السعادة

السعادة

لا يمكن ـ يا بني ـ للحكيم أن يكون حكيما، وهو لا يعرف السعادة، ولا حقيقتها، ولا كيفية الحصول عليها.. فالسعادة هي الغاية العظمى التي من قصر في معرفتها، أو تاه عنها، ابتلي بالشقاء، وعاش محروما من أفضل ما خلق الله من النعم على عباده.

ولذلك كان العلم بها ليس مستحبا ولا فرضا فقط.. بل كان من الضرورات التي تميز العقلاء عن غيرهم.. فالعاقل هو الذي يبحث عن السعادة في محلها الصحيح، حتى لا تسلبه الشياطين عن نفسه؛ فتسقيه السموم المغلفة بغلاف السعادة، فيعيش شقيا، وإن ظن أو توهم أنه سعيد.

  فالأمر في ذلك يشبه تلك المخدرات التي يتناولها المدمن عليها؛ فيشعر للحظات بنشوتها ولذتها، ويعيش بعض السعادة بتلك النشوة، لكن سمومها سرعان ما ترتد عليه، فيتحول إلى شقاء عظيم لا يكاد يفلت منه إلا بتزويد جرعات السم.. وتزويد جرعات الشقاء.

والأمر يا بني ليس قاصرا على المخدرات.. بل على كل الذنوب والمعاصي التي لا دور لها سوى حجب حقيقة الإنسان عن قبلة السعادة الأبدية.. فيعيش بعض لحظات الوهم، ثم يشقى بعده الشقاء الذي لا يمكن لذاته تحمله.

وحتى تستوعب هذا ـ يا بني ـ فاعلم أن حقيقة الإنسان هي روحه، لا جسده، فالله ما خلق لنا هذا الجسد الذي نعيش به على هذه الأرض إلا لفترة محدودة، ولضرورة الابتلاء، فلذلك كان معرّضا لكل ألوان البلاء والفساد.. ونهاية البلاء هي تحوله إلى حالة لا يصلح معها لاستعمال الروح له.. وحينها يعود الإنسان من جديد إلى حقيقته المجردة.

فإن انشغل الإنسان بهذا الجسد، وراح يعطيه كل همومه، ويقضي له كل مآربه، وتاه عن روحه، وعن متطلباتها، شعر بألوان من المشاعر.. بعضها يشبه النشوة الوقتية المحدودة التي قد يسميها سعادة.. وبعضها الآخر يشبه الألم العظيم، والوحشة الشديدة التي يحاول سترها بالمزيد من جرعات النشوة المحدودة.

أما الأولى، فسبب لذتها ونشوتها هو كون السموم التي يتجرعها صاحبها ليست سموما مجردة، وإنما هي سموم تشبه السم المختلط بالعسل.. فهو ـ عند تناوله ـ لذيذ مثله مثل سائر العسل.. لكن عمله في الجسم لا يختلف عن عمل السموم..

وقد عبر القرآن الكريم عن تلك النشوة بكونها مجرد تزيين لضرورة الابتلاء، فمن انشغل بالتزيين والنشوة المرتبطة به سقط في بحر الشقاء، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [النمل: 4]، ثم بين المصير الذي يصيرون إليه بعد زوال ذلك التزيين ونشوته، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 5]

وسر ذلك يعود إلى أن أولئك الذي شقوا بعد سعادتهم، عاشوا حياتهم يطعمون أجسادهم، ويغفلون عن أرواحهم، ولذلك عندما تزول أجسادهم عنهم، ومعها كل تلك الارتباطات التي عقدوها مع البيئة التي عاشوا فيها، يشعرون بالشقاء والألم، لأنهم يقدمون على عالم جديد، لم يهيئوا له أنفسهم.

وأما الثانية.. فسببها أنه عند انطفاء تلك اللذة الوقتية، وعودة الإنسان إلى حقيقته، يشعر أن ما كان يتوهمه من سعادة، لم يكن حقيقة، وإنما كان سرابا، أو كذبة كبيرة كذبها على نفسه، أو خدعة كبيرة وقع فيها.

وهنا يفترق العقلاء.. فالذين يدركون ذلك، يتركون الأوهام والسراب، ويبحثون عن الحقائق.. وأما غيرهم، وما أكثرهم، فيذهبون إلى السراب يستزيدون منه، وهم يتوهمون أنه قد يتحول إلى ماء.. ولن يتحول أبدا.

أظن أنك تطلب مني ما تعودت أن تطلبه من ضرب الأمثلة، ولك ذلك..

ولعل أحسن الأمثلة على ذلك، عالم جليل عاش في قرون سابقة، وأتيحت له كل أسباب الجاه والسلطان، وفي وقت مبكر من عمره.. لكنه شعر بعد فترة أن هذا الطريق، وإن كان لذيذا، لكن لذته وقتية ومحدودة، وقد تنتهي به إلى الشقاء الأبدي؛ فلذلك راح يستعمل كل الوسائل في الحصول على السعادة الحقيقية إلى أن وجدها.

لقد عبر عن نفسه، فقال: (كان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله، قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق. ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم – فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة.. ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال) ([1])

وبعد ذلك التفكير قرر بأن يسلك السبيل الذي تطلبه السعادة الحقيقية، ولو بالتخلي عن السبل التي تحققها السعادة الوهمية، وقد حقق الله له ما أراد، فوصل إلى كل ما يبتغيه من تلك السعادة، ولم يخسر معها تلك السعادة المحدودة المؤقتة، لأن الله تعالى بكرمه، يعوض عباده كل ما تركه من أجله.

وهكذا يا بني فعل أولئك السحرة الذين ذكرهم القرآن الكريم؛ فقد كانوا يعيشون في بلاط فرعون منعمين بكل أنواع النعيم الحسي، لكنهم عندما اكتشفوا منبع السعادة الحقيقية الدائمة هرعوا إليها، وتركوا تلك السموم التي كانوا يتناولونها.

وهكذا يا بني فعل كل أتباع الأنبياء الذين نشروا بالمناشير، وعلقت رؤوسهم على الرماح، وصلبت أجسادهم على الصلبان.. نعم ربما يكونون قد فقدوا بعض نشوة الجسد.. لكنهم نعموا بالسعادة الأبدية، تلك التي وصفها الله تعالى، فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 169 – 171]

قارن هؤلاء يا بني بأولئك الذين استعجلوا.. فراحوا يتوهمون أن السعادة في تلك الأموال التي يكسبونها، أو القصور التي يبنونها، أو اللذات التي يتجرعونها، والتي سرعان ما يرتد عليهم سمها، ليسقيهم كل ألوان الشقاء.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، ليكون عبرة للعقلاء، فقال: { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 ـ 207]

فتلك المتع المحدودة التي تمتعوا بها لسنين معدودة، لا تفيدهم شيئا، ولا تغني عنهم عندما يعودون إلى حقيقتهم، فيجدونها مملوءة بالكدورات، ومستعدة لكل ألوان العذاب.

لا تحسب ـ يا بني ـ أن العذاب الذي يسلط عليهم يكون من طرف خارجي.. كلا.. بل إن أرواحهم هي التي تعذب.. لأن الروح نفخة من الله .. وهي لا تسعد إلا بلقاء الله والتواصل معه ومعرفته.. فمن حرم روحه من هذه النعمة العظمى، والسعادة الكبرى، شقيت في الدنيا قبل الآخرة.

بل إنك يا بني لو تأملت كل مطالب أولئك الغافلين لوجدتها أنهم في حقيقتهم يبحثون عن الله.. ولكنهم يتيهون عنه بتلك الأصنام التي يعبدونها من دونه..

فهم يبحثون عن الخلود الأبدي.. وليس ذلك إلا لله، وبالله، ومع الله.. فكل ما عداه وهم وسراب.. وهم يبحثون عن الراحة والسلام والطمأنينة، وليس ذلك إلا في صحبة الله..

وهكذا، فإنك لو تأملت كل شيء وجدته عند الله.. ولذلك كانت السعادة في أن تكون مع الله، وفي كل الأوقات والأحوال..

وقد روي أن معروفا الكرخي سئل عن الهمة التي دفعته إلى الإرادة والمجاهدة والتبتل، فسكت معروف، ليترك للسائل مجالا للتخمين، قال السائل: ذكر الموت، فقال معروف: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: (وأي شيء هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا)

لقد ذكر الله تعالى ذلك، وبشر به، فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

وذكر الطمأنينة التي يجدها المؤمنون في صحبة الله، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]

وذكر المصير السعيد الذي يصيرون إليه، فقال مبينا ما تقوله الملائكة للنفوس التي عاشت في صحبة الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30]

هذه يا بني هي السعادة الحقيقية.. وهي سعادة عبر عنها كل من وجدها وذاقها.. ومما يدلك على كونها الأكمل أن أكثر من ذاقوا هذا النوع من السعادة ذاقوا قبلها تلك السعادة الوهمية، وقد تبين لهم مدى الفرق الكبير بينهما.

لقد حدث بعضهم قال: وخرجت أنا وإبراهيم بن أدهم، وأبو يوسف الغسولي، وأبو عبد الله السنجاري، نريد الإسكندرية فمررنا بنهر يقال له نهر الأردن فقعدنا تستريح وكان مع أبي يوسف كسيرات يابسات، فألقاها بين أيدينا فأكلناها وحمدنا الله عز وجل، فقمت أسعى أتناول ماء لإبراهيم فبادر إبراهيم فدخل النهر حتى بلغ الماء إلى ركبتيه. فقال بكفيه في الماء فملأهما ثم قال: بسم الله، وشرب الماء ثم قال: الحمد لله، ثم إنه خرج من النهر فمد رجليه ثم قال: (يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيام الحياة)، فقلت: يا أبا إسحاق طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم. فتبسم وقال: (من أين لك هذا الكلام؟)([2])

لقد كان هذا الرجل الذي تحدث بهذه الكلمات من أصحاب الجاه والمال والسلطان، ولكنه عرف أن السعادة الحقيقية في صحبة الله..

وقد قال آخر معبرا عن ذلك شعرا:

كان يسبى القلب في كل ليله ثمانون … بل تسعون نفساً وأَرجح

يهيم بهذا ثم يأْلف غيره … ويسلوهم من فوره حين يصبح

وقد كان قلبي ضائعاً قبل حبكم … فكان بحب الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبي هواك أَجابه … فلست أَراه عن خبائك يبرح

حرمت الأماني منك إِن كنت كاذباً … وإِن كنت في الدنيا بغيرك أَفرح

وإِن كان شيء في الوجود سواكم … يقرَّ به القلب الجريح ويفرح

إِذا لعبت أَيدى الهوى بمحبكم … فليس له عن بابكم متزحزح

فإِن أَدركته غربة عن دياركم … فحبكم بين الحشا ليس يبرح

وكم مشتر في الخلق قد سام قلبه … فلم يره إِلا لحبك يصلح

هوى غيركم نار تلظى ومحبس … وحبكم الفردوس أَو هو أَفسح

فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم … ويا رحمة مما يجول ويكدح


([1])  المنقذ من الضلال (ص: 173)

([2])  صفة الصفوة (2/ 335)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *