العارف المحقق

سيدي يا رسول الله .. يا أعرف الخلق بالله، وأعلمهم به، وأقربهم منه، وأكثرهم ذكرا له، وأهداهم في الدلالة عليه.
ما عسى مثلي أن يتحدث عن معرفة مثلك بالله، وبحقائق الوجود، وأنت الذي قلت لأولئك الذين أرادوا أن يتخذوا لسلوك طريق المعرفة منهجا غير منهجك: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية)([1])
وكيف لا تكون كذلك، وأنت الذي تنزل عليك القرآن الكريم، وهو دائرة المعارف الكبرى لكل حقائق الوجود.. وما تنزلت عليك آية إلا وقد عشتها، وذقتها، وتنزل عليك من فهمها ومعانيها وأسرارها ما لا تطيقه الخلائق؟
وكيف لا تكون كذلك، وأنت الذي كنت تبصر بعيني بصرك وبصيرتك ما لا يطيق غيرك أن يبصره، أو يدركه، وقد كنت تقول في ذلك: (أرى مالا ترون، وأسمع مالا تسمعون، أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته لله ساجدا)، ثم عقبت على ذلك بقولك: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذّذتم بالنّساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله)([2])
وكيف لا تكون ذلك، وأنت الذي سماك الله عبدا.. ولا ينال حقيقة العبودية إلا من نال شرف المعرفة بالله.. فكمال العبودية دليل على كمال المعرفة.
وكيف لا تكون كذلك، وأنت الذي أراك الله من آياته الكبرى، وعرج بك في السموات العلى، وما بعدها، كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 1 – 18]
فهذه الآيات الكريمة تدل على أن معارفك بالله، والملائكة، والأنبياء، وجميع حقائق الوجود، معارف مشاهدة وعيان، لا لبس فيها.. وليست مجرد معلومات ألقيت إليك من غير أن تكون قد رأيتها أو عشتها.
ولهذا، فإن من ذكر رؤيتك لله لم يكن كاذبا في ذلك؛ فلا يمكنك أن تكون دليلا على الله وأنت لم تره.. وكيف لا تراه أنت، وقد قال تلميذك الأكبر الإمام علي لمن سأله: هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره)، قال: وكيف رأيته؟ فقال: (ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)([3])
وكيف لا تراه، وأنت الذي ذكرت مقام الإحسان الذي هو دون مقامك بكثير، فقلت لمن سألك عنه: (أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)([4])
وكيف لا تكون معارفك كلها معارف رؤية وشهود، وتلاميذك الذين هم أدنى منك بكثير كانوا يرزقون رؤية بعض ما ترى، وقد روي عن صاحبك الحارث بن مالك الأنصاري قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (كيف أصبحت يا حارث؟) قال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال: (انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟) فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلي، واطمأن نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: (يا حارث عرفت فالزم)([5])
لم تكن معارفك ـ سيدي يا رسول الله ـ معارف قاصرة عليك، بل كنت تبثها بأبلغ عبارة، وأجمل بيان، حتى يعيش من يسمع كلماتك الحقائق كما هي من غير تبديل ولا تحريف.
وقد ذكر بعض صحابتك تأثير كلماتك فيهم، فقال: (يا رسول الله، نكون عندك تذكّرنا بالنّار والجنّة، حتّى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضّيعات، نسينا كثيرا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والّذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم)([6])
ولهذا، فإن الثروة العظيمة من كلماتك الممتلئة بالأنوار، وأدعيتك ومناجياتك التي تدل على كل حقائق الوجود ومعانيه لا يمكن مقارنتها بكل تراث البشرية.. فلو جمعنا ما كتب في جميع الديانات، وما تنزلت به جميع الكتب المقدسة، وما تفوه به كل القديسين على مدار التاريخ سابقه ولاحقه، ما وصل إلى جزء بسيط من تلك الثروة العظيمة التي لا نزال نتنور بنورها، ونتزود بمعانيها.
ولو قارنا ما تركته لنا من حيث المعنى بما جاءت به كل الديانات، وما ذكره كل القديسين.. لوجدنا الفروق الهائلة العظيمة.. فأنت كنت تغترف من البحر الذي لم يكدر، والمنبع الذي لم يبدل..
ولو أضفنا إلى تلك الثروة العرفانية العظيمة التي تركتها ما تركه لنا ورثتك وعترتك الذين لم ينهلوا إلا من منهلك العذب.. لما كان لغيرك ظهور معك.. وهل يمكن للكواكب البعيدة أن تظهر مع الشمس الساطعة التي لا يحجبها شيء؟
لقد رحت ـ سيدي ـ أتأمل كلماتك وأدعيتك وحديثك عن ربك وحديثك عن الوجود، فعشت معان سامية لا يمكن أن يعبر عنها إلا من ذاقها من كأسك، فأنت الذي تسقي أمتك من حوضك في الدنيا قبل أن تسقيهم في الآخرة.. ومن لم يشرب من حوضك في الدينا، فلن يشرب منه في الآخرة.
ما عساي أن أقول لك ـ سيدي رسول الله ـ وأنا أرى أمتك تعرض عن كثير مما تركته لهم من معارف صافية خالصة نابعة من بحر حقائق الوجود المقدس.. إلى أنهار مدنسة بالأهواء، ممتلئة بوحي الشيطان.
لقد تركوا ـ سيدي ـ أدعيتك ومناجياتك التي قلتها، أو قالها عترتك الطاهرون الوارثون لك، واخترعوا كثيرا من الأدعية البديلة.. وبألفاظ ركيكة، وبمعاني ممتلئة بالغموض.. ليتقربوا بها إلى الله، فلم يزدادوا منه إلا بعدا.. فما عرف الله من لم يعرفك، وما عرف الله من سلك غير سبيلك، وما عرف الله من زهد فيما جئت به، وراح يطلب الحكمة من غير مدنها ولا أبوابها.
يا سيدي يا رسول الله.. هم لم يكتفوا بذلك.. بل راحوا إلى الإسرائيليات والغنوصيات الشرقية والغربية.. ولكل من هب ودب ينهلون منه حقائق الوجود، وكأن المعارف التي جئتهم بها نقية خالصة لم تكن كافية لتروي ظمأهم المعرفي.. فراحوا يمزجون العسل المصفى الذي جئتهم به بمياه المستنقعات المكدر.. فاختلط الدين عليهم.. وأصبحت المعرفة بالله مجموعة من الطلاسم التي تصرف عن الله أكثر مما تعرف به، أو تقرب إليه.
يا سيدي يا رسول الله .. فأسألك أن تنقذني من كل تلك الأوهام التي نشرها المؤثرون لغيرك، حتى تكون أنت أستاذي ودليلي وشيخي..
وأسألك أن تزج بي في بحر المعارف الخالصة
النقية التي جئت بها، ودعوت إليها، حتى لا يتسرب إلى عقلي، ولا إلى قلبي، ولا إلي
حقيقتي تلك الأهواء الممزوجة بوساوس الشياطين.. فأنت صاحب الشفاعة العظمى، والجاه
العظيم.. لا ترد من سألك، ولا تخيب من طلبك.. ولا تصد من استجار بك.. بل تؤويه وتطعمه
وتسقيه من طعامك الذي ذكرته، فقلت: (وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)([7])
([1]) رواه البخاري- الفتح 13 (7301) واللفظ له. ومسلم (2356)
([2]) الترمذي (2312) وقال: حديث حسن واللفظ له، وابن ماجة (4190) وقال محقق جامع الأصول (4/ 13) : إسناده حسن. وأحمد في المسند (5/ 173)
([3]) أصول الكافي، 1، 98..
([4]) البخاري- الفتح 1 (50) واللفظ له. ومسلم (90)
([5]) مصنف ابن أبي شيبة 6/ 170 ح (30425)، المعجم الكبير للطبراني 3/ 266 ح (3367)
([6]) مسلم (2750)
([7]) البخاري- الفتح 13 (7241) واللفظ له، ومسلم (1104)