المبلغ الأمين

المبلغ الأمين

سيدي يا رسول الله .. يا من اختاره الله لتبليغ آخر كلماته المقدسة للبشر، فبلغها كما سمعها، لم يغير ولم يبدل.. وبلغها لكل الناس بجميع طبقاتهم، فلم يستثن منهم أحدا.. وبلغها في كل الظروف اللينة والقاسية.. وكان أمينا في كل ذلك.. فلم تختلط كلماته بكلمات الله، ولا الهدي الذي نطق به بالهدي الذي أنزل عليه مع أن المنبع واحد، والسراج واحد.

ولو أن أولئك المتحذلقين المدعين للعقلانية، صدقوا مع عقولهم، واكتفوا منك بهذا الباب من أبواب الدلالة عليك، لأوصلهم إليك، ولكان مقدمة لهم ليعرفوك.

فلو أنهم نظروا إلى الظروف التي كانت تتنزل عليك فيها كلمات ربك، وقارنوها بالظروف التي كتب فيها كل العباقرة ما كتبوه لوجدوا أن الكلمات التي بلغتها يستحيل أن تكون من عندك.

فالعباقرة أو من يظنون أنفسهم كذلك، كانوا يكتبون كلماتهم في ظل التمجيد والتعظيم والتقديس، بينما كنت تبلغ كلمات ربك، وأنت محاط بأولئك القساة الذين كانوا يسخرون منك ومنها، ويستعملون كل وسائل الإيذاء والتنفير التي وصفها الله تعالى بقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26]، وبقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 4، 5]

وقد كان الوحي حينها يتنزل عليك بكل أصناف الحجج التي ترد عليهم، وتبين لهم أن مصدر الكلمات التي جئتهم بها من الله، وليس من عندك، قال تعالى: { قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]، وقال: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 38 – 47]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تخبر أنك مبلغ عن الله، وأن الذي جئت به ليس من عندك..وقد كان في إمكانك ـ سيدي لو كنت كما يذكرون ـ أن تنسب تلك الكلمات إليك، وحينها سينبهرون بك، وببلاغتك المعجزة، وسيصبحون جميعا من أتباعك، وليس أولئك العبيد والفقراء فقط.. وحينها كان يمكن أن يتوجوك بتاج الملك عليهم..

وهذا وحده كاف للعقول في كونك رسولا لله، وأن ما جئت به ليس من عندك.. وإلا فإنهم لو لاحظوا كل الشعراء والأدباء والفلاسفة وغيرهم، وحرصهم على نسبة كل كلمة أو جملة إليهم، وفرحهم بما يكتبونه أو يذكرونه، لعرفوا أنه يستحيل أن تكون تلك الكلمات النورانية المعجزة من عندك.

وكيف تكون من عندك، وهي تدعوك، وفي تلك الظروف القاسية، أن تترك الأمر لله، ليعذبهم، أو يرحمهم، لأنك مجرد مبلغ عن الله، ولست مكلفا بهدايتهم أو السيطرة عليهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الزمر:41)، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الشورى:6)، وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (قّ:45)، وقال: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:22)، وغيرها من الآيات الكريمة التي تنزع عنك كل مسؤولية على العباد، وتجعل الأمر لله وحده.

ولو أنهم ـ سيدي ـ نظروا في تلك الآيات التي تدعوك لمقابلة سخرية الساخرين واستهزاءهم بالعفو والصفح والحلم، لعلموا أن الأمر خارج عن عالم البشرية، وأن الذي قال تلك الكلمات أقدس من أن تؤثر فيه البيئة أو الظروف المختلفة.. فقد كان القرآن حينها ينزل ليقول لك: { وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 88، 89]، ويقول: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 97 – 99]

ولو أنهم ـ سيدي ـ تأملوا في تلك الآيات التي تعاتبك، بل تشتد عليك، لعلموا أنه يستحيل أن يعاتب الشخص نفسه، وبتلك الشدة، وقد قالت عائشة تخبر عن بعض تلك الآيات، وأنها دليل على كونك لم تكتم شيئا من الوحي الذي أنزل عليك: (لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاتما شيئا مما أنزل الله عليه، لكتم هذه الآية على نفسه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37])([1])

وقد جاء بعدها قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وهو يدل على أنك ـ سيدي ـ لحرصك على إيمان الناس كنت تتمنى أن توافقهم في بعض ما يطلبونه من الشؤون الخاصة بك، حتى لا يكون ذلك فتنة لهم.

لكن الله تعالى كان ينهاك عن ذلك، ويخبرك أن الفتنة ضرورية للتمحيص، حتى يتبين الصادق من الكاذب، كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرً} [الإسراء: 60]

ولذلك ورد في القرآن الكريم بعض الشؤون الخاصة بك، والتي لا يزال الناس يُمحصون بها.. فالله تعالى في القرآن الكريم يعاتبك قائلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 1 – 3]

ويقول لك فيه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50]

وغيرها من الآيات الكريمة التي كان يمكن ألا ينزل فيها القرآن الكريم، ولكن الله شاء أن يتنزل بها، حتى تكون فتنة وتمحيصا لأولئك الذين يزعمون أنهم يُعملون عقولهم، ثم يعطلونها بما تشاء لهم أهواؤهم، كما قال تعالى عنهم: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 124 – 126]

ولذلك كنت المبلغ عن الله الأمين في تبليغك؛ فلم تراع حرصك على إيمان الناس، وإنما راعيت ما كُلفت به، حتى لو كنت خائفا من أن يكون ذلك فتنة لبعض من اتبعوك، وقد قال الله تعالى يأمرك بالبلاغ في شأن إمامة الإمام علي من بعدك: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67)

وحين نزلت عليك هذه الآية الكريمة، وكنت تعلم أن تبليغ ما كلفت بتبليغه سيكون فتنة عظيمة، لكنك فعلت تنفيذا لأمر الله.. وقد ورد في الحديث المتواتر أنك بعد نزولها عليك طلبت أن يقام لك من حدائج الإبل، فصعدت عليه، ثم قلت: (إنّي أوشك أن أدعى فأجيب، وإنّي مسئول، وأنتم مسئولون، فما ذا أنتم قائلون؟)، فقالوا: نشهد أنّك قد بلّغت، ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا.. ثم قلت لهم: (ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور … )، فقالوا: بلى نشهد بذلك، فقلت: (اللهمّ اشهد)، ثم قلت: (إنّي فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النّجوم من فضّة، فانظروا كيف تخلّفوني في الثّقلين؟.. الثّقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا)

ثمّ أخذت يد الإمام علي بيدك الشريفة، ثم رفعتها، حتى بان بياض إبطيهما، ثم قلت مخاطبا الجموع الكثيرة: ((أيّها النّاس، من أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟)، فأجابوا: الله ورسوله أعلم، فقلت: (إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه)، ثم كررت ذلك، وأكدته، ثم ختمه بقوله: (اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب)([2])

لقد كنت تعلم تأثير ذلك في الناس، وخاصة في القرشيين الذين كانوا يتوهمون أن الإمامة منصب دنيوي، وأنه كما كان لبني هاشم النبوة، كان لغيرهم من القرشيين الإمامة، لكنك مع ذلك بلغت أمر الله، ولو أنك كنت تعلم أنهم لن ينفذوه..

ولذلك أثنى الله تعالى عليك، وأنك كنت المبلغ لكل حقائق الدين وقيمه، وبأحسن صورة، قال تعالى: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [الأحزاب: 39]

هذه بعض جوانب أمانتك في التبليغ، وحرصك عليه.. ولا يمكننا أن نحيط بها جميعا.. فقد كنت القرآن الناطق الذي لم يكتف بتبليغ الكلمات، وإنما أعطى النموذج الدال عليها، والشارح لها.. فكانت حياتك كلها بلاغا عن الله، وبكل جزئياتها وتفاصيلها.

وكانت كذلك على الرغم من ثقل التكليف الذي كلفت به، والذي جعلك لا ترتاح ليلا ولا نهارا.. وقد قال تعالى يخبر عن تلك المشقة التي كنت تلقاها، والتعب الذي كان يصيبك: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1 – 6]

لقد كان ذلك البلاغ الذي كلفت به غير خاص بالخلق فقط، وإنما كان يبدأ بك، بل كانت أشد التكاليف تتنزل عليك، وتعفي غيرك، فمع أن غيرك من المؤمنين أعفي من قيام الليل  إلا أنك كنت مطالبا به على الرغم من تعبك الطويل في النهار، ومشقة الأعمال الكثيرة التي كنت تقوم بها.. لقد قال تعالى يأمرك بذلك: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79]

وكنت لذلك تسهر أكثر الليل قائما لله إلى أن تفطرت قدماك.. ثم إذا استيقظ الناس لصلاة الفجر كنت أولهم، بل موقظهم.. ثم تقضي بعد ذلك سائر النهار في تلك الأعباء الكثيرة التي كلفت بها.. وفي وسط مملوء بالمعاندين والمنافقين والمشاغبين الذين لا يكاد أحد يطيقهم، وهم متفرقون، لكنك أطقتهم وهم مجتمعون.

ولم تكن تطلب من ذلك التعب الكبير جزاء ولا شكورا، بل إن الوحي كان يتنزل عليك حينها ليأمرك بالزهد في كل المتاع، قال تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه: 131]

وحينما اشتكى أزواجك تلك الحال التي كانوا يعيشون عليها من الفاقة، وطلبوا منك تحسين وضعية معيشتهم أنزل الله عليك قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]

وقد ورد في التفسير أنها بمجرد أن أنزلت عليك، رحت تدعوهن ليخيرنك أو يخيرن زهرة الحياة الدنيا، فاخترنك جميعا.. وهل يمكن لعاقل أن يختار غيرك.

فأسألك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ أن تتوسل إلى الله بأن أكون وارثا لك في البلاغ؛ فأصبر كما صبرت، وأدعو كما دعوت، وأتحمل كما تحملت، ولا ألين كما لم تلن.. حتى أكون من أهل قولك: (نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه) ([3])

وحتى أحشر مع الذين وصفهم الله تعالى بأنهم لا يخافون فيه لومة لائم.. وحتى أكون تحت لواء الصادقين معك يوم القيامة.. فلا ينال شرف الدخول تحت ذلك اللواء في الآخرة إلا من كان تحته في الدنيا.

وأسألك ألا أكون من الذين يبلغون ما لا يفهمون، أو يدعون إلى ما لا يستوعبون، أو يخالفون بأفعالهم ما يبلغونه بأقوالهم، حتى لا يكون بلاغي فتنة وتشويها لدينك ورسالتك.. فإنك يا سيدي يا رسول الله لا ترد من استجار بك، أو طلب شفاعتك..  


([1])رواه أحمد (43/ 166)، و الترمذي (3208)

([2])ما أوردناه هنا هو من روايات متفرقة وردت في الصحاح والسنن وغيرها، انظر: صحيح مسلم (2408) والترمذي (3788) واللفظ له. وغيرهما كثير.

([3])رواه أحمد (21/ 60)، وابن ماجه (236) ، والبيهقي في الشعب (7514)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *