الذلة

أعلم ـ يا بني ـ أنك كنت تنوي أن تسألني عن سر اعتبار الذلة وصفا من أوصاف المؤمنين، مع كونها ـ حسب ما يبدو ـ وصفا قبيحا لا يليق بالمؤمن، ولا غير المؤمن.
وسأجيبك على ذلك، لا وفق ما يريده عقلك وعقول كل الناس فقط، بل وفق ما تريده الحقيقة نفسها.
فالذلة يا بني ليست وصفا قبيحا مطلقا، وإنما قبحها يرتبط بالجهة التي وجهت لها.. فإن وضعت في محلها الصحيح، واستقبلت بها الجهة التي هي أهلها كانت وصفا صحيحا سليما، بل وصفا كريما طيبا، يميز الصالحين عن غيرهم.
ذلك أنها تدل في أصل وضعها على الخضوع والاستكانة واللّين، والذي قد يكون بسيطا قاصرا، فيسمى تواضعا، وقد يزيد إلى درجات عالية، فيسمى ذلة، أو قد يراه الناس كذلك.
وهي بهذا الوصف لا تمدح، ولا تذم، ولكن ينظر إلى الجهة التي صرفت إليها تلك الاستكانة واللين، فإن كانت جديرة بذلك كان الوصف مدحا، وإن وجهت لغير أهلها كان الوصف ذما.
وحتى أقرّب لك هذا أعود إلى اللغة نفسها، والتي استعملت هذه الكلمة للدلالة على الحس والمعنى.. فهم يذكرون أن الأرض العزيزة هي الأرض الصّلبة الشّديدة، والأرض الذليلة هي الأرض اللينة السهلة([1]).
وأنت ترى أن الوصف المرتبط بكلا الأرضين لا يحمل مدحا ولا ذما.. ذلك أن الأرض الصلبة نحتاج إليها لبناء المساكن القوية، أو الطرق الصالحة، أو غيرها.. والأرض الذليلة نحتاج إليها في الزراعة.. فلولا ذلها ما قبلت الزرع، ولا أنبتته.
ولهذا ذكر الله تعالى أن من نعمه على خلقه تذليل ما يحتاجونه من مرافق لييسر لهم التعامل معها، فقد قال تعالى عن الأنعام، وتذليلها في مصلحة الإنسان: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 71 – 73]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن الله تعالى كان قادرا على أن يجعل كل الحيوانات صاحبة عزة وأنفة كالأسود والنمور وغيرها من الحيوانات المتوحشة، لكنه رحم عباده بتلك الحيوانات الأليفة الذليلة لهم، ليتمكنوا من الاستفادة منها.
وهكذا وصف الله تعالى فاكهة الجنة ونعيمها بتذليله لأهلها ، فقال: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14]، وهذا يعني أن توفر النعمة وحدها لا يكفي، ما لم تكن مذللة ميسرة يمكن الحصول عليها.
ولهذا فإن الله تعالى عندما أمر الأبناء بمقابلة رحمة الوالدين وتضحيتهما بالذل، كان يقصد هذا المعنى، فقد قال تعالى: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 24]
ذلك أن الوالدين لا يمكن أن يربيا أو يوجها أو يعطيا ثمرة تجاربهما للأولاد إلا بعد أن يكون فيهم من اليسر والسهولة والتواضع والاستكانة ما يتمكنون به من ذلك.. ولذلك كان الذل لهما في محله الصحيح.. فهم لا يستثمرون تلك الذلة إلا في مصلحة الأولاد، بحكم الفطرة التي فطروا عليها.
وهكذا كانت الذلة للمعلم والأستاذ والمربي، في محلها الصحيح، لأنها تعطيه الفرصة لأن يلقي ثمرة علومه لتلميذه، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس، فقال: (ذللت طالبا، فعززت مطلوبا ) ([2])
وأشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
العلم حرب للفتى المتعالي … كالسيل حرب للمكان العالي
بل أشار إلى ذلك القرآن الكريم عندما أخبر أن حقائق العلم لا تصل إلا لمن توفرت فيهم هذه الصفة، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37]
ولذلك، فإن أولئك المعترضين المجادلين الذين يقابلون الحقائق بالتكبر، لن ينالوا شيئا منها، فالحقائق عزيزة، ولا يستقبلها إلا من كان فيهم من اللين والسهولة ما ييسر تلقيها وقبولها.
لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، وبين سببه، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 – 206]
فالله تعالى ذكر في هذه الآيات السبب في فساد هذا المستكبر.. وهو تكبره على الحق، واستعلاؤه على الناصحين، بل استعلاؤه على الله.. ولذلك كانت عاقبته هي الهوان العظيم والذلة الكبرى.
وفي مقابل هذا العتل الجواظ المستكبر وصف الله المؤمنين بالذلة بعضهم لبعض، ذلك أنهم لا يحملون في قلوبهم أي كبر أو استعلاء، بل يلينون للحق وأهله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]
ولذلك كانت الذلة لله أعظم صفات المؤمنين، وهي أشرف مراتبهم وأكرمها.. فالله تعالى هو الرحيم اللطيف بعباده.. ولذلك كانت الذلة له السبيل الوحيد لاجتناء ثمار أسمائه الحسنى.
فالذي يظهر بمظهر الفقر لله، ستمطر عليه صدقات الله التي لا حدود لها.. كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]
والذي لا يفعل ذلك، ويظهر بمظهر المستغني عن الله، فإن الله تعالى لن يمن عليه من فضله، وكيف يمن عليه، وهو من حرم نفسه من التعرض لصدقات الله، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]
ولهذا أمرنا الله تعالى بالرجوع إليه كل حين، وأخبر أنه ينزل علينا من البلاء ما يجعلنا نحتاج إلى ذلك التضرع والتذلل بين يديه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]
فهاتان الآيتان الكريمتان تبينان عواقب المستكبرين على الله، أولئك الذي استقبلوا أمواج البلاء بالتعنت، لا بالتضرع، ولذلك كان جزاؤهم مضاعفة البلاء، والوقوع في الذلة للخلق الذين يسومونهم الخسف.
وقد ضرب الله تعالى المثال على ذلك باليهود الذي أنفوا من أن يذلوا لله، فوقعوا في الذلة لخلقه، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]
فهؤلاء الذين استكبروا على الله وعلى أنبيائه، بل راحوا يقتلونهم، عوقبوا من جنس عملهم، حيث ضربت عليهم الذلة والهوان، والتعرض لكل أصناف القتل والتشريد.
وضرب مثالا آخر لهم عن ذلك العز الذي وفره الله في فترة تيههم، لكنهم راحوا يتكبرون عنه، فعوقبوا بالهوان والذلة، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة: 61]
وهكذا ذكر عاقبة تكبرهم على عبادة الله، وسوء ظنهم به، والذي جعلهم يذلون لعبادة العجل، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]
وهكذا، فإن عقوبة كل من يعرض عن التذلل لله، أن يذل لغيره.. وأن يسقيه ذلك الغير كل أصناف الهوان، في مقابل تلك العزة التي يكرم الله بها من ذل له.. فالذل لله عز.. والتكبر على الله ذل.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، وبين المنازل العظيمة التي ينالها أولئك الذين لانوا لله، وسلموا له، واستكانوا بين يديه، وقضوا حياتهم أذلة على بابه، فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [يونس: 26]
وفي مقابلهم ذكر أولئك الذين أبوا السجود لله، واعتبروه ذلة لا تليق بمقامهم، ولا بعزتهم، ولا بكرامتهم، فعاشوا حياتهم ممتلئين بالذلة، ثم انتهوا إلى المصير الذين يصير إليه كل المستكبرين على الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27]
ووصف خروجهم إلى المعاد، وإلى الدار الأبدية، فقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج: 43، 44]
ووصف عدم قدرتهم على السجود لله في تلك المواقف بعد أن استكبروا على السجود له في الدنيا، فقال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42- 43]
ولهذا كله تحتاج يا بني للتفريق بين الذلة المحمودة،
وهي الذلة للحق وأهله.. والذلة المذمومة، وهي الذلة للباطل وأهله.. فمن ذل للحق عز،
وارتقى إلى كل منابر الكمال والجمال والعلو.. ومن ذل للباطل أذاقه الباطل الذي ذل
له كل ألوان الهوان في الدنيا والآخر وفي حياته جميعا.
([1]) مقاييس اللغة (2/ 345)
([2]) إحياء علوم الدين (1/ 9)