العالم الراسخ

العالم الراسخ
سيدي يا رسول الله .. يا من علمه ربه من علوم كل شيء، فكانت علومه كلها لدنية وهبية، لا يحتاج علم شيء إلا وكان بين عينيه ويديه كما هو في حقيقته، لا يتطرق إليه الوهم، ولا يتسلل إليه الخطأ.
وكيف يتطرق إليه الوهم، أو يتسلل إليه الخطأ، والمعلم هو الله الذي أحاط بكل شيء علما.. والذي لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة؟
وكيف يتطرق إليه الوهم، أو يتسلل إليه الخطأ، والتلميذ هو أنت ـ يا سيدي يا رسول الله ـ يا صاحب القلب الطاهر، الذي هو كالمرآة الصافية، تتنزل عليه الحقائق، فيتقبلها كما هي، وتفيض عليه العلوم؛ فيستوعبها جميعا من غير معاناة؟
وكيف لا تكون كذلك سيدي، وأنت سيد ولد آدم.. وقد أخبر الله أن آدم عليه السلام عُلم الأسماء كلها.. وأن الملائكة سلموا له بالخلافة بسبب ذلك.. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 – 33]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن منصب الخلافة الرفيع، والذي كنت أنت ممثله الأعلى، ونموذجه الأسمى، يقتضي توفر علوم كثيرة جدا إلى الدرجة التي سماها الله تعالى [الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]، بل إلى الدرجة التي عجزت الملائكة عليهم السلام أن يعرفوها.. وهم من هم.. فإذا كان هذا عظمة العلم الذي لقن لآدم عليه السلام، فكيف بالعلم الذي لقن للك يا سيدي يا رسول الله؟
وكيف لا تكون كذلك، وقد أخبر الله تعالى أنه علم إبراهيم عليه السلام علوم الكون، وأراه حقائقها عيانا لا تلقينا، فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]
فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام علوم رؤية ومشاهدة، وليست علوم تلقين.. لذلك لا يعتريها الخطأ، ولا يصيبها الوهم، ولا يدركها القصور.. فهل يمكن أن يكون ذلك لإبراهيم عليه السلام، ثم لا يكون لك، وأنت سيد الأنبياء جميعا، بل سيد الخلق جميعا؟
وهل يمكن أن يحصل ذلك، وقد أخبر الله تعالى أن من هم دونك بكثير، ومن هم دون إبراهيم عليه السلام، وغيره من الأنبياء، ومن الذين أوتوا بعض علم الكتاب، استطاعوا أن يقهروا كل القوانين الكونية التي نعرفها، وأن يطلعوا على القوانين الخفية فيها، ويستخدموها، فقال عن صاحب سليمان عليه السلام: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40] فإذا كان هذا علم صاحب من أصحاب سليمان عليه السلام، وهو علم مرتبط ببعض الكتاب، فكيف بعلمك يا سيدي يا رسول الله، وهو علم بكل الكتاب؟
وهل يمكن أن يحصل ذلك، وقد أخبر الله تعالى أن مصدر علمك لدني، وأنك لا تحتاج إلى أستاذ من البشر، يلقنك الحقيقة والأوهام المرتبطة بها، قال تعالى ـ يذكرك ـ: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]؟
بل إنك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ أخبرت بذلك عن نفسك، فقلت ـ مخاطبا أصحابك، ومعهم الأمة جميعا ـ: (إنِّي أرى ما لا ترَون، وأسمع ما لا تسمعون، إنَّ السماء أطت، وحقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذَّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)([1])
فمن تأمل هذا الحديث العظيم اكتفى به.. فأنت الصادق الأمين، تشهد لنفسك بما آتاك الله من فضله، بأن علومك أكبر من أن يستوعبها أهل جيلك أو غيرهم، لذلك كنت ترفق بهم، فلا تلقي لهم من العلم إلا ما يمكن أن يفهموه، وتستوعبه عقولهم، ولا يكون فتنة لهم.
وقد شهد أصحابك لك بذلك، فقد أخبر أبو ذر عن بعض العلوم التي كنت تحدثهم عنها، فقال: (ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا)([2])
وحدث أبو زيد الأنصاري قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا)([3])
وحدث حذيفة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه)([4])
وهكذا وردت الروايات الكثيرة عنك، تخبر عن الحقائق العلمية التي كنت تبثها إلى الأمة، وفي المجالات المختلفة النفسية والاجتماعية .. بل والطبية والفلكية والجيولوجية وغيرها .. وما غاب عنا أكثر بكثير..
وكلها تتناسب مع مرتبتك العظمى التي بوأك الله إياها، فأنت ـ يا سيدي يا رسول الله ـ الإنسان الكامل الذي جعله الله قدوة ونموذجا للبشرية جميعا.. وعلوم الإنسان الكامل لا تحدها التخصصات، ولا تقيدها.. لأنها إن كانت كذلك كانت علامة جهل كبير.. فالمتخصص مقيد في سجن اختصاصه، ولذلك لا يفسر الأشياء إلا على ضوئها.. فالمسجون في سجن علم الاجتماع في سجن مدرسة من مدارسه يبني مواقفه على أساسها.. والمسجون في سجون علم النفس، والمسجون في سجون التخصصات المختلفة.. حتى التخصصات الدقيقة منها..
أما علومك أنت يا سيدي يا رسول الله، فهي تختلف عن تلك العلوم جميعا، لأنها تستقي من محيط صبت فيه جميع بحار العلوم والمعارف، أو كانت هي مصدر جميع العلوم والمعارف؛ فعلومك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ علوم ربانية تنبع من بحار علم الله الواسع، كما شهد لذلك قوله تعالى:﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ (النساء:166)
فهل يمكن أن ينزل الله عليك شيئا من القرآن الكريم، ثم يحجب عنك علومه ومعارفه.. معاذ الله، وكيف يكون ذلك، وأنت المكلف ببيان القرآن الكريم، وهل يمكن أن تبين ما لا تعلم تفاصيل علومه؟
وما دمت كذلك ـ سيدي ـ وما دام القرآن الكريم حاويا لأصول علوم كل شيء، كما قال تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89)، فأنت ـ بلا شك ولا ريب ـ تحمل فروع تلك الأصول، وحقائق تلك المعاني، وتفسير تلك المجملات.
لقد غابت كل هذه الحقائق عن المستغرقين في عوالم أنفسهم الأمارة بالسوء؛ فراحوا يتوهمون أن قابليتك للعلوم تشبه قابليتهم، وأن قدرتهم المحدودة تشبه قدرتك. .وأنك لذلك لست بتلك الأوصاف التي وصفك بها ربك، أو وصفت بها نفسك.
وقد دعاهم إلى هذا ما يرونه من العلوم الكثيرة.. والتي ألفت فيها آلاف.. بل عشرات الآلاف من المراجع الضخمة.. وقد جعلهم ذلك يتوهمون أنهم إن نسبوا لك ما ذكره القرآن الكريم عنك من الرسوخ في العلم؛ فإن ذلك يستدعي أن تكون حافظا لكل تلك المراجع..
ما أعظم وهمهم ـ سيدي ـ فتلك المراجع الكثيرة يمكن تلخيص ما يفيد منها في كلمات معدودات.. هم يرون ذلك.. ويعلمون أن كل العلوم، وعلى مدار تاريخها الطويل، والممتلئ بالكثير من الأوهام، تخرج بقوانين ونظريات محدودة، تعبر عنها بكلمات أو رموز معدودة.
هم يعلمون أن المعادلة التي تنص على العلاقة بين كتلة جسيم وطاقته، والتي تعتبر الطاقة مساوية للكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.. كتب من أجل الوصول إليها آلاف الأوراق، وبذل من الجهود ـ طيلة تاريخ البشرية ـ ما بذل من أجل التحقق منها.. ولم يكن ذلك في علم واحد.. بل في علوم كثيرة.. ولهذا فإن من وصل إليها لن يكون مضطرا للتعرف على كل تلك التفاصيل التي أدت إليها.
وهكذا يمكن أن يكتفي من يريد أن يصل إلى حقائق علم الفلك جميعا، بعيدا عن كل الأوهام التي تسربت إليها عبر التاريخ أن يشاهد فلما واحدا يريه المجرات والنجوم والكواكب وغيرها.. ليبز بعلمه حينها كل من مر في التاريخ، وهو متعلق بأوهام كثيرة.
فإذا كان هذا حال من يشاهد فلما.. فكيف بمن كان قلبه مرآة ومرصدا يرى الكون والإنسان والمجتمع وكل شيء كما هو بالفعل، لا كما يوصف له.. وهل يحتاج المبصر لشرح أو توضيح أو إطالة تفصيل.. وهل الخبر كالعيان؟
ليت الأمر توقف عند هؤلاء.. بل إن بعضهم ممن يزعمون أنهم يعرفوك، راحوا يشكلون على هذا الوصف فيك.. ويضربون جميع تلك الآيات القرآنية، والأحاديث القطعية، بحديث وضعه أعداؤك الذي آلمهم ألا تكون مثلهم في جهلهم وضلالهم، حيث رووا أنك لما قدمت المدينة، وجدتهم يلقحون النخل، فقلت: ( ما تصنعون ؟ ) قالوا: كنا نصنعه، فقلت: ( لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا)، فتركوه، فتأثرت محاصيلهم لذلك، فذكروا ذلك لك، فقلت: ( إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)([5])
ولم يكتفوا ـ لجهلهم ـ بهذه الرواية، بل عضدوها بالروايات الكثيرة، وذكروا أن الحادثة متعددة، أي أنك مررت على ناس متعددين، وأخبرتهم جميعا بأن التأبير لا منفعة فيه.. ثم تبين للجميع أن أخذهم بنصيحتك أضر بهم، فكنت أنت سبب ما حصل لهم ولمحاصيلهم، وفي أول دخولك للمدينة.
فهل يعقل هذا، وهل يعقل أن تكون أول نصيحة تقدمها للفلاحين نصيحة تضر بهم، وبمنتوجهم الذي يعتمدون عليه في حياتهم؟
لقد راح كل أولئك يتعلقون بهذه الرواية المدسوسة عنك، ليشيعوا بين الناس مسلمهم وغير مسلمهم، بأن علومك غير المرتبطة بالشريعة، هي نفس علوم قومك، وأن الأخطاء التي كانت لديهم، كانت لديك.
لقد قال بعض المعاصرين يذكر ذلك، ولا يستحيي منه: (لا يجب أن يكون اعتقاده صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وآله وسلم.. وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به؛ لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية: من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفي منه، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد)([6])
وقال آخر، وهو من القدامى، يتهم ما جاءت به الروايات عنك في حفظ الصحة، والنصائح العظيمة المرتبطة بها: (الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم…)؛ فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إذا استعمل على جهة التبرك وصدق القصد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع، وليس ذلك في الطب المزاجي)([7])
وقال آخر: (أما أحواله صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا؛ فنحن نسبرها على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل؛ أما العقد منها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع – ثم ذكر حديث تأبير النخل – ثم قال: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها.. فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة، ولا اعتقادها ولا تعليمها، يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية)([8])
وغيرها من الأقوال الكثيرة التي ألغي بها القرآن الكريم تعلقا بالحديث الذي يسمونه حديث [تأبير النخل]، والذين محوا به كل ما ورد في القرآن الكريم من أنك لا تنطق عن الهوى، وكل معارفك وعلومك لدنية.
ولو أنهم اكتفوا بقراءة قوله تعالى في حقك: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، لعلموا أن هذه الآيات وحدها كافية لتكذيب كل رواية تخالفها، لكنهم لا يرجعون للقرآن، بل ينسخون معانيه بما يصلهم من الروايات التي دسوها عليك، حتى يقللوا من شأنك.
ولو أنهم رجعوا إلى الأحاديث التي يعتبرونها نفسها، لوجدوا الحقيقة، وعلموا أنه يستحيل عليك أن تقول شيئا يخالفه الواقع، وكيف يكون ذلك، وهل ذلك إلا الكذب المحض؟
لو أنهم ـ يا سيدي يا رسول الله ـ رجعوا لتلك الرواية التي حدث بها عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)([9])
هل رأيت سيدي المصدر الذي أخذوا منه ذلك الموقف، إنها قريش التي استكبرت عليك، وعادتك، وبعد أن رأت انتصاراتك المتوالية، لم تجد إلا أن تتبعك، وفي قلبها كل تلك الأحقاد عليك؟
لا نملك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ إلا أن نحزن على تلك العقول التي لم تعرفك.. والتي امتلأت بالأوهام والجهل الذي حجبها عن أن تستوعب فضل الله عليك..
فنسألك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ يا
من يجير من التجأ إليه، ولا يرد من استغاث به، أن تجيرنا من تلك الفهوم، وأن تحفظ
عقولنا وتغيثها من أن تتسرب إليها تلك الأوهام، حتى نزداد حبا لك، وتقديرا لما
وهبك الله من فضله العظيم.
([1]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
([2]) تفسير عبد الرزاق 1/200) وتفسير الطبري (11/348)
([3]) رواه ابن سعد.
([4]) رواه أبو داود.
([5]) رواه مسلم..
([6]) انظر ملفا بعنوان [الطب النبوي .. رؤى نقدية أحاديث “الطب النبوي”.. هل يُحتج بها] على إسلام أن لاين وغيره من المواقع.
([7]) مقدمة ابن خلدون: ص493 .
([8]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 2 /183- 185.
([9]) رواه أبو داود.