البشير النذير

البشير النذير
سيدي يا رسول الله.. يا من أرسله الله ليحمل أعظم الحقائق للبشر، وأكثرها تعلقا بسعادتهم وشقاوتهم، فكان البشير الذي يبشر بالسعادة وأبوابها ومفاتيحها في الدنيا والآخرة، وكان النذير الذي يحذر من كل ما يحرم من السعادة، ويجلب الشقاء، وفي كل الشؤون، وكل الأزمنة.
لقد تأملت كل المبشرين والمنذرين في الدنيا؛ فوجدتهم أقزاما بجنبك، وبجنب ما جئت به.. فالطبيب يبشرنا بالصحة، ويحذرنا من المرض.. لكن الصحة سرعان ما تتهدم، والمرض سرعان ما يتغلب.. والنشوة التي حصلت بها البشارة سرعان ما تزول.
والأستاذ يبشرنا بالنجاح، ويحذرنا من الرسوب.. لكن نشوة النجاح تذهب مع الأيام.. والسرور الذي صاحبها يتلاشى.. ولا تبقى منه إلا الذكريات التي قد تنسى حلاوتها، وقد تتحول إلى مرارة.
وهكذا.. فإن كل المبشرين أو المنذرين غيرك.. يبشرون بشؤون قاصرة محدودة.. أو ينذرون من أمور يفيد إنذارهم فيها زمنا محدودا، لا ممدودا.. ولذلك يتلاشى التبشير والإنذار بتلاشيها.
أما أنت يا سيدي يا رسول الله.. فتبشيرك وإنذارك يمتد للأبد.. فأنت جئت لذلك الإنسان البسيط المحدود الذي ينظر إلى تعاقب الليل والنهار كل حين، لينتظر اللحظات التي يحل عليه فيها العجز والمرض والموت.. وهو ممتلئ بالخوف منها.. ومن المصير الذي سيصير إليه..
جئت إليه لتخبره أنه لا داعي لكل تلك الآلام.. فما يعيشه في الدنيا ليس سوى مرحلة اختبار.. وأنه بعد نجاحه في الاختبار سيتحول إلى عالم مملوء بالجمال، تتحقق له فيه كل الأمنيات.. فالفقير يغتني.. والمريض يشفى.. والشيخ يصير شابا.. والمبتلى يصير معافى.. والذي فقد أحبابه يعودون إليه.. والذي فقد مسكنه أو لم يجد أين يلجأ سيجد القصور في تلك الدار التي لا يصيبها الموت، ولا الفناء.. ولا تنزل بأرضها الزلازل.. ولا تتنزل من سمائها حمم البراكين.
ولم تأت لتخبره بذلك فقط.. وإنما جئت تذكره بالطريق المستقيم المختصر الذي يوصله إلى تلك المحال الشريفة الممتلئة بالسعادة من غير معاناة ولا ألم.
وجئت لتخبره بالعقبات التي تقف بينه وبين تلك المحال السعيدة.. والشقاوة التي تنتظره إن هو لم يتجاوزها، أو سكن إليها، أو سكن إلى أعدائه ووسوستهم.
وكل هذه المعاني لا يمكن أن تكون لغيرك ـ سيدي . فكل المبشرين أو المنذرين السائرين على غير طريقك، لم يتجاوزوا هذه الدنيا، وما يرتبط بها من سعادة ورفاه.. ولذلك كانت بشاراتهم وإنذاراتهم محدودة قاصرة، لا تلبي حاجات النفس التي لا تنتهي.. وطمعها الذي لا يملؤه إلا الخلود.
لذلك كنت ـ سيدي ـ باب السعادة الأكبر.. فمن وصل إليك دخل مدينة السعادة التي لن يخرج منها أبدا..
ولا أقصد بالسعادة ـ سيدي ـ سعادة الآخرة فقط.. بل سعادة الدنيا أيضا.. فأنت لم تبشرنا بالجنان فقط، وإنما بشرتنا بربنا.. وأخبرتنا أننا لسنا مهملين على هذه الأرض، وإنما لنا رب رحيم كريم لطيف، نحن نأوي إلى كنفه، ونأكل من رزقه، وننهل من خيره، فكل مفاتيح سعادتنا بيده.. فلذلك كانت صلتنا به هي الجنة، وكان تواصلنا معه هو الحياة الحقيقية التي لا يحلم بها من لم يعرفه، أو يعرف لذة وصاله.
سيدي يا رسول الله.. لم تكن تلك المعاني العظيمة التي ملأت قلوبنا بشارة بها مجرد أماني أو أحلام أو أفكار فيلسوف، أو خيالات أديب.. وإنما كانت حقائق مؤيدة بالمعجزات الباهرة، والدلائل الواضحة.. فأنت لم تكن تنطق من عند نفسك، وإنما من وحي ربك.
فربك هو الذي أمرك بأن تخبر عبادك عنه، وتعرفهم به.. وربك هو الذي قال لك: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ (الحجر:49 ـ 50)، وهو الذي قال لك: ﴿ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (لأعراف:156)، وهو الذي قال لك:﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (ابراهيم:7)
ولذلك كان من وظائفك التي ندبك لها، وسماك بها، كونك بشيرا ونذيرا، قال تعالى:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ (البقرة:119)، وقال:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (سـبأ:28)، وقال على لسانك:﴿ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (لأعراف:188)، وقال:﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ (هود:2)
وهكذا، فإن كل تفاصيل البشارات والإنذارات التي جئت بها، والتي تملأ الدنيا والآخرة بالسعادة الحقيقية لم يكن مصدرها إلا الله.. فالله هو الذي أعطاك البشارة، وهو الذي أعلمك بمصير المبشرين، وبالإعمال التي عليهم القيام بها ثمنا للبشارة.. قال تعالى:﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة:25)، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:111)، وقال:﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:112)
وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين حقيقة البشارة، ومظاهرها، ووسائطها التي تكفل تحققها، أو التي لا تتحق من دونها.. ولذلك لم تكن بشاراتك مجرد نشوة أو فرح زائل، وإنما كانت مصدرا لهمة عظيمة، وتغيير يرتبط بالحياة جميعا..
ولهذا كان المؤمنون بك، الصادقون معك، لا يفرحون بشيء كما يفرحون بتلك البشارات التي تزفها إليهم، لتنسيهم كل همومهم.. فقد كانت سلوى آل ياسر لمواجهة ما أعد لهم الطواغيت من عذاب هو ما ذكرته لهم، وأنت ترى عظيم ما يعانونه.. لقد قلت لهم: (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة)([1]).. فما إن سمعوها منك حتى طارت نفوسهم شوقا إلى الجنة، وخرجوا من الدنيا، وهم يبتسمون.
وفي معركة بدر، حين اشتدّ البلاء على المسلمين، ورأيت قلة عددهم، وضعف عتادهم، كانت جائزتك العظمى التي حولت كل واحد منهم إلى جبل من جبال العزيمة، وحصن من حصون القوة قولك لهم: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة)([2])
حينها هزت البشرى قلوب أصحابك؛ فقام عمير بن الحمام، وقال مندهشا:(عرضها السموات والأرض؟)، فقلت:(نعم)، فقال، والفرحة تكاد تطير به:(بخ بخ)، فقلت: (ما يحملك على قولك بخ بخ؟)، قال:(رجاء أن أكون من أهلها)، فقلت مبشرا، وقد علمت صدقه:(فإنك من أهلها)
فتقدم الرجل حين سمع تلك البشارة ممتلئا سرورا؛ فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وهو يقول: (لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة)، ثم تقدم فقاتل حتى قتل .
وهكذا عندما كنت في مكة المكرمة، حيث فقدت الناصر والمعين.. ولم يكن بجوارك إلا عمك، كنت تذهب إلى أسواق عكاظ ومجنة، وفي المواسم، وأنت تخاطب الناس قائلا: (من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة)([3]).. فقد كانت الجنة هي بشارتك لهم.. لا الدنيا.. ولا الرفاه.. ولا أي شيء آخر.. وهل هناك شيء أفضل من الجنة؟ وهل هناك طريق للرفاه والحياة السعيدة أفضل من الإيمان بالجنة؟
وهكذا عندما رحل إليك السبعون الذين التقوا بك في شعب العقبة، وقالوا:(يا رسول الله علام نبايعك؟)، فقلت:(تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، فقالوا: (يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، وإنا نأخذك على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟)، فقلت:(الجنة)، فقالوا:(ابسط يدك)، فبسطت يدك الشريفة، وبايعوك([4]).
وهكذا كنت تحفز على كل أعمال الخير بتلك البشارات العظيمة التي أتاحها الله لك.. فحولت من المجتمع المسلم إلى مجتمع صالح من غير أن تقدم لهم أي جائزة مادية، أو تعدهم بأي وعود كاذبة.. بل كان وعدك الأعظم، وبشارتك الكبرى جنة الله التي لا يشقى من دخل إليها.
لقد كنت تحثهم على شد العزم على العمل الصالح، وتقو ل لهم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا أن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)([5])
ولهذا كانت تلك الجائزة أعظم محفز للصلاح والتقوى وتجاوز كل العقبات، وتحدي كل الهموم، فمن يعلم أن مصيره الجنة جد واجتهد وضحى ونسي كل شيء في سبيلها..
حتى أنك استطعت سيدي أن تهذب أولئك الجفاة الغلاظ من الأعراب بسبب ذكرك للجنة، وحديثك عنها، وعن النعيم الذي أعد فيها.. وقد روي أن بعض الأعراب جاءك، فقال: (ما ثمن الجنة؟)، فقلت:(لا إله إلا الله)([6]).. وجاء أعرابي آخر فقال:(يا رسول دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة)، فقلت:(تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان)، فقال:(والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه)، فلما ولى قلت:(من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)([7])
فيا سيدي يا رسول الله.. يا وسيلة الله العظمى لعباده.. فكما بشرت أصحابك وأحبابك.. فبشرنا.. وكما ملأت قلوبهم بالسرور، فاملأ قلوبنا.. وارزقنا رؤيتك في الدنيا والآخرة.. فروحك الجميلة، ونورك الساطع، وسراجك المنير أعظم بشارة تتلقاها قلوبنا.. فمن رآك في الدنيا رآك في الآخرة.. ومن سعد بك هنا سعد بك هناك.. فاجعلنا من السعداء بك في الدارين.. لنعيش معك وفي صحبتك ننهل من بشاراتك ونتهذب بإنذاراتك..
واجعلنا يا وسيلة الله العظمى.. ويا صاحب المقام المحمود .. من الذي ورثوا منك البشارة والنذارة.. فصاروا من المبشرين المنذرين على أقدام الرسل وأوصيائهم وأوليائهم.. حتى لا تميل بنا الأهواء، ولا تزج بنا البدع فيما حذرتنا منه.
واجعلنا يا وسيلة الله العظمى من الذي يعطون للبشارة حقها.. فمن وفى
للبشارة نالها، ومن قصر في الوفاء أو فرط فيه كان من الخاسرين.. فنعوذ بك من ذلك، ونسألك
أن نكون من الناجين السعداء الفائزين..
([1]) رواه الحاكم 3 / 388 .
([2]) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 306 الحديث 3985)
([3]) رواه أحمد (22/ 347)
([4]) رواه أحمد (25/ 93)
([5]) رواه الترمذي رقم (2452)
([6]) رواه أبو نعيم الأصبهانى في صفة الجنة (48)
([7]) رواه البخاري (1397) ، ومسلم (14)