الشقاوة

هل رأيت ـ يا بني ـ ذلك الطبيب الذي يمسك بيده السيجارة، وهو يحذر الناس من التدخين، أو ذلك الذي يكتب الدراسات العلمية عن أضرار الكحول، في نفس الوقت الذي لا يستطيع أن يكف نفسه عن تناوله؟
هكذا الأمر بالنسبة للشقاء.. فهو مكروه عند الجميع.. ولا أحد إلا ويتصور أنه ينفر منه، ويستعمل كل الوسائل حتى لا يصبح في زمرة الأشقياء.. لكن النفرة النفسية، أو التعبير عنها شيء، والواقع شيء آخر.
فأكثر من ينفرون من الشقاوة، أو يزعمون لأنفسهم أنهم لا يريدونها، تجدهم يضحون بكل شيء في سبيلها، بل يبذلون كل أموالهم وعرقهم ودمائهم في سبيل تحصيلها.
هم يفعلون مثل ذلك المدمن والمدخن تماما.. فالنفرة النفسية، والكلام الدال عليها، والفلسفة المرتبطة بها شيء.. والواقع شيء آخر.
أتدري ما سبب ذلك يا بني.. إنه يعود لأمرين.. كلاهما من الضرورات التي لا ينجو من الشقاوة إلا من تعلم علمهما.
أما أولهما.. فالعلم بحقيقة الشقاوة، ومصدرها، ومجالاتها.. فلا يفر من الشقاوة، من لا يعرفها.. لأنها قد تتزين أحيانا بملابس السعادة، ثم تخدع من ينبهر بصورتها، لتسقيه سمومها.
هي تفعل تماما مثلما فعل إبليس حين راح يزين لآدم عليه السلام الأكل من الشجرة، مع العلم أنها الشجرة الوحيدة التي قد يشقى من أكل منها.. أما سائر الأشجار، فكانت كل ثمارها نافعة صالحة.
لقد قال له الشيطان، وهو يدعوه للأكل منها: { يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]
لكنهما بمجرد أن أكلا من الشجرة التي توهما أنها شجرة السعادة علما بمقدار الغرور الذي حصل لهما.. فالشجرة لم تكن شجرة سعادة.. ولو كانت كذلك ما نهاهما الله عنها، وإنما كانت شجرة تُعري كل من أكل منها، وتجعله غير جدير بتلك الجنان، ولا بالنعيم الذي وفر فيها.
لقد أكلا منها على الرغم من التحذير الصريح الذي حذرهما الله منهما، فقد قال الله تعالى لآدم عليه السلام ناصحا: { يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117 – 119]
لكنه في غمرة الغفلة عن هذه النصيحة الإلهية، والمعارف المرتبطة بها وقع في المعلومات الخاطئة التي سربها له الشيطان، والتي جعلته يعطي الشجرة من الأوصاف ما لم يكن لها.
هذه القصة يا بني تتكرر كل حين.. ومع كل الناس.. ومع كل التعاليم الإلهية.. فالله تعالى الذي اختبر آدم عليه السلام بتلك الشجرة، اختبرنا بأشجار كثيرة نهانا عنها، وحذرنا من الاقتراب منها، وبين العواقب الخطيرة التي تنتظر من يفعل ذلك.
لذلك كان العلم بتلك الأشجار، وتصحيح المفاهيم حولها، هو الأساس الذي لا يمكن أن ينجو من الشقاوة إلا من بدأ به، واهتم له.
فالكثير من الأشجار المنهي عنها اختلطت مع الأشجار المباحة، أو المرغّب فيها؛ فأصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا، بفعل التلبيسات الإبليسية، والأوهام الشيطانية التي وسوس بها للبشر كما وسوس بها من قبل لأبيهم.
لذلك كان الرجوع لكلمات الله المقدسة، والبحث فيها، وفي القيم التي جاءت بها، هو الأساس الذي يفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والأشجار المنهي عنها، والأشجار المباحة أو المرغب فيها.
والوصول إلى التحقيق في ذلك يستدعي تطهير أرض النفس، حتى لا تختلط عليها إلهامات الملائكة بوساوس الشياطين.. فلا يمكن أن يهتدي للحق من عبد نفسه وعقله وهواه، ولم يسلم لربه، ولم يكن خاضعا له وللحقائق، يستقبلها من غير جدال، ولا صراع.
والأمر في ذلك ـ يا بني ـ يسير .. ولا يحتاج إلا إلى الصدق.. فالله تعالى نصب في كل عصر من يقوم له بالحجة، ويدل على الحقيقة، ويمثلها.. فمن رغب عنهم ضل، ومن اتبع غيرهم شقي باتباعه.
ويوم القيامة لا ينفعه تبرؤه ممن دعاه للشقاوة، كما لا ينفع من وقع في الإدمان اتهامه لمن سقاه الكأس الأولى.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 166، 167]
والوهم الذي يستعمله الشيطان وأتباعه لصرف الناس عن الحق، إيهامهم لهم أن الشقاوة في الحق، والسعادة في الباطل.. وهذا كله وهم.. فالله تعالى ما أنزل علينا شريعته لنشقى، وإنما أنزلها لنسعد.. قال تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1، 2]
بل أخبر القرآن الكريم أن الله كتب السعادة في الدنيا والآخرة لمن اتبع الحق، قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]
هذا هو السبب الأول ـ يا بني ـ للنفور من الشقاء، وهو العلم بأسبابه ومسالكه وسدنته.. حتى لا تختلط المسالك، فيسير النافر من الشقاء مع الأشقياء، ويحشر معهم، لتجانس صفاته مع صفاتهم.. ولذلك فإن علامة السعادة هي الكون مع السعداء { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء: 69]، وعلامة الشقاوة هي الكون مع الأشقياء، كما قال تعالى عن ذلك الذي يصيح في النار بسبب أصدقائه وقرنائه: { يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [الفرقان: 28، 29]
أما الأمر الثاني، وهو لا يقل عن الأول.. فهو العمل بالعلم، والخضوع له، وتسليم كل الجوارح واللطائف لمقتضياته.. فلا ينتفع بالدواء من اكتفى بقراءة مركباته وآثاره، دون أن يتيح له الفرصة للتغلغل بين خلاياه للقضاء على أدوائه.
وهكذا الدين.. فهو ليس علما فقط.. بل هو علم مع عمل.. ولا يمكن للعمل أن يتم من دون علم.. ولا يمكن للعلم أن يثمر من دون عمل.. وإلا أصبح الإنسان مثل ذلك الطبيب الذي يحذر من الإدمان، وهو مدمن.. لأنه لم يستطع أن يحول من معلوماته إلى أدوية يشربها، لتتغلغل في كل خلايا ذاته.
والعمل بالعلم ـ يا بني ـ لا يحتاج منك سوى الصدق مع الله.. فالله هو الذي يلهمك بأن تعمل، ويقويك على العمل، عندما يراك صادقا مع الحق، ومسلما له، ومتهما نفسك الأمارة بالسوء.
ولذلك سعد آدم بعد خروجه من الجنة، وعادت إليه تلك السكينة التي غادرته بعد الأكل من الشجرة، ذلك أنه راح يتهم نفسه بالتقصير، وراح يسأل الله أن يمنحه الفرص الجديدة حتى يصحح ما وقع فيه من أخطاء.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال حاكيا قوله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]
وهذه الكلمة هي دليل السعداء.. فالسعيد من لم يركن إلى نفسه، ولم يتوان معها، بل تراه دائما ينفر من هواها، ومن الوساوس التي يلقيها الشيطان عبرها..
وهو عندما يفعل ذلك، ينظر الله إليه بنظر الرحمة، ويزكي روحه، وتكون تزكية روحه مقدمة لقدرته على التحكم في نفسه، وفي أهوائها.. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقول في الدعاء: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) ([1])
وعلمنا حفيده الإمام زين العابدين أن نقول مبتهلين هذا الدعاء الرقيق الذي يشكو فيه الإمام من التقصير في حق الله: (إلهي مالي كلما قلت: قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك.. سيدي لعلك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلك رأيتني مستخفا بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضا عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك لم تحب أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني) ([2])
وبعد أن علمنا كيف نشكو لله تقصيرنا في حقه، وحزننا بسبب ذلك، علمنا أن نطلب منه أن يدلنا على الهداية لسبيله، حتى لا يسلب دعاة الشقاوة الإيمان والهداية من قلوبنا، فقال: (إلهي أنت أوسع فضلا وأعظم حلما من أن تقايسني بعملي، أو أن تستزلني بخطيئتي، وما أنا يا سيدي وما خطري، هبني بفضلك يا سيدي، وتصدق علي بعفوك وجللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك.. سيدي أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته، والجائع الذي أشبعته، والعطشان الذي أرويته، والعاري الذي كسوته، والفقير الذي أغنيته، والضعيف الذي قويته، والذليل الذي أعززته، والسقيم الذي شفيته، والسائل الذي أعطيته، والمذنب الذي سترته، والخاطئ الذي أقلته، القليل الذي كثرته، والمستضعف الذي نصرته، والطريد الذي آويته، فلك الحمد)
إلى آخر الدعاء الذي يعلمنا كيف نلجأ إلى
الله.. فلا ينجينا من الشقاوة، ومن دعاتها الكثيرين إلا اللجوء إلى الله، والتضرع
إليه، حتى تخنس عنا الشياطين التي لا تتوقف عن بث سمومها في نفوسنا الأمارة
بالسوء.
([1]) رواه مسلم (2722)
([2]) إقبال الأعمال: 1/165.