي أن ترفع درجتي حتى أكون من الدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أولئك الذين ساروا على هديك، وهدي ورثتك؛ فصارت لهم من حكمة القول والفعل والتدبير ما يجعلهم دعاة إلى الله على بصيرة، لا على هوى، وعلى هدى، لا على ضلالة.
وأسألك سيدي أن ينالني بعض فضل الله عليك
في البلاغة التي تيسر لي تبليغ الحكمة، والدعوة إليها، حتى يفهمني قومي، وحتى أبلغ
لهم دين الله بما ييسر بلوغه لعقولهم وقلوبهم وأرواحهم.. فأنت وسيلة الله العظمى،
وباب رحمته الأكبر.
([1]) الشريعة للآجري (4/ 2069).
([2]) التوحيد: 174/ 3.
([3]) رواه البيهقى فى شعب الإيمان (2/160، رقم 1436)، وروى أوله البخاري 6 / 90 ، ومسلم رقم (523)
([4]) ابن ماجه (2/1332، رقم 4019) ، وأبو نعيم (8/333) ، والحاكم (4/583، رقم 8623)، والبيهقى فى شعب الإيمان (3/197، رقم 3315) ، وابن عساكر (35/260)
([5]) رواه أبو داود والحاكم.
([6]) رواه البخاري.
([7]) رواه القضاعي والديلمي في مسند الفردوس.
([8]) رواه أبو الشيخ.
([9]) رواه الديلمي في مسند الفردوس.
([10]) رواه القضاعي.
([11]) رواه أحمد والترمذي.
([12]) رواه الحاكم في تاريخه.
([13]) رواه العسكري في الامثال.
([14]) رواه الديلمي.
([15]) رواه الديلمي.
([16]) رواه البخاري في التاريخ ، وابن أبي الدنيا في الصمت والبغوي والباوردي وابن السكن وابن قانع وابن منده والبيهقي في الشعب وأبو نعيم وتمام وغيرهم.
([17]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجة.
([18]) رواه الترمذي واللفظ له وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيهقي.
([19]) رواه مالك في الموطأ والترمذي وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجة.
([20]) رواه البخاري واللفظ له. والترمذي.
([21]) رواه الترمذي وقال: غريب، ورواه أحمد والحاكم والبيهقي. وقال الحاكم: صحيح وأقره الذهبي.
([22]) رواه الحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد، ورواه الطبراني في الكبير.
([23])رواه الديلمي في الفردوس.
([24]) رواه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار.
([25]) رواه البخاري ومسلم.
([26]) رواه مسلم.
([27]) رواه مسلم.
([28]) رواه أحمد والبزار.
([29]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
([30]) رواه البخاري ومسلم.
([31]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([32]) رواه مسلم.
([33]) رواه مسلم.